الثلاثاء 23 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

كائنات واسيني الأعرج الورقية

كائنات واسيني الأعرج الورقية
16 ديسمبر 2009 22:25
يبدو الروائي الجزائري واسيني الأعرج في روايته الأخيرة “أنثى السراب: في شهوة الحبر وفتنة الورق” مشغولا بفتنة الكتابة وسحرها بوصفها حاجة وجودية لإشباع جوعنا الأبدي للحياة لأن حياة واحدة نعيشها لا تكفي، كما يقول الروائي في رسالته إلى ابنته ريما في مقدمة الرواية، وكما يفصح عنوان الرواية الثاني عن ذلك مقيما اتصاله مع العنوان الأول على مستوى العلاقة الرمزية والدلالية بين المرأة والكتابة. الأمر الذي يكشف عن الوظيفة الاتصالية التي يقوم بها العنوان بوصفه يمثل جماع الوحدة الدلالية للرواية من خلال اختزاله لمضمونها الكلي وهواجسها على المستوى الكتابي دون أن يكون هناك إفصال بين المبنى والمعنى ما يجعله ينهض بوظيفة تعيين طبيعة العمل ويشكل بالتالي علامة، أو نصا صغيرا يحيل على النص الأكبر (الرواية) بحسب تعبير جينيت. عتبة القراءة تتعدد وظائف العنوان وتختلف تلك الوظائف باختلاف النقاد والرؤية المنهجية التي ينطلقون منها، حيث تأتي الوظيفة الإعلانية التي تتصل بالوظيفة الإيحائية عند جينيت أو الوظيفة الإيديولوجية كما يقول بارت، في مقدمة الوظائف التي ينهض بها العنوان باعتباره صلة الاتصال الأولى بين القارئ والعمل والذي يقوم بمهمة إكسابه معرفة بالعمل إضافة إلى تنظيم وتأويل تلك المعرفة. يتألف عنوان الرواية من عنوان رئيس هو أنثى السراب ما يوحي على مستوى البنية الدلالية بصورة امرأة الحلم أو المرأة التي تخدع البصر ويستيحل القبض عليها. وقد تألف العنوان على المستوى النحوي من جملة إسمية تتألف من خبر ومضاف يقوم الأخير بمهمة التعريف من خلال إضافة الخبر (أنثى) إلى المضاف إليه (السراب)، وبذا تعرَّف الأنثى هنا من خلال صفة السراب الملازمة لها والموحية بدلالاتها، بينما يشتمل العنوان في بنيته النحوية على الحذف بهدف خلق فجوة تولد الغموض وينتج عنها نوع من الإيهام. لكن الروائي لا يكتفي بهذا العنوان المتميز باقتصاده اللغوي الشديد ووظيفته الرمزية الموحية بل بضيف إليه عنوانا فرعيا يفصح في معناه عن طبيعة العلاقة بين الروائي والكتابة (في شهوة الحبر وفتنة الورق) وهو يتميز ببنيته الشعرية الموحية التي تجعله يتداخل مع الرؤية الشعرية لوظيفة اللغة، لأن العنوان كما يقول جون كوهين يمثل جزءا من التشكيل اللغوي للنص. وتظهر العلاقة بين العنوانين اللذين يتميزان ببنتيهما الشعرية ذات الوظيفة الإيحائية، من خلال الدور المحوري الذي تقومان به على صعيد العلاقة الجمالية والرمزية الدلالية مع العمل الروائي الذي تسمياه وتمنحاه هويته، حيث تأتي كلمة رواية التي تشير إلى جنس العمل كأداة ربط واتصال بين العنوانين بغية الإيحاء بمضمون العلاقة التكاملية بين العنوان الأول والعنوان الثاني على مستوى الدلالة الشمولية للعنوان والتي يمكن أن تسهم في تأويل العمل وفي أفق انتظار القارئ. المرأة/ الكتابة/ الحياة تنتمي هذه الرواية إلى ما يعرف بالرواية الذهنية، وهي تعتمد على أسلوب الرسالة التي تتحدث فيها بطلة الرواية أو مرآة الظل في روايات واسيني ليلى أو ليلي كما يسميها والدها عازف الكمان وشهيد الثورة الجزائرية فيما بعد عن علاقة الحب التي تربطها بواسيني من جهة، ومن جهة أخرى عن الصراع الذي تخوضه مع الشخصية الورقية مريم التي تسرق منها حضورها ووجودها. وعلى الرغم من استخدام الروائي لاسمه الصريح في هذه العلاقة بغية الإيحاء بواقعية الأحداث إلا أن تلك الشخصيات الثلاث وشخصية ياسين زوج ليلى تبقي شخصيات كتابية تعيش عالمها الروائي وسط بحثها المرهق عن حقيقة الكتابة والحياة والعلاقة بين الكتابة والحياة وفيهما ومعهما الذات التي تحاول أن تنتصر على خيباتها وشعورها بمحدوية وجودها بالكتابة والحب معا. يفتتح واسيني روايته برسالتين الأولى من واسيني إلى ليلى والثانية من ليلى التي لا وجود لها إلا في الكتب إلى واسيني، وبذلك يحاول أن يشير إلى أن وجود هذه الشخصية يتعين من خلال الكتابة، على ما بينها وبين الحياة من تشابه ما كما يعنون لرسالته إليها، كاشفا عن العلاقة بينه ككائن والأنثى كشخصية ورقية تغادر فراش الكلمات إلى أتون الحياة المحكومة بالفناء والموت. بينما تصرح ليلى في ندائها الأخير إليه بالتشابه الذي يجمع بينها وبينه حين تسكنه كائناته التي يصنعها ويجعل حياتها مزيجا من سيرة الذات وأحلامها ورغباتها المستحيلة وتوقها لتجاوز عدمها وشرطها المحدود على خلاف ما تحاول أن تصنعه شخصياته الروائية عندما تحاول أن تنتقل من وجودها الورقي إلى الوجود الحي على ما بين الوجوديين في هذه اللعبة من تمازج وتداخل في ساحة اللغة يعبر عن العلاقة الملتبسة بين الحياة والكتابة وبينهما وبين الذات الكاتبة، ومن خلالهما ومعهما تنهض أسئلة الذات والوجود والموت والحياة والجسد والحب والكتابة والوطن. سؤال الذات تتوزع الرواية على ثلاثة فصول يحمل كل فصل عنوانا خاصا به، يشكل تكثيفا واختزلا لمضمونه، فالفصل الأول يحمل عنوان “حنين الرماد”، والثاني “مشيئة القلب”، والثالث “بهاء الظل” بينما تحمل الرسائل عناوين خاصة تشكل مدخلا لقراءة مضمونها. وعلى الرغم من أن ليلى هي التي تتكلم في الرواية أكثر ومن خلالها يبث الروائي جوانب من سيرته الذاتية، فإن سؤال الذات والوجود بقلقه وحيرته يظل شاخصا منذ بداية الرواية كدلالة إشكالية وجودية تعاني منها تلك الشخصية الرمز (من أنا الآن بعد كل هذا العناء؟ كل شيء إلا مريم) غريمتها التي تطالب واسيني أن يسمح لها باغتيالها لأجل استدادها لهويتها التي سرقتها مريم. وإذ تدافع ليلى عن وجودها (لست امرأة من ورق، ولكني حقيقة واسيني التي يحاول أن يتفادها) فإن واسيني في رسالته إليها يذهب أبعد من ذلك عندما يعلن أنها هي (ليست ليلى ولا حتى مريم التي سرقت كل وجداني، هي امرأة واحدة هي مرجع الحياة والحب واللذة التي ترفض أن تسقط في دائرة التكرار القاتل) وهذه المرأة هي أنثى السراب ما يجعل تلك الشخصيات الأنثوية في أعماله المختلفة هي محاولة تجليات لتلك الأنثى المستحيلة التي يبحث عنها في الكتابة والحياة. تتميز لغة الرواية ببنيتها الشعرية المكثفة والموحية وبتعدد مستوياتها المعجمية التي تتوزع على الفرنسية واللهجة الجزائرية المحكية في بعض الحوارات، بينما يتحرك السرد ويتنقل في أمكنة كثيرة داخل الجزائر وخارجها، بينما تقبع ليلى في السكريبتوريوم الذي تجعل منها عالمها الخاص للتوحد مع ذكرياتها مع واسيني ومع اللغة التي تتخذها وسيلة لكتابة هشاشتها المفرطة كما تقول في رسالة إلى واسيني، متنقلة في أماكن ذكرياتها عبر استعادة تلك الذكريات.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©