الثلاثاء 16 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

في فضيلة البطء

في فضيلة البطء
24 أغسطس 2016 18:47
لعل أحسن مقابل عربي للعبارة التي نقرأها في الكيخوطي لثيرفانطيس، والتي كان يحلو للرئيس الفرنسي الأسبق فرانسوا ميتران أن يردّدها وهي:«علينا أن نترك للوقت شيئاً من الوقت» Donner du temps au temps، هو مفهوم «التّراخي»: يحيل هذا اللفظ إلى المعنى الذي كان الأشاعرة يروْنه مناسباً لوصف الإرادة الإلهية التي لا تخضع لضرورة، والتي تكون للفاعل وقد لا يفعل بها. لا يدلّ اللفظ على تخاذل وإهمال، بقدر ما يحيل إلى عدم الخضوع لسببية آلية تُولّد المعلول بمجرد أن تتوافر العلة. فهو ينفي كل فورية، ويقيم شرخاً بين السّبب والمسبَّب، ويؤكد نفْي التلاحق المباشر بين آنات الزمان. لعل هذا هو المعنى ذاته الذي تدلّ عليه كلمة «البطء». فهذا اللفظ لا يحيل إلى التكاسل والوهن وعدم القدرة، بقدر ما يردّ إلى الرويّة والارتخاء. إنه يحسب للزمن ألف حساب، إلا أنّه لا يستعجله، فيسمح «للزمن بأن يستغرق ما يكفيه من الزمان» كي يفعل فعله. قد لا يوافقنا البعض هذا الرأي، فيرى أن هذا الاسترخاء نوع من العطالة، وأن «حساب الزمن» الحقيقي لن يكون إلا بمراعاة المسافات المقطوعة، وبالتالي، بالتعويل على السرعة والعجلة لقطع أكبر مسافة في أقصر مدّة. وهذه، على حدّ قول م.كونديرا، هي «حالة الانجذاب التي قدمتها الثورة التقنية هدية للإنسان المعاصر». لكن، ربما لا يكفي التأكيد، على غرار ما يذهب إليه الفيزيائيون، بأن السرعة هي نسبة المسافة على الزمن. ذلك أن السرعة لم تعد اليوم مفهوماً فيزيائياً، وإنما غدت حالة وجودية. لذا ينبغي الذهاب حتى القول بأنها علاقة بين الإنسان وبين نفي الزمن وإلغائه والانفصال عنه. السرعة انفصال عن استمرارية الزمن. توضيحاً لذلك، يعقد صاحب كتاب البطء مقارنة بين راكب الدرّاجة النارية وبين ممارس رياضة الجري: فراكب الدرّاجة النارية، المنحني فوق دراجته «ليس بمقدوره سوى التركيز على لحظة انطلاقه، فهو متشبث بجزء من الزمن، مقطوع عن الماضي والمستقبل، مفصول عن كل استمرارية». فكأنه خارج الزمان. وهو يكون في حالة انجذاب مطلق، لا يشدّه إلى ماضيه ولا واقعه أيّ ارتباط، بل إنه لا يشعر حتى بالخوف، «لأن منبع الخوف يكمن في المستقبل، ومَن تَحرَّر من المستقبل لا يخشى شيئاً». أما ممارس رياضة الجري، فهو حاضر دائماً في جسده، مضطر إلى الإنصات إلى وقعه وإيقاعه، «مجبر على التفكير باستمرار في مشاكله الجسمية والتنفسية.. وعندما يجري يشعر بثقل جسده وعمره ويكون متيقظاً لذاته ولزمن حياته». فبينما تتحالف الحيادية الباردة للتقنية مع النَّار المدمّرة للانجذاب في حال راكب الدرّاجة النّارية، فإن الإحساس الساخن بالجسد وثقله وحدوده و«انجذابه نحو الأرض»، لا يفارق ممارس رياضة الجري، ومهما حاول الانفلات من جذب الأرض وقبضة الزمن، فمن غير جدوى. أما جنون السرعة عند راكب الدراجة فهو، في نهاية الأمر، جنون الإفلات من كل شيء. علاقة أقوى بالزمن كأن للبطء علاقة أقوى بالزمن ممّا للسرعة، ومع ذلك فهناك من الفلاسفة من لا يفترض أيّ رابطة تشدّ البطء إلى الزمان. ذلك ما نجده عند أبي الفلسفة الحديثة. ففي القاعدة الأولى من«قواعد المنهج»، لا ينصحنا ديكارت بنهج طريق، ما دامت البداهة لا تحتاج إلى طريق وطريقة، وإنما يكتفي بأن يوصينا ب«أن نتجنب التعجّل précipitation بعناية». قد يفهم من ذلك لأوّل وهلة أن صاحب «القواعد» ينصحنا بالتمهّل واستغراق ما أمكن من الوقت، إلا أن ذلك سيتنافى، بطبيعة الحال، وقاعدة البداهة، التي من شأنها فحسب أن تهيئ الذهن ليدرك المعنى إدراكاً مباشراً لا يستغرق زماناً. ذلك أن استغراق الزمن بالنسبة لفيلسوف البداهة، من شأنه أن يفسح المجال لعمل الذاكرة، ويفتح الأبواب لتدخل التقليد وهيمنة أرسطو. التباطؤ وعدم التعجل عند صاحب «القواعد» إذاً، لا يعني مطلقاً تمهّلاً واستغراقاً لمدة أطول، وإنما فحسب عدم انتقال إلى معرفة إلا عن طريق معرفة تمهّد لها. وبلغة أبي الفلسفة الحديثة، التباطؤ هو انتقال من الأبسط إلى الأقل بساطة، وهو «احترامٌ لسلاسل الحجج». إنه مراعاة التقدم المعرفي وليس السبق الزمني. يتقدم هذا ذاك، لأن معرفة هذا تُيسّر معرفة ذاك. نحن أمام «نظام حجج» Ordre des raisons، ولسنا قطّ أمام انتظام الزمن. إن كان ديكارت ينفي علاقة التباطؤ بالزمان والذاكرة، فإن صاحب كتاب البطء يصرّ كل الإصرار على الربط بينهما، لذا فهو يرجع تمسّك كبار السِّن بالبطء إلى الضعف الذي يلحق قدرتهم على التذكر. ومن أجل ذلك يربط البطء بالتذكّر، والسرعة بالنسيان:«هناك علاقة خفيّة بين البطء والذاكرة، وبين السرعة والنسيان. لنستحضر وضعاً مألوفاً بالنسبة لنا: يسير رجل في الشارع محاولاً أن يتذكر شيئاً ما، لكن الذكرى تهرب منه فيبطئ، في تلك اللحظة وبشكل آلي، خطواته. في المقابل، يحاول أحدُهم نسيان حادث سيّء في حياته، فيسّرع خطواته بطريقة لاشعورية كمن ينأى بنفسه عن شيء قريب جدّا منه في الزمن». فكلما ازددنا بطئاً، ازددنا تذكّراً، وكلما ازدادت سرعتنا تقوّى تناسينا. يصوغ الكاتب التشيكي ذلك بتعبير رياضي: «درجة البطء تتناسب طرداً مع قوة الذاكرة، ودرجة السرعة طرداً مع قوة النسيان». هنا لابد وأن يواجهنا هذا السؤال: هل أصبحنا اليوم شديدي النسيان لأننا متسرعون مستعجلون أم العكس؟ يتردد كونديرا في الإجابة الحاسمة، فبعد أن يجيب:«عصرنا منقاد لشيطان السرعة، ولهذا السبب ينسى نفسه بسرعة»، وهنا تكون السرعة علّة والنّسيان معلولا، إلا أنّ صاحب البطء سرعان ما يقلب العلة والمعلول فيتدارك: «عصرنا مهووس برغبة النسيان، ولإرضاء تلك الرغبة يؤخذ بشيطان السرعة. فهو يسرع الخطى لأنه يريد أن يُفهمنا أنه لا يتمنى أن يذكره أحد، وأنه تعب من نفسه، محبط من ذاته، ويريد إطفاء الشعلة الصغيرة المرتعشة في ذاكرته». هنا يغدو النسيان هو السبب في التحرر، لا من الماضي وحده، بل من الماضي والمستقبل. وحينئذ يصبح جنون السرعة هو جنون الإفلات من العصر، والانجذاب نحو اللا مستقبل. وهكذا، وعلى عكس ما يبدو لأول وهلة، فإن البطء هو الذي يعطي للزمن اعتبارً، فيستشعر كل لحظة من لحظاته، ويحسب لها ألف حساب، فـ «يترك للوقت شيئاً من الوقت». قوة البطء «ينطوي البطء على قوة خاصة، وهي قوة تجد التعبير المضبوط عنها في العبارة «سم بطيء». يعني ذلك أن مفعوله يتأخر في الظهور، وأنه تدريجي، لكن لا محالة من فعاليته، إذ من المؤكد أنه لن يخطئ الأوعية الدموية كلها. يتميز كل بطء، وعلى الخصوص بطء السّير، بكونه يعمل عمله بكيفية تدريجية، وكونه يخلّف في نهاية الأمر انطباعاً يقلّ نظيره قوة، مادام يخترق الكائن بأكمله» كريستوف لامور
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©