الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

مع ذاكرة الطّير ···

مع ذاكرة الطّير ···
24 سبتمبر 2008 23:41
إنّي لست أدري لِمَ يمثُل في ذهني الشاعرُ التونسيّ الكبير أبو القاسم الشابّيّ، وذلك كلّما جئت أتحدّث عن شاعر أو شاعرة من الشعراء التونسيّين الذين كثيراً ما يسْتميزون عن الشعراء العرب بالخوض في الموضوعات المبتكرة والطريفة· وقد أهدتني الشاعرة التونسيّة جميلة الماجري ديوانها: ''ذاكرة الطير'' في مناسبة شعريّة بالجزائر، وألْفيتُ الفرصةَ، اليومَ، مواتيَةً لتدبيج كتابة عَجْلَى عن هذا الديوان الجميل الذي كتبتْه الشاعرة جميلة، ونُشر في حلّة غاية في الأناقة· ولو شئت أن أذكُر طائفة من العناوين الطريفة والمبتكرة، مما تحدّثتُ عنه آنفاً، من شعرها، لذكرْتُ أمثالَ عناوين: ''اللّغة''؛ ''ذاكرة الطير''؛ ''الشعراء''؛ ''ميلاد القصيدة''؛ ''خاطف ظلِّه''؛ ''حديث الشجرة''··· وهلمّ جرّاً من العناوين الشعريّة الطريفة التي وردت في هذا الديوان··· وقد كانت جميلة الماجري أسَرتْ مَسامعَ الحاضرين بقصيدة في غاية الطرافة تتحدّث فيها عن علاقة الوفاء والحبّ بين لسان الدين ابن الخطيب وزوجه حين امتُحِن في مدينة سلا بالمغرب، وقد جاء فارّاً من غرناطة بنفسه وأهله ليلقَى مصيراً أفظع وأشنع··· ونودّ اليوم أن نتوقّف قليلاً لدى قصيدة ''ميلاد القصيدة''، فهذه التجربة على مثولها لكلّ الشعراء من امرئ القيس إلى عبدالكريم معتوق لم يعالجوها بوقفة شعريّة يصفونها كيف تقع لهم، وكيف تصير الفكرة كلاماً، وكيف يستحيل الكلام شعراً، وكيف ينتهي الشعر إلى طفوح جماليّ يُدهش ويبهر··· وقد كنّا نحن توقّفنا لدى فكرة ''الكتابة من موقع العدم''، بعد أن تحدّث عن لحظة الكتابة رولان بارت فجعلها ما أطلَقَ عليه في كتابه الشّهير: ''الكتابة في الدرجة الصفر''··· تقول جميلة الماجري عن هذه الفكرة التي تمثُل، كما قلنا، لجميع الأدباء الذين يُنشئون عالَماً جديداً من عدَمٍ في لحظة سحريّة تقترب من العجائبيّة: ''تأتي القصيدة، في البداية، وردةً وحمامة قُمْريّة وغمامة ورديّة أو نبْتة برّيّة··· لم ينزعوا أشواكَها تأتي كبارقة··· كوعْدٍ بالمطرْ وتلوح مثلَ شعاعِ شمسٍ في صباحاتِ الشتاءِ كطائرٍ من غيرِ اِسمٍ تائهٍ في غابة القَول الكثيفة ناشدٍ فنَناً··· ليبدأَ في الغِناء'' إنّه التّوصيف المتوهّج للّحظة الفاصلة بين الوجود والعدم، أي بين ما لَمّا يكنْ وما يغتدي كائناً؛ وهو ما تصنعه اللّغة الشعريّة المتماثلةُ للشاعر أطيافاً تتأوّب قريحته فيُثبتها على القرطاس مُسرعاً، لتغتديَ عالَماً شعريّاً جميلاً جديداً لم يعرفْه الناس من قبل؛ ذلك بأنّ القصيدة تأتي، بالقياس إلى جميلة الماجري، في مُبْتدأ أمرها كالوردة، وكالحمامة القُمريّة، وكالغمامة الورديّة، وكالنبتة البَرّيّة لم يُنزعْ شَوْكُها؛ بل تأتي كبارقة، كوعدٍ بالمطر الهاتن··· فيستقبلها الشاعر في موكب حميميّ جوّانيّ بقريحته الصافية ليبُثّ كلّ تلك العوالم الحالمة الماثلةَ له إلى الخارج فيعرف النّاس أنّه مرّ بلحظة إبداع عظيمة جاءته من انْثِيال لغة شعريّةٍ لم تَنْثَلْ إلاّ عليه، فتصِف عالماً بديعاً لم يمثُلْ إلاّ له··
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©