الثلاثاء 16 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

إنهيدوانا أول شاعرة في التاريخ

16 ديسمبر 2009 22:29
هي ـ حسب ما وصلنا حتى اليوم ـ أقدم صاحبة أسطورة تجمع ثلاثية الأنوثة والشعر والكهنوت. سيرة حياة غنية صنعتها أقدم شاعرة في التاريخ، هي إنهيدوانا ابنة الملك سركون الأكدي، الكاهنة السومرية الكبرى لأربعين عاما، عاشقة (أو زوجة) إنانا إله العشق، التي عاشت في السنوات 2300 قبل الميلاد، أي قبل حوالي 4300 عام. سيرة هذه المرأة المتعددة الأبعاد تأتي في قراءة تقدمها الأميركية بَتي دي شونك ميدر المحللة في مجال الدراسات النفسية اليونغية (كارل يونغ)، التي تدرس شخصية الشاعرة أساسا، لكنها تقدم دراسة معمقة عن إنانا. الدراسة تأتي لتكشف عن السياق التاريخي والديني والثقافي عبر بابين أساسيين وعدد من الفصول، تكشف خلالها قصة اكتشاف الشاعرة في العشرينات من القرن العشرين، وقصة حياتها وعلاقاتها مع الآلهة، ثم تدرس مجموعة كبيرة من قصائدها (تسابيحها وترانيمها)، وخصوصا للآلهة إنانا. سيرة ثلاثية الأبعاد تقدمها لنا المؤلفة، باحثة تاريخية وميثولوجية حينا، وجامعة للنصوص الشعرية وترجماتها حينا ثانيا، ومحللة نفسانيا وعاطفيا في كثير من الأحيان. فبعد تقديم السياق التاريخي الذي عاشت في أنهيدوانا، والظروف الاجتماعية والدينية السائدة في ذلك العهد، تبدأ المؤلفة بالبحث عن سر العلاقة بين الشاعرة وإنانا، ولماذا كانت الشاعرة تصر على رفعها لتكون في المرتبة الأعلى بين الآلهة. ومن خلال دراسة فاتنة تظهر الباحثة أن “وجود إنانا كان يتضمن نظاما مقدسا ومعنى علويا.. يستدل عليها من انتباهها الفائق لما يجري في العالم والناس الذين يعيشون فيه، عندما رفعت إنهيدوانا إنانا فوق الآلهة الأخرى، فلا بد أنها علقت أهمية كبرى على تصوير الوجود الإلهي هذا: نفخ الإلهي في الواقعي، غرس الإلهي في المادي”. وفي التعريف بإنانا تظهر لنا في أربعة تجليات أو جوانب منفصلة (ثلاثة منها تتلقى قرابين معينة)، فقد كانت إنانا تعبد كالآتي: إنانا الأميرة أو الأميرية (إنانا نون)، إنانا الصباحية (أود أو هود)، وإنانا المسائية (سيك). وتشير كل من الصباحية والمسائية إلى اقترانها مع نجمة الصبح والمساء فينوس (أو الزهرة). وعلى سبيل المثال فإنانا الأميرة تتقبل أنواعا من الحبوب والخبز والخمر ومنتجات الألبان والأغنام والخنازير، أما الصباحية فتتقبل الفضة والأغنام والحبوب، في حين تتقبل المسائية الصوف وأدوات النجار وغيرها من المواد الخام. ومن ملامح إنانا ما تقول المؤلفة إنه من سمات غير سومرية تحملها إنانا، وتستعين بشعر للشاعر إنهيدوانا تخاطب به الآلهة قائلة “أنت ترتدين الجلاليب/ جلاليب الآلهة/ الآلهة العتيقة جدا”، ثم إن لهذه الآلهة ملامح جبلية تختلف عن ملامح سكان سهول الرافدين، في إشارة ربما إلى الجبال الإيرانية، لكن هذا لا ينفي أبدا كونها عراقية في الصميم. ويأتي هذا في سياق الحديث عن تداخل الأساطير والميثولوجيات لدى الشعوب. الأهم من هذا كله هو ما تظهره سمات إنانا من خلال قصائد إنهيدوانا، إذ إنها تجمع الكثير من التناقضات، بل “الألوهية العراقية القديمة الوحيدة التي تحتوي شخصيتها تناقضات واضحة”، فهي من جهة إلهة الحب التي تستطيع اختيار عشيقها، ومن جهة أخرى محاربة “تنقض وتمضي كسهام المعركة”، وهو ما يخلق شخصية تسميها المؤلفة ذات تناقضات تزعزع على المستوى الكوني: “اعتقادنا بالنظم والمبادئ”. هذه التناقضات وسواها الكثير مما ينتج الإبداع والخلق، جعلت إنانا إلهة للإبداع والأسئلة والتأمل، وكانت هذه فرصة الشاعرة إنهيدوانا في جعل الإلهة محور إبداعها، فهذه الشاعرة هي “أول من أدرك اختبار العيش وتحديه من خلال الإخلاص لإنانا”. اللقاء والعلاقة بين الإلهة والشاعرة أنتجتا لنا الكثير من الشعر الذي بقي على مدى يقارب خمسة آلاف عام، هي التي تتابعها الباحثة الأميركية (لماذا ليست عراقية أو عربية حتى)؟ ومن هنا تبرز قيمة هذا الشعر الذي يعطي تصويرا حيا مشرقا لعبادة إلهة تحل في الطبيعة. فكتاباتها هي عبارة عن كنز للأفكار والممارسات التي من المحتمل أن تحمل ملامح معتقدات قديمة جدا. وربما كان لبروز إنهيدوانا بوصفها كاهنة كبرى في عصر تركزت فيه القوة للذكور، دور في اختيار الشاعرة أن ترفع آلهة أنثى إلى موقع بارز في البانثيون، إلهة تجمع بين القوة والرحمة في آن. ومن هنا يبدو اهتمام الباحثة باستعادة أول شاعرة في التاريخ مرتبطا بصعود وعي كوني جديد واهتمام بالغ بحقوق المرأة. ورغم أن شعر إنهيدوانا قد جرت غربلته من خلال مجتمع نام يهيمن عليه الذكور، إلا أن هذا الشعر يصف لب معتقدات العصور الحجرية الحديثة التي هيمنت عليها أديان الآلهات. شاعرة سومر تعكس في شعرها هذا تكاملها الروحي والشخصي، وتوثق إضافة إلى حياتها العاطفية الرائعة، الإخلاص الذي تبديه امرأة لإلهتها، فهي سيرة بليغة للتقرب والتزلف، وصلاة فريدة في قدمها، كما تصور روحانية تستند إلى تأمل امرأة تقدم معنى كاملا لأسس الأناث وشرعيتهن. وهي تعزز ذلك كله بوصف ما تسميه المؤلفة “الطريق الروحي.. وهو طريق للنساء يحيط بالحقيقة كلها” كما ترى، حيث تخاطب الشاعرة إنانا: “مريدات إنانا (النساء المحاربات) يؤدين عملا مشتركا/ إخلاصا وتقربا منك/ أيديهن تحترق بنار مطهرة”.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©