الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

سدرة «قرواش».. كساحرة تخلصت من عقال عزلتها

سدرة «قرواش».. كساحرة تخلصت من عقال عزلتها
24 ابريل 2013 21:50
في المنطقة الرمادية من الزمن، في البقعة الداكنة من القلب، في المكان القريب من قلق الأولين، كنت تتحدين مع التراب، وتلاحقين العصافير، وتحرسين الأعشاش بعين ما أغمضت وأغصان ما كفت عن الرفيف.. عند نوافذ الأزقة المفتوحة على الأحلام، والأوهام، والخوف في كثير من الأحيان، كنتِ تجلسين كأنك امرأة عجوز تعكّزت على سنوات العمر المديدة، وغفت عند قارعة الأمل الأزلي، كنت تميد عناقيد النبق، محاطة بأشواك الأذى، مغموسة في التاريخ كأنها النشوة الأبدية. رجال ونساء، وفتيان وفتيات، أحرقوا العمر، عند ظلال السدرة وضلال الفكرة وأحلام مرت هنا كأنها كفراشات ملونة بلون التراب المعجون بالغبار، أشياء أصغر من تفاصيل شعر امرأة، جازفت وتجاوزت حد المداهمة، وأسماء ومشاهد وصور، وأحداث، وعواطف تمرغت في وحل اللحظات الحاسمة، ثم ذابت في الأديم، مختبئة تحت ثياب النسيان.. سدرة «قرواش» هي كالفكرة، نبتت من وهم، أو حلم ثم صاغت حريرها، من خيوط أدق من رموش امرأة بالغة في الوجد، نابغة في ابتداع الأشواق الحارقة. سؤال يكبر كما تكبر الفقاعات في الماء القلق، ثم تنطفئ لا أحد يقف هناك تحت السدرة، لأنها ماتت، كما ماتت تفاصيل كثيرة، كما غابت وجوه كثيرة، كما غربت شموس كانت تشرق في المساء، وتغرب في الصباح، لدواعي خاصة بالسدرة، ولحراسها القدامى. مجرد فكرة اليوم.. السدرة، فكرة.. مجرد فكرة تخطف طائرة الذهن وتغادر إلى مكان مجهول في الذاكرة، أحاول أن أستدعي الخاطفين، ولكن كلهم أو ربما أغلبهم توارى خلف ظلال المرحلة الداكنة، وتحت سقوفها الثقيلة، لا أتذكر أنا سوى السدرة، سوى الأحلام التي دارت تحت أوراقها، وسوى الجرأة الفظيعة ككائن سحري، فاض في يوم، وتسلق الأشواق بأشواق بالفوز بنبقة فانكسر الغصن فانسل كالقرد متعلقاً ما بين الأرض والسماء، ثم وبقدرة قادر يحط على الأديم، بخفة الطير المجنح، ثم يعود أدراجه يبحث عن نبقه عن حلقة مفرغة في كون السدرة، ولم يجد سوى قطرات الدم الأحمر تهوي من ساعده إلى حضيض قدميه.. هذه السدرة، بجلالها الأسطوري، تغيب الآن، كما تغيب كل الأشياء النبيلة، ولم يبق غير الفراغ الذي كان يطوق خصرها بعنفوان الحب القديم.. لم يبق سوى صورة باهتة في الذهن، وشاهد أشبه بسحابات طائشة.. لا شيء هنا عند محيط السدرة، لا شيء هنا عند قارة القلب سواك سدرة مجللة بالعرفان وعرف الناس الذين رسموا الوعي على أسس التذكر، التعلق بفكرة، أو جذر على أرض يباب.. سدرة قرواش، هي المسافة ما بين القلب والأرض، كالمسافة ما بين الغصن والجذر، كالمسافة ما بين الطفولة والشيخوخة، وما بينهما، وعود زمنية لم تكفل حق الموعود بما وُعِدْ، فصارت الذاكرة تنهش من جسد الماضي، تبحث في العظام الرميم على نبضه، عن خضه، عن لمضه، عن ومضه، عن جسر ولو كان خشبياً يربط ما بين ضفتي النهر، العظيم، ويصل بقارب الأمل باتجاه راهبة تكهنت كثيراً عن زوال السدرة بعد حين، لزوال الفكرة عن سبب وجودها.. سدرة قرواش، كانت في منطقة الجليد عن النقطة الصفرية من القلب خلف سجادة مخملية، علقت على جدار نخر عظامه الزمن، واستبدت به أرواح البشر. سدرة قرواش، مثل بوذي قديم، ظن أنه عظيم، وفي يوم من الأيام فكر في زيارة صديق، في قرية مجاورة، فعبر النهر ولما وصل إلى بيت الصديق لم يجده فاستشاط غضباً، فكتب عبارة ذات دلالة فيها.. أنا الراهب العظيم المعلم والمربي، ترتعد مني كل الجهات أزورك ولا أجدك؟ ولما عاد الصديق وجد هذه العبارة الاستفزازية مكتوبة بورقة معلقة على باب منزله.. غضب.. فعبر النهر، ووصل إلى بيت الراهب، فكتب على بابه: إن كل ما قلته لا يساوي أكثر من (......) ثم عاد إلى بيته.. وبعد أن شاهد الراهب الورقة وقرأ الكلمة البذيئة ازداد غضباً.. عبر النهر وذهب إلى بيت الصديق، قائلاً له: أنا الراهب العظيم وتنعت كلامي بالبذاءة.. قال الصديق: إذا كنت عظيماً، وتستفزك كلمة (......) فأنت لا شيء. الشجرة الأسطورة وهذه السدرة، كان الصغار يعتقدون أنها شجرة الخلد، وأنها الأسطورة العظيمة التي يجاورها الجن، كما يلعب تحت ظلالها أبناء الإنس، فإذا بها تخلع ملابسها فجأة، وتنحني لعاتية الدهر، ثم تغيب على التراب، مختلطة بالرمل والحصى، لتصبح كعصف مأكول.. هذه الشجرة الباسقة، تتخلى عن سطوة الأحلام المبهرة، وتتجلى شيئاً بلا شيء، وتحثو الرمل في عيون من يقبلون التراب من تحت بقاياها.. هذه السدرة، الآن في اللاشيء في العدم، كما باقي الأشياء، لكنها وإذ تتجد في الوجود الكلي، تقف صامدة في الذاكرة، تحلب ضرعها، بعنف، وتجدل خصلات الزمن، ثانية بثانية، ولحظة بلحظة.. هي تخلصت من وجودها، الموضوعي، لتقطن في المعنى. تحت ظلال سيوف هذه السدرة، كان يمر الرجل الوقور، يدق بعكازه للصغار، قائلاً: لا تحطموا أغصان السدرة، لا تقلقوا العصافير، ثم يمضي الزبد يربض على شفتيه، معتقلاً قلبه في صدره.. تحت ظلال هذه الشجرة، كانت تمر المرأة العجوز، وترخي بعباءتها كالطائر المجنح، محتجة على عبث الصغار، وشغبهم، ثم تضمي بلا هدي باتجاه بيوت الجيران متوعدة بالويل والثبور، لكل من يسيء معاملة السدرة، ويقلق مضجعه .. وتحت السدرة كانت تدور حوارات داخلية بين وبين، وما بين البين، تلتهب مشاعر وتورق مساعر، وتحبل مخابر، وتشتد منابر، وينشغل وجيب لحبيب، لأجل بزوغ نجم من خلف الجدران، فأحياناً يزهر الأمل، وأحياناً يلتم الشمل، وفي أحيان كثيرة لا أمل سوى خيال أزرق، باهت، يثير الحفيظة، ثم تعود النوق المحملة بالأثقال بخفاف مترهلة.. تحت هذه السدرة، أوجاع تاريخية، وفجائع وجودية، ومذاهب وملل من أخلاق وقيم الناس الذين عاصروا لحظات الفقدان، والخسارات الكبرى.. تحت هذه السدرة، ما بين الأمل واللذة، مسافة كمفرق الرأس، شعيرات دقيقة من الأمل تنبت سوداء، ثم بيضاء، ثم تتساقط بلا رجعة، ولكن تبقى في الرأس نخالة القمح تفوح برائحة النمو، والازدهار، والأثمار، والأعمار، ورغبة جامحة في إعادة الخلْق من جديد.. التاريخ لا يعيد نفسه وإنما يزج بتراكمه ليصبح ورماً طافحاً على جلد الذاكرة. كل شيء هنا في مكان السدرة، يدعو للتأمل، كل شيء هنا، يفرض سؤالاً أزلياً، كيف تزول الأشياء ولا تزول السدرة.. لأن الذاكرة هي الخلود في هذا الوجود، هي الوجود الموعود، هي الصناعة في حرفية تمتين العلاقة ما بين، الأصل والصورة.. هذه السدرة منطقة في الذهن، هي قارة وقارعة، وقناة، وقافية، لقصيدة زمنية، لم تعد الآن، سوى، مخطوطة تحت الرمل، لم تعد سوى حبات متناثرة مع عظام لكائنات خفت وبقايا لأدوات تالفة. هذه السدرة، احتفظت باسم صاحبها، حتى ماتت، وبقي الاسم، وارفاً بالدلالة، والمعنى، وبقيت السدرة، جزءاً من اسم لمسمى. هذه السدرة، هي من عرف الأيام من خزف الأحلام، من غرف، وندف، ودنف، وحتف، وصرف، وظرف، وطرف، وذرف، وجدف، وكتف، وقطف، ولطف، وصُدف، وصَدف، وشرف، وكلف، وتلف، وسلف، وشغف، وشظف، وشنف، ورِهف، وخِفف، ورفف، وسِرف، وضِفف، ونحف، وترف.. هذه السدرة الآن.. الآن فحسب، منطقة يقطنها سحرة الفراغ، وأساطير ما وراء الذاكرة، وما بعد الفكرة.. هذه السدرة، جزيرة باعد الماء بينها وبين الكتاب المقدس، عندما عبس الإنسان وتولى واستدعى وعياً رمادياً، مستدرجاً القادم من الأيام بخطوات أسرع، من سرعة الشلال، المنحدر في باطن وادي البيح.. هذه السدرة، توغل الإنسان في السفر، تتأبط حقيبة المغادرة، وتغيب.. تغيب.. والآخرون يغيبون في المعاني الضحلة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©