الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

تركيا والتوازن الصعب في النزاع الروسي الجورجي

تركيا والتوازن الصعب في النزاع الروسي الجورجي
25 سبتمبر 2008 01:41
في ''سكاريا'' التي تقع شمال غرب تركيا، وتطل على البحر الأسود، يحلو لسكانها -كما هي عادة أهل الأناضول- سؤال من يرونه وجها غريبًا غير مألوف لديهم حتى لو كان تركيا: من أي ''مملكة'' أنت؟ (وهو تعبير يقصد به الجذور العائلية)؟ فإذا جاء الرد يحمل اسم ''كوزلوك''، سيرد السائل على الفور ''إذن فانت جورجيًا'' فلسبب غير معروف ربما للقرب الجغرافي من جانب، والفقر والهروب من حكم القياصرة القساة من جانب ثان استوطن قبل ما يزيد على قرنين من الزمان مهاجرون جورجيون، حواف هضبة الاناضول خصوصا المطلة على ساحل البحر الأسود، بدءا من ''ريزا'' مرورا ''بطرابزون'' انتهاء ''بسكاريا''، والأخيرة هي التي استحوذت قراها وضواحيها على غالبيـــة هــــؤلاء الجورجييـــن الذين ارتضــوا -بلااستثناء- الاسلام دينا· وتمر العقود ومعها أحداث جسام وتحولات جذرية طالت الأمبراطورية العثمانية التي صارت ذاكرة في التاريخ، ومعها الممالك التي كانت تهيمين عليه في جوارها القيصري وجميعها دخل جبرا الفضاء السوفييتي البلشيفي؛ ورغم كل ذلك مازالت القرية -التي تعيش على عائد محصول البندق- تعنون بالجورجية وقاطينها، وبفضل الهاربين من جحيم أبن وطنهم الرهيب ''جوزيف ستالين'' حتى الآن يمارسون عادات وتقاليد منشأها جورجيا، وشيوخ القرية حتى وقت قريب جدا كانو يتحدثون باللغة الجورجية· وهكذا سوف تحتل جورجيا بشكل أو بآخر جزءا في ضمير الأناضول بيد أن ذكرها سرعان ما يثير في النفوس حنينا جارفا زاد أن هذا البلد سيصبح ركنا في شبكة المصالح التي تنسجها أنقرة مع الكيانات التي انسلخت من الاتحاد السوفييتي القديم وصارت دولا من أجل تواجد أفضل في القوقاز· يأتي في مقدمة تلك المصالح، خط نقل البترول الخام من باكو (اذربيجان) إلى جيهان (تركيا) مرورا بسويسا(جورجيا) والمدعوم من قبل الولايات المتحدة، والذي دشن رسميا في يوليو عام 2006؛ هناك أيضا خط أنابيب الغاز المسمي ''نابوكا'' والذي تدعمه أيضا الولايات المتحدة الأميركية ومعها الاتحاد الاوروبي للحد من الاعتماد على الغاز الروسي؛ وينقل خط ''نابوكا'' المفترض تشغيله عام ،2013 الغاز من بحر قزوين عبر جورجيا إلى تركيا ومنها إلى غرب اوروبا، ولأن أنقرة ممتنة للموقف الجورجي المؤيد لمطالب أذربيجان في أقليم ''ناجورنو كراباخ'' المتنازع عليه مع أرمينيا، تم تدشين مشروع سكة حديد في يوليو الماضي، يربط الاناضول بكل من جورجيا وأذربيجان، وكأنه يعيد طريق الحرير القديم في خطوة جديدة على طريق التعاون الاقتصادي والأمني؛ وفي إطار إلحاح ''تبليسي'' للانضمام للناتو تسارعت الجهود التركية وبمساعدة واشنطن من أجل تحديث الجيش الجيورجي وفق معايير حلف شمال الاطلنطي· لكن النزاع الروسي-الجورجي، أعاد المخاوف الحدودية إلى بؤرة الاهتمام، وها هي التخوم في شمال شرق البلاد تدخل مرحلة جديدة من عدم الاستقرار والقلاقل التي قد لا تنتهي في المستقبل المنظور؛ وهو ما يعني أن منطقة البحر الاسود أحد الهواجس المزمنة التي تعاني منها تركيا ستزداد ابتعادا عن أي منظومة أمنية مستقرة· يبدو أن هذا الوضع تريده روسيا لصد تمدد حلف الاطلنطي الذي تقاومه بشتى الطرق؛ فموسكو بدت للنخبة الحاكمة في أنقرة وكأنها تنتظر غلطة واحدة، حتى تعيد جزءا من هيبة سبق وضاعت بأكملها مع سقوط الاتحاد السوفييتي، فبعد أن زرعت كل ما من شأنه تقويض الثورة الودرية الجورجية السلمية عام ،2003 نصبت الفخ بإحكام في إستونيا الجنوبية، ومعها أبخازيا، ليقع فيه نظام سكاشفيلي؛ ثم تأتي الخطوة التالية المعد لها سلفا والتي تمثلت في رد عسكري حاسم وقاطع، وأمامه لم يكن هناك مفر أمام ''تبليسي'' سوى أن ترفع الرايات البيضاء لتظهر روسيا أمام النخبة في أنقرة، وكأنها لم تتخلص بعد من نزعتها الامبراطورية؛ وربما تأكد لصانع القرار أن هذه النزعة مازالت في قلب الكريملن وسياسته الخارجية التي تثير في أحيان كثيرة حفيظة القائمين على شؤون هضبة الاناضول؛ فعلى سبيل المثال لا الحصر، وقفت موسكــو طوال العقود الثلاثة الماضية حجر عثرة في مجلس الأمن أمام طرح الرؤية التركيـــة حيال جزيرة قبرص المقسمة ثم أنها كانت قبل أربعة عشر عامـــا تقريبا محور أزمة عاتية في المتوسط جراء صفقـــة صواريخ أ س 300 إلى قبرص· المدهش أن العاصمة الروسية لم تشأ أن تصعد أمام تهديد أنقرة القوي بضرب الصفقة قبل وصولها إلى ''لـيماسول''، مستسلمة للإرجاء ثم النسيان وهو ما تحقق بالفعل· موسكو أيضا لن تزيد الضغوط على أنقرة، وستضطر مرغمة على التغاضي عن نشاطات أساطيل جورجيا وأوكرانيا بجانب تركيا في البحر الأسود، وهو ما يعني عمليا وبمساعدة الولايات المتحدة تقويض فاعلية الأسطول الروسي؛ أنقرة في المقابل تعرف جيدا أن التمادي في الصلف أمر غير مرغوب، وبالتالي لا تسعى إلى نكء جراح أو إثارة كرامة هذا الدب النائم، فبطبيعة الحال لن يكون هناك تطابق في الرؤي بين العاصمتين أنقرة وموسكو، وبالمناسبة هذا التطابق وانطلاقا من مآسي التاريخ وتعقيدات الجغرافيا لن يكون موجودا سواء الآن أو ما بعد الآن، لكن لا بأس من الاتفاق حول المصالح وهو ما يعني التوازن الصعـــب؛ فرغــــم تعاطفهــــا مــــع نظـــام سكاشفيلي، إلا أن تركيا لا ترغب في التصعيد بل نجدها وقد تبنت مقولة رئيس المفوضية الأوروبية ''مانويل جوزيه باروسو'' والتي قال فيها: نحن بحاجة إلى أعصاب باردة وليس حرب باردة، ولا بأس من إرضاء روسيا حتى ولو كان الأمر -مؤقتا- على حساب ''تبليسي''· فتركيا سوف تقف على مسافة بين محور أخذ الأحرف الاولى من أعضائه الأربعة جورجيا وأوكرانيا وأذربيجان ومولدافيا والذي راعته واشنطن وانضمت اليه بولندا رومانيا ليتوانيا، كما أنها لن تثير القلاقل أو دعم دعوات الانفصال في مقاطعة ''أجاريا'' الجورجية التي كانت تابعة للامبراطورية العثمانية وتتمتع بحكم شبه ذاتي والغنية بمواردها رغم صغر مساحتها (3000 كيلو متر مربع) وتقع متلاصقة مع الحدود التركية ناحية البحر الأسود بعدد سكان نصف مليون نسمة، معظمهم يدينون بالاسلام؛ كما أنها ستبدي تحفظها حيال السياسات الأميركية في القوقاز، محذرة من مغبة تسخين منطقة البحر الأسود· سلوك النخبة السياسية في تركيا لا يأتي من فراغ بل تمليه مصالح البلاد الاقتصادية المتنامية، فحجم التبادل التجاري الرسمي بين البلدين تجاوز 15 مليار دولار، بالاضافة إلى أن الاستثمارات التركية في روسيا تشهد نموا مضطردا، يتزامن معه معدلات كبيرة من أفواج السياحة الروسية، كل هذا لا يمكن التضحية به أو التفريط فيه على حد تعبير الكاتب الصحفي ''جونجور أوراس''؛ من هنا سيكون مفهوما رغبة العاصمة التركية في وجود حلف قوقازي متعدد الأقطاب والقوى، لا يستثنى منه أحد، تكون مهمته الأساسية استقرار القوقاز، شريطة ألا يكون عوضا عن -أو ضد- الناتو، لكن كيف؟ هذا هو السؤال· سيد عبدالمجيد-أنقرة
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©