الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

المعري.. القديس المؤدلج شعراً

المعري.. القديس المؤدلج شعراً
7 مايو 2014 20:05
كأنك النسر شموخ، كأنك الجذر رسوخ، أنت من الشعاع تنسل خيطاً، فتسطو على القلب تاركاً في أحشاء الكون ضجيج العقل، وانثيالات المعنى.. أنت.. أنت مثل رمية قهرت عمر التقاعس، لما أيقنت أنك اليقظ المتعظ من كبوات ونكبات. كأنك الوجد المتأجج في تلافيف المراحل، المتقصي جذور الجملة الفعلية، الرابض في غضون العبارة، الساهر على حياكة القصيدة، بإبرة الشوق القديم.. كأنك الحُلم الناهض من ريعان الاشتياقات، السابر حدود الغوص في عمق الكلمة، كأنك الحرقة تسهب في كي الفؤاد وتساور عن وعد وعهد، وتثابر بجلجلة نحو غاياتك المؤجلة، أنت سيدي مساحة في الوعي، أنت واحة في الانتماء إلى طيور ما حلقت ترفاً، والأجنحة تراوغ بهفهفات مذهلة، تغسل جفون اللاهين بنداوة السموات وعبق الأرض.. أنت شيء غير الأشياء الرتيبة، أنت بُعد من أبعاد الفضاء المدهشة، ولكتلة الألم جمرات، توقد سبات المواقد البائسة. المؤدلج بالضياء أنت مسعر الزمن، وموقد يثير كسل القناديل المطفأة، أنت لنخلة الوطن نفرة العراجين، واهتزاز السعفات ساعة نهوض الريح من خضم الزلزلة.. أنت سيدي لا مثلك ولا شبيهك إلاك، لأنك من تلك الأفلاك، من ذلك النهار المبهر، المؤدلج بالضياء، أنت سيدي لا شيء في وجهك إلا وجهك وعيناك، نجمتان ترقصان في حفل البهجة الأبدية.. أنت في الأبد، خلود النجود، واحتفال القصيدة بمولد الأقمار.. في الوقت المستقطع من النهار، في الزمن الهارب من مخالب الليل، تقف وحدك عند ناصية الفكرة، ترتب أثاث القلب، وتجلي عن سجادة الرأس غبار ما عرفته الخيول المرتعشة، وفي اللحظة المتطورة من حلقات الزمن تكون أنت، لا عنترة بن شداد ولا زرقاء اليمامة، لكنك مبتسم النجوم، حين تكون النجوم ملاقط تقتفي أثر الأشعة اللاهية في الشغب.. أنت سيدي، نهر ونحر وسِحر، وفخر ودهر، وسَحر، وقدر يفضي بقدرته نحو تلاشي الكائنات العبثية.. أنت منطقة ما بين القطبين، أنت شامة ما بين الحاجبين، أنت وشم الطرقات ساعة الذهول والوعي المؤجل. أنت القديس والكاهن، أنت القديم الراهن، أنت المتحرك الساكن في سويداء النجم، في تجاويف الوعي، أنت الثابت المفوض بالخلق، أنت الجذر المتألق وهجاً، تقض مضاجع الكلمة، فتلهمها وعي التأثير والأثر أنت، القابع في حضن المعنى، تؤسس لجمهورية العطاء أفلاطونية جديدة، والآلهة جند مجندة، تحث الخطى نحوك، أنت الواعد الساعد، السائد. أنت في نفوذك، محيط يطوق الكون، بأحلام البسطاء، تختزل الزمان بقصيدة فتهديك الوهج، تمنحك القدرة الفائقة على تفجير العبارة. العقل المثال في البدء كان الشاعر غاوياً والبدء كان الشاعر رسولاً، وكان هطولاً وبتولاً.. في البدء كان الشاعر في الملحمة، أعتى من خلاخيل جلجامش، وأعظم من كوميديا دانتي، وأفخم من رسالة الغفران.. في البدء كان الشاعر وحياً يوحى، وسحراً مستوحى من تلابيب المكان، والقبيلة والفصيلة والفضيلة.. في البدء عرف الشاعر كيف تمكن أفلاطون من تفسير الجسد على أنه مقبرة مؤقتة للروح، فأسرجت جيادك وحلقت بأجنحة النسور، محدقاً نحو القمم الشم، وقلت للناس جميعاً كما قال البوذي العظيم.. إذا كان العقل مستبداً، فالصحوة مستحيلة.. في البدء تشوقت للحياة، فبحت بلسان جاك روسو قائلاً: الأفكار المسبقة مفسدة للعقل.. عقلك هذا سيدي الذي أوجد الروح في القصيدة، فانهالت وجداً كونياً، تخاطب الكائنات، من سحيق لا من علٍ، عقلك هذا المسور بأحلام اليقظين، النابتين في ترائب القصيدة.. عقلك هذا المثال والموال، والسؤال، المتدحرج من فوق نهد ومهد، يتكون فعلاً فلسفياً في ساعة صحوة، تغدق الكون بشعاع ويراع، ولاشك أنك تمارس حلمك، ليس كعادة بديهية، بل إنك في الحلم تنحت الحرف على جدران من تحمل، وتمضي برؤاك كالنبي، ترتل القصيدة بأناة وتؤدة، ورغم ارتعاشة أطراف الكون، إلا أنك لا تخض ولا ترض ولا تمض، إنك في المعنى الأكيد مثل النخلة، تهز الجذع ليتساقط رطب الحلم، جنياً، سخياً، رضياً عطياً، عفياً، نقياً صفياً.. أنت سيدي لا شيء إلاك ولولاك، لكان الشعر شرشف يلحف مرضى القلب، ويملأ المكان برائحة المرض.. أنت سيدي نسخة من نفخة السماء في جسد الحياة، أنت كتلة رحمة أحاطت بسائل الكون، فاستلهمت الأرض كينونتها.. أنت الجزالة في عطاء السماء، وأنت رقصة الملائكة ساعة إنجاز القصيدة. يسألونك عن الروح، والجروح، تقاسيم في دروب معبدة بالأسئلة، يسألونك عن وحي في القصيدة عن عبارة مبهمة لا يفهمها إلا الأوابون، والذين في عيونهم سغب الكلمة، يسألونك عن معرة المعري، ومشهده الصخري المهدم، في غفلة الإخفاق. سجين المحبسين يسألونك ويسألونك، وأنت المحفور، ما بين السلاسل والعمى، ما بين الشعاب والاصطفافات المرعبة، وأنت.. أنت سجين المحبسين، تنام الآن في مرقد تحيطه الشظايا والخلايا، والنوايا والرزايا، والغواية والوشاية وزنادقة القرن الواحد والعشرين.. أنت سيدي، العاكف على قراءة آخر ملحمة، جزت عنق الحقيقة واستباحت الهوى العذري، منحدرة من جبال الوعي، وصوفية عتيدة، جاهرت في خلق الأنا صافية متعافية من شرور ونذور، وما شابه ذلك من أحلام أشبه بالوهم، لا تسمن ناقة ولا تغني جواد.. أنت سيدي في المعرة وحيداً والمشهد يطوق أعناق الناس بالأسى، والبؤس الفظيع، أنت في المعرة تستدعي القصيدة من جديد، ولا جديد سيدي، سوى اللثم على زناد أحمق جبان. أنت سيدي، نقطة الوصل ما بين الوعي واللاوعي، أنت مثل بوذا، تقطع أوصاله مبادئ ما بعد الفراغ، وأحلام الفردوس المزعومة. أنت.. المتصوف في محاريب القصيدة، طافت على رفاتك جحافل وقوافل، فاستباحت وناحت، وضربت صدور المهزلة، متكافئة على الخذلان والفقدان، متجاسرة تحث الخطى باتجاه نوافل ما بعد الفشل الذريع، محتدمة كأنها النيران العصبية، محتشمة بدخان الثارات القديمة، وكأن داحس والغبراء تطوف نجود المكان، بخفة العاهرات والبغي.. أنت سيدي، وحدك الآن تسأل عن امرأة، باتت في العراء تسأل عن لحاف لطفل، وستر لشرف الحرائر، أنت سيدي وحدك تضحك بسخرية العباقرة، على حرب ضروس، تنهش جسد الحقيقة، وتمارس عهر السياسات الماكرة، والعبثية يا سيدي، تمضي قدماً حتى كاد يبكي «نيتشة» حسرة على براءة الصيرورة، ويزعق فرويد من فجور اللا وعي، واحتدام العدم. أنت سيدي، من جاز له أن يسخط، وأن يقول للسقوط الأخير كفى مهزلة.. أنت سيدي بعد أن أغلقت نوافذ القصيدة صار الشعر لاهوتياً، يقرأ على توابيت الموتى ويلف الجرحى بدمائهم المتخثرة.. أنت سيدي المجبول على الحب، تئن الآن حيث المدى يكفهر ويسهر على توديع الحقيقة، ملوحاً للغدر بأصبع النذير والتحذير.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©