الثلاثاء 19 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
الأخبار العالمية

التغطية الصحفية من خلف خطوط «داعش»

التغطية الصحفية من خلف خطوط «داعش»
20 يناير 2017 19:08
بدأ «عمر الجبوري» حياته المهنية صحفياً، في أصعب موقع، يمكن القيام منه بتغطية أحداث تعتبر هي الأخطر في العالم، في الوقت الراهن. فهذا الشاب الموصلي، البالغ من العمر 27 عاماً، والذي كان يعمل كأخصائي اجتماعي يعنى بالمساعدة على الحلول التي تواجه النساء والأطفال على الخصوص، شاهد بمشاعر تراوحت بين الرعب والصدمة، تنظيم «داعش»، وهو يحتل مدينته في صيف عام 2014. وبعد ذلك، بدأ الجبوري بالعمل في الخفاء داخل المدينة، من أجل بناء شبكة من المصادر التي تمده بالمعلومات حول نقاط وجود «داعش» وأساليبه وممارساته الوحشية في مسقط رأسه. ومن المعروف أن الصحفيين الجسورين من أمثال الجبوري، كانوا هم المصدر الوحيد الذي يزود العالم بالأخبار عن الحياة داخل مدينة الموصل، خلال فترة العامين ونصف العام المنصرمة. فالمدونات المجهولة الأسماء مثل مدونة «عين الموصل»، كانت هي التي تكشف عن لمحات من الحياة في المدينة الواقعة تحت قبضة «داعش» الحديدية، وهي التي قامت مؤخراً بوصف القيود الجديدة المفروضة من قبل الجماعة الجهادية، التي كانت تحظر على سكان المدينة الانتقال من مكان لآخر، لمنعهم من الهروب إلى المناطق المحررة. والروايات التي كان هؤلاء الصحفيون يروونها في مثل هذه المدونات، كانت ترسم لوحة تفصيلية لمدينة محكومة من قبل نظام شمولي، يضم شبكة مخيفة من عملاء الاستخبارات والأشخاص المكلفين بإنفاذ قوانين التنظيم، الذي كان يهدف للسيطرة على كل جانب من جوانب حياة المواطنين، بدءاً من الملابس التي يرتدونها، وليس انتهاءً بالمعلومات التي يتلقونها. على مدى ثلاث مقابلات هاتفية، وصف الجبوري بالتفصيل عمله في الموصل المحتلة من قبل «داعش»، وكيف أن هذا العمل أوشك أن يكلفه حياته في عدة مرات. قال إنه كان يسجل في تقاريره لصحيفة «القدس» اللندنية التي يراسلها، الجرائم اليومية التي يرتكبها «داعش». وبعد ذلك بدأ يبيع عمله لمحطة «بي بي سي نيوز» التي أجرت معه ذات مرة مقابلة عبر الهاتف، وصف فيها استخدام المجموعة لوسائل التعذيب، وكيف أنها عملت على تحويل مناهج المدارس للتحريض على العنف. وقال الجبوري إنه كان يتقاضى ما بين 200 و500 دولار عن المشاهد المصورة داخل الموصل، و50 دولاراً عن التقرير المكتوب. وأكد لـ«فورين بوليسي» أنه لم يكن يعمل من أجل الكسب المادي، وإنما كان في حاجة ماسة للمال لإعالة نفسه في ظل الظروف التي سادت المدينة عقب استيلاء «داعش» عليها. ويرسم الجبوري لوحة للسكان الذين كانوا يتعرضون للضرب، لإجبارهم على الخضوع لتنظيم «داعش». ويقول في هذا الصدد «على الرغم من أنه كان هناك نوع من المقاومة، فإنها كانت مقاومة ضعيفة للغاية». ويضيف: «كانوا لا يتورعون عن قتل الأطفال والنساء والمسنين، بل وأي شخص يتحدث بصورة سيئة أو سلبية عن التنظيم، وفي حالات كثيرة كانوا يقومون بقتل أعضاء من عائلة واحدة. لذلك لم يكن هناك أحد يجرؤ على الحديث بسوء عنهم». وقد أدى العمل الذي يقوم به الجبوري، إلى وضعه في مرمى النيران المتقاطعة لـ«داعش». ففي عام 2015، شن التنظيم حملة ضد الصحفيين في الموصل، وأصبح الجبوري رجلاً مطلوباً. وبدأ عملاء الاستخبارات في تطويق مصادره، كما قال، مضيقين بذلك الخناق عليه شيئاً فشيئاً. واضطر الجبوري للهرب من ذلك الحين، وراح يتنقل من حي لآخر لتفادي القبض عليه. لكن في 19 أكتوبر 2016 نفذ حظه في نهاية المطاف. كان الجبوري في ذلك اليوم، في حي يقع في جنوب مدينة الموصل، ويتنقل من دون أوراق تثبت هويته، عندما قام أحد مواطني الحي من المتعاطفين مع «داعش» بالإبلاغ عنه لعناصر الأمن التابعين للتنظيم، والذين قبضوا عليه واتهموه بالعمل لمصلحة قنوات أجنبية كافرة، وزجوا به في سجن عشوائي يقع في مدينة «حمام العليل». بعد ذلك بدأ حراس السجن في تعذيبه، باستخدام أسلوب الصدمات الكهربائية، وفي أحيان أخرى كانوا يعلقونه من قدميه كالذبيحة، ثم يبدؤون في جلده بلا رحمة، محاولين انتزاع اعترافات منه بأنه كان يعمل جاسوساً لجهات أجنبية. بعد ذلك، نقل رجال «داعش» الجبوري إلى منزل مكون من طابقين في موقع غير معروف، كما قال، ربما لتفادي الاكتشاف من قبل طائرات التجسس، والطائرات الحربية التابعة للتحالف الذي تقوده الولايات المتحدة. كانت نوافذ وأبواب المبنى محكمة الإغلاق، وكان زملاؤه في السجن يتراوحون ما بين صبية مراهقين ورجال تصل أعمار بعضهم إلى الـ70 عاماً. واحتجز الجبوري في زنزانة مع رجل كان قد اتهم بالاتصال مع القوات العراقية والأميركية لتزويدهم بالمعلومات عن «داعش». وكان هذا الرجل ضعيفاً للغاية، بسبب التعذيب الذي تعرض له، لدرجة أن الجبوري كان يساعده على تناول الطعام وشرب الماء. بعد 10 أيام أرسل الجبوري للمحاكمة أمام قاض تابع لـ«داعش». لم تكن هناك محاكمة ولا شيء من هذا القبيل، وإنما فقط حكم جاهز بالإعدام على الجبوري. وحتى بعد النطق بحكم الإعدام على الجبوري والتوقيع على أمر تنفيذ الإعدام، استمر سجانوه في تعذيبه. فذات مرة ألبسوه بدلة الإعدام، ووضعوا سكيناً على رقبته، متظاهرين بأنهم سيقومون بإعدامه، ثم قالوا إنهم سيؤجلون الإعدام. وفي إحدى المرات أطلقوا رصاصة مرت بجانب رأسه مباشرة. يقول الجبوري عن ذلك: «إنهم ساديون، ويستمتعون بعملية التعذيب ذاتها، وهم يحبون أن يجعلوا الضحية هادئاً قبل قتله». وبعد أن بدأ «داعش» يفقد بعض المناطق، التي كان يسيطر عليها حول الموصل، عمل على إخلاء السجن الذي كان الجبوري محتجزاً فيه، من خلال إعدام زملائه المساجين. وهناك تقارير صحفية مستقلة عن حوادث القتل الجماعي تؤكد هذه الرواية، حيث جاء فيها: عندما حررت القوات العراقية مدينة «حمام العليل» في بداية نوفمبر، اكتشف المراسلون قبوراً جماعية تحتوي على جثث لـ100 شخص على الأقل. وفي نهاية المطاف بات الهرب من السجن، هو الأمل الوحيد المتبقي للجبوري، إذ كان قد علم أن عدد السجانين قد انخفض إلى ثلاثة أو أربعة فقط أثناء الليل، لأنهم كانوا يخشون أن يصبحوا هدفاً للضربات الجوية. وعلم أيضاً أن الحمام الموجود في الطابق الأرضي به منفذ للتهوية، وأنه يمثل ممراً محتملاً للعالم الخارجي. وعندما جرى نقله إلى الطابق الأرضي، بعد تنفيذ الإعدام في عدد من زملائه المساجين، قرر انتهاز الفرصة والهرب عبر ذلك المنفذ. يقول الجبوري عن ذلك الموقف: «شعرت بأن هذا المنفذ هو ما أبحث عنه، وأنه يتعين علي الهروب من خلاله. لأنني لو بقيت في السجن فسيتم إعدامي حتماً». ثم يضيف: «لذلك طلبت من أحد الحراس أن يسمح لي باستخدام الحمام، وعندما سمح لي بذلك، ورأيت أن فرصة الهروب باتت سانحة، لم أتردد في انتهازها، ونجحت بالفعل في الخروج من السجن». لكن محنة الجبوري لم تنته بالهروب من السجن، حيث كان القتال مازال محتدماً في المناطق الواقعة جنوب المنطقة التي يوجد فيها السجن، لذلك كان من المستحيل بالنسبة له الهرب من هذا الاتجاه، فقرر عبور نهر دجلة عائداً مرة أخرى إلى مدينة الموصل، حيث ظل مختفياً في منازل بعض الأصدقاء لمدة 3 أسابيع، واضطر لشراء ملابس وغطاء رأس كالتي يرتديها مقاتلو «داعش» في المدينة، وهو ما مكنه من عبور الخطوط الواقعة جنوب شرق الموصل، والدخول إلى المنطقة التي تسيطر عليها القوات العراقية. يقول الجبوري: إنه كان محظوظاً للغاية، لتمكنه من البقاء حياً حتى الآن. فتنظيم «داعش» سجن العشرات من أصدقائه وزملائه، وبالنسبة للعديدين منه لا يعرف بالفعل ما إذا كانوا قد لقوا حتفهم أم ما يزالون يتعذبون في سجون التنظيم. وعلى الرغم من أن الجبوري نجا من المحنة وخرج من معتقلات «داعش» حياً، فإنه يعتقد بأن تجربته الأولى في العمل كصحفي من وراء خطوط العدو هي الأخيرة، ولذلك فقد توقف عن عمله، بل بات يخشى من العودة للموصل مجدداً، لأنه يعتقد أن العنف لن يختفي من المدينة لسنوات عديدة قادمة. وهو يخشى بشكل خاص أن يتعرض للتعذيب من قبل الميليشيات الشيعية التي تقاتل إلى جانب القوات الحكومية العراقية. لذلك فهو يحلم بمغادرة العراق، لكنه وجد كل السبل موصدة في وجه حتى الآن. يقول الجبوري «بسبب هذه المهنة، باتت حياتي في خطر كبير.. لذلك فعلى الرغم من شغفي بها، فإنني لا أعتقد أنني أريد الاستمرار فيها الآن أو في المستقبل». *محرر شؤون الشرق الأوسط في مجلة «فورين بوليسي» ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرغ نيوز سيرفس»
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©