الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

«وفي الليلة الظلماء يُفتقد البدر»

«وفي الليلة الظلماء يُفتقد البدر»
13 ديسمبر 2009 23:09
كنت لسنوات منظماً للرحلات الشبابية، أرجوهم وأستحلفهم بالله الالتزام بالوقت والمكان، كأنهم سيحضرون ليبنوا لي بيتاً. ثم أضيع وقتي في تجهيز كل شيء، وتحويل سيارتي «الجيب» مستودعاً متحركاً، وبيتي إلى سكراب، وترك عيالي يبكون خلف الباب. وحين نصل إلى المكان متأخرين، تنهال الانتقادات على رأسي من أفواه الملتزمين، فيسارع المتأخرون إلى تحويل مجرى الأمور بلومي لأنني لم أحسن اختيار المكان، فالأرض هنا وعرة لا ترحم سياراتنا، والبعوض يرقص على جلودنا، والذباب يهجم على قدورنا، والبرد جمّدنا، والحر ذوّبنا. وإذا حملت معي الحطب قالوا: حطب في بيئة غنية بالأشجار الصحراوية؟ وإذا اعتمدت على الأشجار، قالوا: الشواء على الفحم أفضل. وإذا أحضرت اللحم، قالوا: طيلة الأسبوع ونحن مثل الأسود نأكل اللحم. فإذا أحضرت السمك قالوا: سمك في البر، إن هذا لشيء عجيب. فإذا باشرت العمل مبكراً، قالوا: اليوم طويل لا داع للاستعجال. وإذا أخّرت قالوا: هلكنا الجوع. وحين أشعل النار أسمع من يقول: رائحة الجازولين ستنفذ إلى المشويات. وحين أشبك قطع اللحم في الأسياخ يسأل أحدهم: هل غسلت يديك؟ وإذا لامست النار شيئاً من الكباب، قالوا: لا نريد كباب بالكربون، فإذا رفعته فور نضوجه، قالوا: الويل لك، نريده «وِلْ دَنْ». وفي أعقاب رحلة إلى منطقة مدحاء، تفلسفوا فيها كثيراً، وأصبح كل واحد منهم أفلاطون زمانه، وابن بطوطة عصره، وأنا أكتم وأغضي وأداري وأصانع وأنافق وأمارس معهم الديمقراطية وحرية الرأي، لئلا يتكهرب الجو أو تفسد الرحلة باللجاجة، رحت أسأل نفسي في طريق العودة: لماذا لا ألقي الرحلات الشبابية خلف ظهري وأكون خروفاً في القطيع، مثلهم تماماً؟ وهل ستتوقف الكرة الأرضية عن الدوران لو تركتهم في فلسفتهم يعمهون؟ وهل سيعلن عن انتهاء التاريخ لو تنازلت عن هذا المنصب؟ وهل سيحدث صدام بين الحضارات لو قلت لهم: حالي من حالكم؟ ولماذا لا أدخّر جهودي وحماستي للرحلات وحبي للعودة إلى الطبيعة، لرحلات أكثر مع أشخاص يقدّرون أو مع أشخاص لا قائد لهم سواي، كعيالي مثلاً؟ وماذا سيحدث للوطن العربي لو تأخرت وتفلسفت واعترضت واستظرفت دمي مثلهم؟ وتذكّرت أبو فراس الحمداني وقوله: و»تايـرُ» جيـبٍ فيهـمُ سُحَّـت جوانبـه وأعقـابُ «سيـخٍ» أفنيـتُ بهـا العمـرُ سيذكرنـي قومـي إذا حانـت رحلتهـم وفـي الليلـة الظلمــاء يُفتقـد البـدرُ ومرّ شتاء وأيديهم تحت خدودهم ينتظرون مبادراتي واتصالاتي، ودخلنا في الشتاء التالي ولا جديد، فأخذوا يلحّون عليّ للعدول عن قراري، لكن هيهات، رُفعت الأقلام وجفّت الصحف، فما قيمة أن أكون قائداً لا يقود، آمرا فلا يطيعون، وأقول فلا يجيبون، ويتدخلون فيما لا يعنيهم ولا يفقهون فيه؟ فتحرّكوا بأنفسهم وفتحوا باب الترشيح لزعيم جديد، فلم يجرأ أحد على حمل المسؤولية، فقررنا، لأنني صرت كأحدهم، أن نتقاسم دوري وما كنت أفعله بمفردي. فكانت النتيجة أن تقلّصت الرحلات، وتضاربت وتباعدت مواعيدها، ونقصت تجهيزاتها، وبهتت فعالياتها، وكثر القيل والقال واللجاجة والجدال، قبل وأثناء وبعد الرحلة، فلا قائد يضبط الأمور، ولا خادم تهون عليه نفسه من أجلهم، ولا حكيم يستقبل الاقتراحات الغريبة والاعتراضات العجيبة بابتسامة مصطنعة. واليوم، أنضم إلى جلسة التشاور بشأن الرحلة قبل 24 ساعة من انطلاقها، وأفعل ما كانوا يفعلون، ثم أحمل معي بعض المكسّرات وأكياس الزبالة، وأعود من الرحلة وسيارتي نظيفة ويدي تلمع وأعصابي في الثلاجة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©