الخميس 18 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

غبطة الضوء أو مساقط الفتنة

غبطة الضوء أو مساقط الفتنة
16 ديسمبر 2009 22:18
رغم أنه الهوية الأبرز، إلا أن الجمال لم يشكل وحده هوية معرض “افتح قلبك في الإمارات” الذي نظمه جاليري أوبرا مؤخراً في قصر الإمارات، بل انضافت إلى القيمة الجمالية البحتة ثيمة أخرى تجلت في الجمالية الإنسانية التي جعلت من العمل الفني وسيلة لإسعاد ذوي القلوب الحزينة، الذين أصيبوا بمرض لا شفاء منه وباتوا ينتظرون الموت في كل لحظة، فقرر منظمو المعرض أن يفتحوا لهم باباً على الحياة، بكل ما تمور به من فرح وإبداع وسعادة وجمال. المعرض الذي مارس الإخلاص للجمال في انتقاءاته للأعمال المعروضة، مارس الإخلاص للحياة أيضاً حين خصص جزءاً من ريع اللوحات المباعة لصالح مؤسسة “تحقيق أمنية”، هذه المؤسسة الظبيانية التي أخذت على عاتقها أن تصنع الفرح للمحزونين، وأن تضفي على الأيام القليلة الباقية بسمة أمل لعلها تبلسم جراح القلوب التعبة الأسيانة. ثراء مزدوج ليس القلب وحده ما ينفتح حين يشاهد أعمال المعرض المحمول على عنوان ثري بالبعد الإنساني: “افتح قلبك في الإمارات”، بل الروح والعقل ينفتحان أيضاً على حديقة زاخرة بالإبداع التشكيلي، بأساليبه وتقنياته وموضوعاته وخاماته وتجاربه الفنية التي تخرج منها ممتلئاً تماماً بهذا الصيد الوافر الذي قدمته لك قامات عالية في الفن العالمي، اتفقت جميعها على أن تدير رأسك و... تدوِّخك!. هكذا تتوهج المشاعر في انثيالات لونية لا سقف لما تقترحه من احتمالات المعنى وهي تنسكب على قماشة اللوحة، أو تتجسد في البرونز أو الخشب أو تتلون في الاكليريك والأحبار، فتعلو في روحك موسيقى مغايرة.. موسيقى تأتي من هارموني الألوان لتصعد في روحك رويداً رويداً كلما وقعت عينك على لوحة هنا أو نحت هناك.. تدخلك إلى عوالم الفرح المستلقي على حافة وردة من “ورود” سيسلي أو الصاهل على حواف “خيل” بيكاسو بكل عنفوانها أو الغافي في صندوق علي إسماعيل يبور أو الطالع من “عود” حداثوي لأرمان يمثل هويةً مقترحة لإبداع يبحث عن قول الذات خارج حدود اللون والخط والانحناءات المباغتة. سكون وهياج، خريف وربيع، مواسم وتفاصيل، بشر ووجوه وأجساد وكرة أرضية تدور في أمداء لانهائية، واحتمالات لرؤى تتوالد على نحو مختلف مع كل عمل يدعوك للغوص في دلالاته الفنية والفكرية، وما يخفي وراء الشكل الظاهري من مقولات تؤشر على إبداع المخيلة البشرية وهي تبحث عن تأبيد الخيال أو اجتراح الحد الأقصى منه. وعود الإبداع طائع مختار، يقودك الفنان ألفريد سيسلي باتجاه الضوء إلى “غابة في الخريف” ليدخلك إلى مساقط الفتنة، تلك التي تسقط فيها الروح بكامل إرادتها حباً وشغفاً، وتتوهج حين ينبعث فيها الإحساس بنشوة الجمال، ويأخذها العجب من الغنى اللوني الذي يتماهى مع غنى الطبيعة في ألوانها، ناهيك عن التدرج في تجسيد ألوان السماء الزرقاء وهي ترحل باتجاه وعود من الغيوم وهي تشرف على مطر مباغت. هذه واحدة من “وعود” سيسلي الإبداعية، التي كانت في وقتها “مطراً” مفاجئاً وخروجاً على “جفاف” قواعد وثوابت الكلاسيكية والرومانتيكية اللتين كانتا تتسيّدان بصرامتهما المشهد التشكيلي الفرنسي، بل والفن الأوروبي جميعاً، والتي أسست مع غيرها تلك الحركة المتوهجة التي عرفت بالانطباعية. أما “زهرية” موريس ديفلامنك التي تتدفق فيها الألوان كما يتدفق الضوء، فتذهب بك إلى عالم قزحي ينجز فيه الفنان للورد وصفاً لونياً رافلاً وغنياً يتسيد النصف العلوي من اللوحة، فيما النصف الأسفل غارق (عن قصد تقنوي) في دكنة الأسوَد التي لا يكسرها سوى البني (لون المزهرية)، حيث سمحت هذه التوليفة اللونية المحكمة للورد أن يضيء على هوى الضوء، وإلى أقصى ما يمكن للضوء أن يطيق، وكأني بالفنان فعل ما فعل لكي يتيح للورد أن ينبثق من العتمة إلى الضوء على نحو باهر، فتألقت الورود بألوانها: الأصفر والأحمر والبنفسجي بشكل مفارق جعلها تتسيد مشهد اللوحة، وتتوسطه بحيث تكون أول ما يلفت نظر المشاهد. عذوبة حد الألم تتساءل حين تقع عينك على عملي بيكاسو: كم هو عذب هذا الفنان حدَّ الألم؟!.. إنه يمارس لعبته مع الوجوه بطريقة جهنمية؛ لا يلغيها ولا يحضرها.. يمنح الوجه كل خطوطه وملامحه لكنه في الوقت نفسه لا يسميها ولا يظهر تفاصيلها. هكذا تبدو العينان مجرد دائرتين تغرقان في الأسود، والأنف مجرد خط طويل أكثر مما ينبغي فيما يبرز الفم واللحية بالتناقض اللوني فقط (البني والبيج)، مع ذلك، يبدوان الأبرز والأكثر حضوراً في اللوحة. ولا تتوقف براعته على ذلك، في اللون أيضاً يذهلك. كل عدته في هذا العمل “Mo sq etaire” ثلاثة ألوان فقط: اسود، بني، بيج، ورغم محدودية الألوان يستطيع المتلقي أن يشاهد نظرات العينين الصارمتين والسخرية الكامنة في الشاربين. وينطبق الأمر على لوحته الثانية (الفنان والموديل) التي قوامها ثلاثة ألوان (أسود، برتقالي، بني) على أرضية من الورق، والتي برز فيها الأداء القوي لعنصر الخط الذي لا يسير في أسلوبية واحدة، بل يتعرج ويتثنى ويتقوس ليرسم الملامح الخارجية للوجه أيضاً. يمتد بيكاسو عميقاً في معنى ما تحمله الوجوه، ينسرب في المشهد الجمالي مطارداً السحر والغموض، باحثاً عما يكمن خلف الخطوط من دقة البصيرة. يرسم ببساطة لكنها بساطة مدهشة، بتقنوية عالية توغل في قراءة الأعماق وتتقصى مذاهبها في مناجاة الحالات البشرية المتنوعة. حصان الزمن تتوقف أمام حصان دالي المسرج بالزمن.. يعلوك شجنٌ وجوديٌّ وتغمرك أسئلة حارة وموجعة من نوع: هل أراد دالي وهو يصور سوريالية الحياة البشرية الزائلة أننا مجرد خيول تجري إلى نهايتها المحتومة؟ حصان يجري وزمن يجري، زمن لزج، نسبي، يسيل من الساعات، يتسرب منا، ولا يفلح حتى البرونز الصلب في إيقافه أو تأطيره. حين الزمن يغدو سرجاً لحصان يجري بلا فارس يكون الزمن حتماً هو الفارس المنتصر!. دالي أيضاً، يماهي بين المرأة والحصان في عمله الثاني، حين يرسم الحصان في حالة جموح، يصهل رافعاً قدميه الأماميتين إلى الأعلى. والمرأة بجانبه شامخة هي الأخرى، تحتل اللوحة من أسفلها إلى أعلاها وكأنها تشق اللوحة وتشق الحياة.. لعله خط الحياة ذلك الخط الذي يمتد من قمة الرأس حتى أخمص القدمين في عرف التشكيليين، الخط الذي يقسم الكون والإنسان واللوحة في وقت واحد قسمين متساويين ومتوازنين، لكن بيكاسو يصر على وضع كائنات لوحته كلها في نصف اللوحة الأيسر تاركاً النصف الأيمن فارغاً إلا من خطوط تشبه خطوط السكك الحديدية تمتد تحت حوافر الحصان الذي توحي هيئته بأنه يجري إلى الأمام فيما رأسه يلتوي إلى الخلف. سحر الصين تأخذك قدماك إلى لوحات أخرى: لوحات زيتية ومائية وأخرى منفذة بألوان الأكليريك أو الأحبار أو المواد المختلفة.. أعمال مفاهيمية وأخرى نحتية تتوسل تقنيات متلونة: الراتينج والبازل والبازل الكرتوني وغيرها من المواد. إضافة الى أعمال تعكس اتجاهات الفنون في العالم الثالث وأخرى من اليابان والصين التي سجل فنانوها حضوراً واضحاً في المعرض.. يملؤك السحر الغامض الذي يكسو وجهاً صينياً يحتل مدخل القاعة، كما يحتل في الوقت نفسه غلاف الكتيب الخاص بالمعرض.. ويبدو في وشومه الزرقاء والذهبية أشبه بقطعة أثرية قديمة عثر عليها آثاريون في الحضارات البائدة. فيما تعيدك “أم كلثوم” ستيلو ديامانتو إلى أيام الغناء الجميل والزمن الجميل، فتبتلع مرارة تصعد فجأة إلى حلقك حسرة على حال المَغْنى وأهله. تتوالى نصوص الفنانين وبحوثهم المعرفية في الخامة واللون والكتلة، سعياً وراء حيوية تصل بالعمل الفني إلى أقصى الطاقات الكامنة فيه، وتحث الفرشاة على منح اللوحة أعلى درجات البهاء. في طريقها إلى العمل، تترك ريشة الفنان بهاء متناثراً فوق السطوح. توزع اللون. تناسب بين المساحات في أسلبة لونية شيقة. تهندس مساقط الضوء لتهب الأزرق مهابة منتقاة، أو تسافر في قوارب اللون في انتقالاتها بين الأصفر والأخضر والأزرق صاعدة سلم الدرجات اللونية إلى أبيض يسافر في السماء. تدور عيناك بين 63 عملاً تدعوك لقراءتها.. أعمال تهيمن عليها تآليف تكوينية متناسقة، وتتدلى من سطوحها رقة تغري اللون ليخرج ويتحرر من أسره، وينداح في في ظلال من التساؤلات حول الصيغة التي يمكن للضوء أن يسلكها ليشير إلى نفسه. الظلال لا تأتي واحدة في الأعمال كلها، ولا تسير على نفس الوتيرة، تبهت تارة، تبرق أخرى، تغيب أو تتلاشى، تحتل المركز أو تتجسد على استحياء في الأطراف كأنها تمظهرات الحياة نفسها في العمق والهامش والانزواء والـ “ما وراء” ، وفي كل حالاتها تبقى الأقدر على قول الحب والعزلة والفرح والحزن والأسى والتأمل في مصير الإنسان وغاية وجوده. تكتفي بجرعة الفرح التي حصلت عليها من جولتك، وتهمس بصوت لا يسمعه سواك: لا بد من زيارة أخرى، زيارة واحدة لا تكفي...
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©