الخميس 18 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

ملقة تسرد تاريخ دخول الإسلام إلى الأندلس

ملقة تسرد تاريخ دخول الإسلام إلى الأندلس
31 يناير 2009 01:48
ملقة أو ملقا الإسبانية، ميناء البحر المتوسط البديع الذي يحكي قصتين متباينتين، هو اليوم معقل لعدة صناعات إسبانية ومصدر لمحاصيل، أهمها الزيتون والعنب والتين واللوز، وملقة وأيضا إحدى المدن التي يقصدها زوار الأندلس، أما قصة الأمس البعيد فهي عن ملقة التي كانت في غابر الأيام مدينة عربية مزدهرة تتيه بحصانة قصبتها على مدن منطقة غرناطة· خاضت ملقة آخر معارك الإسلام دفاعا عن وجوده على الأرض الأندلسية، وكان سقوطها في أيدي الملكين فرديناند وايزابيلا في عام 892هـ ''1487م'' نذير شؤم لغرناطة التي استسلمت للأسبان بعد خمس سنوات فقط من سقوط ملقة· ولكنها تركت في التاريخ صفحات من الفخر والمجد الحربي بفضل حاميتها المؤلفة من خمسة عشر ألفا من المقاتلين الذين صمدوا أمام حصار القوات الأسبانية وألحقوا بها خسائر فادحة لم يسبق أن نال جند قشتالة النصرانية مثلها في كل حروبهم ضد المسلمين· وطوال حروب الاسترداد الإسبانية كانت ''ملقة'' مضرب الأمثال في الشجاعة والفداء، ولعل ذلك كان دافعا لملوك وحكام إسبانيا النصرانية إلى الإقامة بها من حين لآخر، خشية أن يطرقها جند المغرب فيتحصنون بموقعها الفريد وقصبتها المنيعة· وملقة في الأصل مدينة من إنشاء الفينيقيين، واهتم الرومان بعد احتلالهم لها بتدعيم أسوارها؛ نظرا لموقعها الحيوي على شاطئ المتوسط، وخلال العهود الإسلامية ارتقت ملقة إلى مصاف المدن الكبرى بالأندلس، إذ كانت إحدى المحطات الرئيسية للقادمين من المغرب، وتم الاعتناء بها من حكام الأندلس نظرا لوقوعها على مرتفع صخري، الأمر الذي أكسبها مناعة طبيعية تدعمت ببناء الأسوار والأبراج· وكما هي العادة في الغرب الإسلامي، فقد كانت ملقة تنقسم الى جزءين، أحدهما مفتوح يقيم به السكان وأرباب الحرف والصنائع، حيث الدور والأسواق والميناء التجاري، والآخر مغلق ومحصن لإقامة الوالي والحامية وأرباب الوظائف ويعرف باسم ''القصبة'' وكانت بقصبة ملقة الأبراج الدفاعية وقصر الحاكم والمساجد والقصور· وكانت القصبة أيام المسلمين صرحا من أعظم الصروح الدفاعية، وكان لها عندئذ اثنا عشر بابا ومئة وعشرة من الأبراج الكبيرة، عدا الصغيرة، وكان بها الى جانب قصر الأمير ومساكن الحاشية حديقة عظيمة تفضي الى مجموعة من الحمامات· وخلال عهود ملوك الطوائف بالأندلس وقع الاهتمام بتحصين ''القصبة'' لمواجهة الحروب الداخلية وكانت أحد أهم معاقل البربر وملوكهم بالأندلس· وعندما أسس بنو حمود ملكهم بملقة في أوائل القرن الخامس الهجري عنوا بتجديد قصبتها ولاسيما حسن بن يحيى بن حمود المستنصر الذي ولي العرش سنة 431هـ ''1039م''· على أن قصبة ملقة تدين بضخامتها ومنعتها لباديس بن حبوس ملك غرناطة البربري الذي انتزعها من الحموديين سنة 449هـ ''1057م''، اذ قام بتجديد القصبة تجديدا شاملا ووسع منشآتها حتى غدت من أعظم القصبات الأندلسية· وأشار حفيده الأمير عبدالله بن بلقين الى ذلك في مذكراته قائلا ''وبنى قصبتها بنيانا لم يقدر عليه أحد في زمانه وأعدها عدة للمهمات وجعل فيها جميع ما ورث لابنه وزاد عليه· وكان الذي يتوقع من تكالب سلاطين الأندلس واتفاقهم عليه، لذلك أن يتحصن فيها ما استطاع وإلا فيجوز منها إلى عدوة بني عمه بأهله وذخائره''· ملوك غرناطة وعندما آلت ملقة إلى ملوك غرناطة من بني نصر عني هؤلاء بتحصين القصبة وتوسيع قصورها لتكون إحدى نقاط الدفاع المتقدمة عن العاصمة غرناطة وأبلت بالفعل البلاء الحسن في القتال قبل سقوطها بأيدي الأسبان· ورغم أن ملقة اليوم تبدو لزائرها مدينة أوروبية عصرية فإنها تحتفظ ببعض عبقها الأندلسي القديم متمثلا في بقايا القصبة التي تحتل رقعة شاسعة تدل على سابق ضخامتها، كما تدل بوعورتها ومتانة أسوارها على سابق منعتها، وتمثل هذه الأطلال الباقية عهودا وطرزا معمارية وزخرفية مختلفة· ويعتبر الجزء الشمالي منها الأقدم، إذ يرجح أنه من عهد باديس، أما سائر المباني الواقعة في الناحيتين الشرقية والجنوبية، فتعود غالبا الى عهود النصريين من ملوك غرناطة· ويوجد في مدخل القصبة عدة أبواب ذات عقود عربية، ومنها الباب المعروف بقوس المسيح، وهو ذو عقدين ويرجع الى القرن الخامس الهجري وقد شيد الإسبان في صدره هيكلا للعذراء· وأجرت السلطات الأسبانية بعض أعمال التنقيب الأثري في أطلال القصبة بين عامي 1934 و1936 وأسفرت هذه الأعمال عن اكتشاف مجموعة من الأبنية التي تعود الى العصر الحمودي وإلى عهود ملوك غرناطة من بني نصر وتقع هذه المباني في الجزء الأعلى من القصبة، وهو القائم بين الأسوار والأبراج وتضم مجموعتين الأولى تقع بعد المدخل مباشرة، وهي التي يطلق عليها منذ استرداد الإسبان لها ''الأجنحة الغرناطية''، وهي حسبما يبدو قصر القصبة، الذي يضم ثلاثة أبهاء فسيحة· وتقع المجموعة الثانية في الناحية الشرقية، وهي عبارة عن أبنية سكنية وبها حمامات، وكان يفصل القصر عن الأسوار والأبراج طريق عريض· وتدل عمارة المجموعة الأولى من المباني وايضا زخارفها، على أنها ترجع الى عصور ملوك غرناطة النصريين فيما بين القرنين السابع والثامن للهجرة، وإن كان من الواضح أن بعض أنقاض المباني التي شيدها باديس قد جرى استخدامها في هذه الأعمال· وأقامت إسبانيا متحفا قرب هذه المباني تعرض فيه أعدادا كبيرة من الخزف الأندلسي الذي اشتهرت ملقة بإنتاج أوانيه، فضلا عن بعض قطع زخرفية من الجص والرخام عليها كتابات عربية، وهي مما جرى الكشف عنه بين أنقاض قصبة ملقة· ويظهر أن قصبة ملقة كانت تسبقها حصون دفاعية تكمل استراتيجية الدفاع عنها، وبقي منها الى اليوم صرح دفاعي إسلامي منيع يقع على ربوة عالية تشرف على البحر، ويعرف هذا الحصن الواقع على مسافة صغيرة من القصبة باسم حصن جبل فارة، ويفصله عنها رقعة خضراء ويربطه بها طريق مسور· ويحتفظ هذا الحصن الى اليوم بكثير من معالمه العربية الأصلية وهو أكثر جدة واحتفاظا بهيكلة من القصبة ذاتها ويدخل اليه من باب سفلي ذي عقد كبير، يليه فناء مربع ذو عقود وله مدخل آخر من فوق الربوة يؤدي الى أروقته العلوية· وفي الصحن المكشوف بالجزء الأسفل من هذا الحصن أسوار خارجية مبنية بالطوب الأحمر تحيط بحديقة وعقود عربية، ومن حول هذا الصحن بعض الأروقة التي تليها الأسوار· ومازال البرج الرئيسي لحصن جبل فارة قائما الى اليوم ويسمى البرج الأبيض، وهو يحتوي على عدة عقود ومخادع وواجهته مستديرة· ويشرف على ملقة من ارتفاع شاهق، وأمام الحصن من الناحية الأخرى منحدر الجبل وممراته الجانبية من هذه الناحية تنحدر تدريجيا الى الأسفل· ويشغل هذا الحصن رقعة واسعة، وقد شيدت مشارف أسواره على نمط مشارف أسوار قلعة الحمراء بغرناطة· حصن جبل فارة كما هو الحال مع قصبة ملقة، فقد اشتهر أيضا حصن جبل فارة بمواقفه الدفاعية الباسلة خلال حروب الاسترداد، وكانت به خلال هجمات الملكين الكاثوليكيين فريناند وايزابيلا فرقة من جند غمارة من بربر المغرب وصمد هؤلاء البواسل بوجه هجمات الإسبان حتى آخر رجل منهم، وأوقعوا خسائر كبيرة في صفوف الإسبان· وهذا الحصن هو الآخر كان في الأصل قلعة فينيقية وجرى تجديده لأول مرة في العصر الاسلامي على يد الأمير الأموي عبدالرحمن الداخل أو صقر قريش في أواخر القرن الثاني الهجري· وكان حصن جبل فارة موضع اهتمام ملوك غرناطة، لاسيما بعد أن صارت مملكتهم الوحيدة الباقية من ممالك الأندلس التي لم تسقط يأيدي ملوك الأسبان· فقام بإصلاح هذا الحصن محمد بن الأحمر الثاني سلطان غرناطة في أواخر القرن السابع الهجري ''13م''، ثم قام السلطان يوسف أبو الحجاج ''1333-''1354 بعد ذلك بتجديده وإعادة بنائه على أكمل وجه، وأشار إلى ذلك المؤرخ لسان الدين ابن الخطيب بقوله ''وفي أيامه بنى الحصن السامي الذروة المنبيء عن القدرة في الجبل المتصل بقصبة ملقة فعظم به الفخر وجل الذكر''· لا غالب إلا الله إلى جانب التحصينات الحربية الاسلامية، مازالت ملقة تحتفظ ببعض ملامحها الأندلسية القديمة مثل السوق القديمة التي تتوسط المدينة ومازالت تحتفظ ببابها الأندلسي القديم بحالة جيدة من الحفظ، وهو باب مرتفع ذو عقدين وعلى جوانبه العليا زخارف وكتابات عربية يتخللها شعار بني نصر ملوك غرناطة ونصه ''لا غالب إلا الله''· أما مسجد ملقة الجامع، فقد شيدت في موضعه الكاتدرائية العظمى على الرغم من أن المسلمين كانوا قد سمحوا بتشييد كنيسة كبيرة داخل ملقة وهي باقية الى اليوم وتعرف باسم كنيسة مسيح النصر· وهناك ايضا كنيسة سان دمنجو التي تقع في وسط المدينة وبنيت من الداخل على طراز المساجد بعقود عربية متقابلة لأنها شيدت على أنقاض مسجد قديم· ومما يؤكد ذلك أن بابها يتجه نحو الجنوب الشرقي، مما يدل على أنه أقيم مكان المحراب الأصلي للمسجد· وتبقى أطلال قصبة ملقة وايضا حصن جبل الفارة شاهدا على روعة العمران الاسلامي ومتانة وحداته الحربية، ولعلها تتحدث بلسان صدق مبين عن ماضي الأندلس التليد الذي غمره النسيان وغطت عليه كنائس نصرانية شيدت على انقاض مساجد ملقة القديمة·
المصدر: القاهرة
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©