الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

بطل نادر من هذا الزمان!

بطل نادر من هذا الزمان!
7 مايو 2014 19:35
أراد المخرج الأميركي بيل سيجيل عبر مشهدين صادمين اختارهما من الأرشيف تلخيص حياة الملاكم محمد علي: الأول بالأسود والأبيض ويعود إلى عام 1968 عندما أجرى البرنامج البريطاني ”آيمون أندرو شو” لقاءً مع الملاكم محمد علي على الهواء من مدينة شيكاغو أصر فيه الأخير على وصف نفسه بالداعية لمبادئ الإسلام وكملاكم محترف في نفس الوقت، ما أثار حفيظة ضيفه الصحفي ديفيد سوكانيد الذي لم يتردد أمام الكاميرات من وصفه ”بالرجل العار على أمته والنقطة السوداء في تاريخ الملاكمة وأنه من أرباب السوابق قضى فترة في السجن وسيعود اليه ثانية”. المشهد الثاني بالألوان يظهر فيه محمد علي، بعد أكثر من ثلاثة عقود، في البيت الأبيض أثناء تسلمه وسام السلام من الرئيس السابق جورج دبليو بوش الذي قال في كلمته بالمناسبة “إنه أعظم رياضي في كل العصور فاز بأكبر البطولات وصار ملهماً للشعب الأميركي الذي يفخر أن يكون من بين أبنائه بطلاً اسمه محمد علي”. مشهدان سيعمل الوثائقي الجديد “محاكمات محمد علي” على تفكيكهما وإعادة تشكيلهما عبر قراءة خاصة لجانب مهم يتعلق بحياة البطل المثير للجدل لم تتطرق له بإمعان أفلام أنجزت عن حياته من بينها فيلم البريطاني ستيفن فريزر “أعظم معارك محمد علي” والروائي الطويل “علي” بطولة ويل سميث وإخراج مايكل مان. فالاثنان لم يتعمقا في توثيق وتحليل علاقة الملاكم بالإسلام وبالحركات الإسلامية الأميركية ومعرفة مقدار تأثيرهما على مسار حياته ناهيك عن رسم المشهد الاجتماعي المتشابك، بين السود الأفارقة أنفسهم من جهة وبينهم وبين البيض من جهة أخرى، في بلد له أرث طويل في الممارسات العنصرية. طوال حياته وحتى في المشهدين المذكورين واجه محمد علي أحكاماً، نطق بها آخرون بحقه، ليسوا هؤلاء بالضرورة قضاة ولكن دلالاتهم الرمزية تضعهم في موضع الحاكم وعلي في موضع المتهم ليغدو مشهده الحياتي أقرب الى محكمة دائمة وبالتالي فـ”محاكم محمد علي” هي تعبيرية في الأساس يراد بها الدلالة على الضغط النفسي الهائل الذي كان يتعرض له البطل طيلة حياته. صحيح أنه مثل بقية السود الأفارقة الأميركان الذين عليهم البرهنة طيلة حياتهم بأنهم أُناس أسوياء ومستقيمون، حتى يرضى عنهم المجتمع الحاضن، إلا أن تميزه الأبرز عنهم يكمن في قدراته وطموحاته التي صنعت منه بطلاً لم تعرف الملاكمة في تاريخها مثله، وعن هذا الجانب من شخصيته حشد سيجيل في فيلمه شهوداً من المقربين له ومن الذين عايشوه ليتحدثوا عن كل مرحلة من حياته مقرونة بتداخلات بصرية إضافية لافتة عمادها أرشيف ضخم من الوثائق والصحف والتسجيلات التلفزيونية القديمة أستخدمها بطريقة توحي بأنها هي من تقود حديث الشاهد لا العكس، ما وفر سلاسة سردية جعلت منه واحداً من أمتع الأفلام الوثائقية وعلى مستوى الموضوع وعمقه فيبدو فيلم “علي” الروائي مسطحاً بالمقارنة به رغم القبول النقدي الذي حصل عليه حينها. لا يرتكن “محاكمات محمد علي” على التسلسل الزمني ويحذف لهذا جزءًا كبيراً من طفولته مع أهمية البناء عليها، ربما يعود السبب في ذلك كونها قد أشبعت بحثاً من قبل وليس ثمة أشياء مهمة لديه يمكن اضافتها لهذا ركز بدلاً عنها على بدايته كملاكم وطموحه في أن يصبح بطلاً في مقتبل العمر، وهذا ما دفع غوردن بي. دافيدسون، الرجل الوحيد المتبقي من مؤسسة “سبونسورنغ غروب” والتي كانت من بين أهدافها رعاية المواهب الرياضية الشابة وتقديمها عبر الاتفاق معها على عقود عمل تمكن الموهوبين منهم من الدخول الى النظام الاحتراقي الى التلميح في شهادته الى الاندفاع اللافت لكاسيوس كلاي وثقته بنفسه في أن يصبح بطلاً للعالم في الملاكمة قبل تجاوزه سن العشرين. لم يصدق طموحه ولكنه انتبه الى حبه الكبير للملاكمة أكثر من حبه للشهرة والمال ويكشف أن العقد الأول الذي وقعته المجموعة معه تضمن إلزامه دفع ما يصل الى تسعين بالمئة من قيمته الى دائرة الضرائب المحلية وبالتالي لا يتبقى له منه إلا القليل. لم يهتم بالمال قدر اهتمامه في أن يصبح بطلاً وبأسرع وقت. سيُبقي صانع الفيلم دافيدسون معه لفترات طويلة من شريطه لأهمية شهاداته والذي سيعترف لاحقاً بأنه لم يصدق أن يصبح هذا الشاب ملاكماً نادراً، ولم يتوقع له مطلقاً أن يواجه مشاكل سياسية كبيرة بسبب إسلامه ورفضه الخدمة العسكرية. سيشكل موقفه من حرب فيتنام وقبلها إشهار إسلامه أبرز العلامات التي يعالجها فيلم “محاكم محمد علي”. وإذا كان موقفه من الخدمة العسكرية قد غطى على غيرها من مواقف لصلته المباشرة بالسياسة ولقوة ردود الفعل حولها الى درجة وصلت بالحكم عليه ابتداءً بخمس سنوات سجن وحرمانه من اللعب في الولايات المتحدة وخارجها فإن علاقته بالإسلام لم تحظ سينمائياً بذات القدر إلا على يد سيجيل الذي خصص لها أكثر من نصف وقت شريطه، ليشبعه بحثاً ويقدم أيضاً حقائق جديدة لم يعرفها العالم كفاية من قبل ولهذا السبب كثف من شهادات الدعاة الإسلاميين ليُكوَّن من خلالها صورة شبه كاملة عن العلاقة بينه وبين الحركات الإسلامية وتشعباتها التي وصلت الى مناقشة المعنى التاريخي والسياسي لتلك الحركات في الولايات المتحدة الأميركية وبشكل خاص خلال النصف الثاني من القرن المنصرم. في مدخل عام يُحيّل الداعية الإسلامي الأميركي عبد الله محمود. كما يظهر في شريط سجل بداية الستينات أسباب انتشار الإسلام بين السود الأمريكان الى قيمه الإنسانية، فالدعوة الى الخير والمساواة وتجنب الناس وبشكل الخاص الأطفال تعاطي المخدرات والمسكرات والابتعاد عن عالم الجريمة وجد فيها السود اجتناباً للوقوع في مصاعب ومشاكل خطيرة اختبروها كثيراً على جلودهم. لقد عرف كاسيوس كلاي معنى التمييز العنصري منذ طفولته وكان شديد الحساسية من كلمة “زنجي”، وستغدو المطالبة بحذفها بوصفها تعبيراً عن الفصل العنصري بين البيض والسود عنصراً مشجعاً لاقترابه من الداعية الإسلامي إليجاه محمد ومن السياسي البارز مالكولمX ، وسيعترف محمد لاحقاً “عندما زرت ميامي والتقيت مسلمين شعرت بأن هذا الدين هو ما كنت أبحث عنه طيلة حياتي”. عن علاقة كاسيوس كلاي بالشخصيتين البارزتين هناك الكثير من الخلاف الواضح يظهر في فيلمي “علي” ومنجز سيجيل. فالأول الروائي يُظهر مالكولم اكس صديقاً مرافقاً دائماً لكلاي قريباً جداً منه لا يتركه ملازماً له كظله في كل مكان حتى عند حلبة الملاكمة في حين يظهر الوثائقي قرباً أكثر بين كلاي وإليجاه محمد وللأخير الفضل في إعلان إسلامه بل يكشف أن كلاي قد انتمى الى منظمته: “أمة الاسلام” ولاحقاً سيطلق عليه اسمه الجديد: محمد علي. أما عن الخلافات التي كانت بين الرجلين فيلمح لها مايكل مان في فيلمه “علي” قليلاً ويعطي انطباعاً بأن عملية تصفيته قد دبرت من المخابرات الأميركية التي أرادت الوقوع بين المسلمين أنفسهم. في “محاكمات محمد علي” ثمة توسيع للموضوع نابع من تطور مواقف محمد علي من المجتمع الأميركي القاسي والتي وجد في أفكار إليجاه حلولاً جيدة للمسلمين والسود عموماً، في حين بدت له أفكار مالكولم اكس وكأنها تريد الموازنة بين الإسلام وبقية المجتمع عبر إقناعهم بالاندماج فيه، وهذا ما رأى فيه الداعية أمراً صعباً غير قابل للتحقيق وسيعود محمد علي في مقابلات كثيرة ليكرره بل ويُنسب علانية إطلاق صفة “الشيطان الأبيض” الى إليجاه نفسه، وينقل عنه أيضاً بعد اغتيال مالكولم اكس بأنه طلب ترك الرجل وعدم المساس به رغم تصريحات علي وفي أكثر من مرة بأنه لا يقف في صفه. أما على مستوى الأفكار فقد ظل محمد علي مؤمناً بإسلامه مضحياً في سبيله بكل ما يملك لأنه رأى فيه “قوة توحد الزنوج”. سيتكرس الدفاع عن الإسلام سلوكاً عند محمد علي وسيجد في اسمه الجديد والدفاع المستميت عنه تعبيراً عما يريد توصيله الى المجتمع الأميركي. لا يركن الوثائقي الى إطالة زمنه بنقل مقاطع من نزالات محمد علي بل يقلصها الى أقصى حد وبدلاً عنها يركز على موضوع الاسم وماذا كان يعني له عبر نقل مقاطع من مبارزته على لقب بطل العالم بالوزن الثقيل أمام باترسون. لقد استهزأ الأخير باسمه ورفض مناداته به فقرر علي معاقبته. في تسجيلات واضحة ينقل كيف كان البطل يقرن كل لكمة لخصمه بسؤال “ماهو اسمي؟” أو يصرخ في وجهه “اسمي محمد علي!” وللمرة الأولى في تاريخ متابعتهم لمقابلاته سيرى الناس قساوة غير مألوفة لبطلهم مع خصمه المترنح، فهذه المرة أراد بها القول إن إسلامه مقرون باسمه وأن على الصحفيين والعالم كله أن يناديه به. يشبع الشريط الممتع والغني العلاقة النفسية بين الملاكم البطل واسمه بحثاً، ويقدم تحليلات متنوعة على معانيها ومن أجلها يراجع زيارة المتسيد الأبرز في تاريخ الملاكمة جولاته في أفريقيا والدول العربية والإسلامية ليتأكد بنفسه مقدار المعنى الضمني العميق لاسمه في هذه القارات البعيدة. لقد أحب الناس فيها الملاكمة بفضله وأحبوا بطلاً لها يحمل أسماءً يجلونها ويسمون أولادهم بأسمائها. لقد وجد الناس فيه أخاً لهم في الضفة الأخرى من الكرة الأرضية. في فيلم ماكيل مان “علي” تركيز سطحي على علاقات الملاكم العاطفية وبشكل خاص علاقته الرومانسية بزوجته خليلا كامانتشو علي، دون غور معمق في طبيعة الشخصية نفسها على عكس العمل الجديد الذي يكرس وقتاً ليقدم خاليلا كإنسانة لعبت دوراً مهماً في حياة محمد علي. شهادتها بحقه وتاريخها الموثق بتسجيلات يكشف عن امرأة واعية وربما سبق وعيها محمد علي نفسه ولها الفضل في موقفه من رفض الخدمة العسكرية في فيتنام والتي كاد أن يقع في حبائل “سبونسورنغ غروب” حينما حاولت إقناعه بالخدمة مقابل تدخلهم في قضائها كملاكم وليس كجندي!. قالت له بوضوح هذا فخ إذا دخلته لن تخرج منه سوى خاسراً، أما خسارات المال والسجن فاعتبرتها ثمناً لموقفه وهذا ما أكده أخوه في أكثر من مرة لدرجة بدت فيها خليلا نموذجاً للمرأة السوداء الواعية وكأفضل من يمثلها. يبدو جهد بيل سيجيل استثنائي رغم تركيزه على جانب واحد تقريباً، لأنه جعــل من نــص ســينمائي وثيقة تاريخية يمكن لمتصفحها الخروج بتصور واسع وإلمام بشخصية قيل عنها الكثير لكنها تظل مثيرة للجدل لأهميتها التي تتجاوز عالم الملاكمة الى عالم متناقض وقاسٍ الأبطال فيه، على شـاكلة محمد علي، قليلون جداً.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©