الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الطريق إلى فهم التطرف

الطريق إلى فهم التطرف
5 يوليو 2017 19:28

لا يمكن فهم الظاهرة الإرهابيّة، في صيغتها الإسلامويّة الحاليّة، ومن ثمّ البحث في ممكنات معالجتها جذريّاً، والقضاء عليها، إلاّ عبر تفكيك مكوّناتها المركّبة، وتحليل أبعادها، ضمن رؤية نقديّة شموليّة، تستدعي في الآن ذاته شتّى المناهج وآليّات القراءة المعتمدة في العلوم الإنسانيّة على اختلافها، من اقتصاد سياسيّ وأنثروبولوجيا (لا سيّما أنثروبولوجيا الأديان المقارنة) وعلوم نفس واجتماع و»ميديولوجيا» (باعتباره خطاباً نقديّاً حول الإعلام وتضعيفاته). فما نلاحظه في شتّى الخطابات الدارسة للظاهرة المذكورة، على كثرتها وشدّة تنوّعها، أنّ قسماً مهمّاً منها يقتصر على زاوية نظر وتناول وحيدة وعلى تمشٍّ مختزل مرتبط غالباً بتكوين الدارس معرفيّاً و/‏أو موقعه السياسي والإيديولوجي.


يمكن تصنيف الخطابات، التي نجدها سواء لدى الباحثين في الظاهرة التي نحن بصددها (ضمن كتب أو مقالات تتّسم بهذا القدر أو ذاك من «العلميّة» التخصّصيّة) أو لدى «المحلّلين» الذين يتناولونها ضمن منابر إعلاميّة مختلفة، خاصّة منها «بلاتوهات» التلفزيونات الفضائيّة على اختلاف ألسنتها وتوجّهاتها وأهدافها، إلى الأنواع الآتي ذكرها:
= خطاب ذو طبيعة أنثروبولوجيّة يربط الظاهرة الإرهابية بضرب من العنف الأصلي المتلبّس بـ»طبيعة» الثقافة العربيّة الإسلاميّة بما هي ثابتة جوهريّة عبّرت عنها النصوص المقدّسة ذاتها كما عبّرت عن نفسها عبر التاريخ.
= خطاب تاريخي- نفسي- جماعي نقدي يرى في الظاهرة الإرهابية ضرباً من ردّ الفعل الحضاري الارتكاسي بما هو إعادة إنتاج سالب للعنف الذي سُلّط منذ أواسط القرن التاسع عشر على المجتمعات العربية الإسلاميّة من قبل القوى الاستعمارية الكبرى، والذي يتواصل حضوره المذلّ من خلال دولة إسرائيل التي ما زالت تحتلّ جزءاً عالي الرمزية من أرض العروبة والإسلام بدعم مطلق من القوى الغربية المهيمنة في العالم.
= خطاب سياسي- اقتصادي- اجتماعي يركّز في فهم الظاهرة وتحليلها على ربطها بحالة التردّي التي تعاني منها قطاعات واسعة من الشباب العربي المسلم، لا سيّما ذاك المنتمي إلى الأحياء الشعبيّة التي تشكّلت على هامش المدن الكبرى وفي مختلف المناطق المهمّشة بفعل انعدام سياسات تنمية ناجعة وعادلة من قبل دول الاستقلال التي ظلّ القائمون عليها مرتبطين بالدوائر الاستعمارية القديمة منها والجديدة.
= خطاب ميديولوجي- نقدي يربط الظاهرة الإرهابيّة بالتكاثر السريع بداية من مطلع تسعينات القرن المنقضي للمنابر الدينية في القنوات التلفزيّة الفضائية العربية التي تبثّ خطاباً دينيّاً متشدّداً، بل متعصّباً، لا يكفّ عن الحثّ على التمسّك بالهويّة، ونبذ قيم «الغرب الكافر» (من حرّية وديمقراطية وعلمانية ومساواة بين الجنسين)، وعلى «الجهاد» ضدّه وضدّ «عملائه» ومقلّديه في المجتمعات العربية الإسلامية.
= خطاب سياسي «تآمري» يرى في الظاهرة الإرهابية «إنتاجاً» غربيّاً عولميّاً صرفاً (أمريكيّاً- صهيونياً على وجه التخصيص) بالرجوع إلى احتضان عديد العواصم الأوروبية أو الأمريكية الشماليّة لمجموعات إسلامويّة تمّ تمكينها من كلّ الظروف الملائمة للتكاثر والتنظّم الجيّد و»انتداب» الشباب المهاجر وتكوينه «جهاديّاً». كما يركّز هذا الخطاب على الدور المركزي لتلك القوى الغربية للجماعات الإرهابية في المنطقة عبر تسهيل سيولة المال والسلاح (رغم مقاومته الظاهرة). وهي سياسة تهدف، حسب هذا الخطاب إلى زرع تلك «الفوضى الخلّاقة» (حسب العبارة الشهيرة التي أطلقتها كونداليسّا رايس خلال الحرب على العراق) باعتبارها منطلقاً إلى إعادة تشكيل جذريّة للمنطقة العربية الإسلامية ضمن ما سمّي «الشرق الأوسط الكبير» بحسب المصالح البعيدة المدى للقوى العولمية المهيمنة.

مشروعيّة
إنّ كلّا  من هذه الخطابات النقدية التحليلية، إذا ما نظرنا إليه من داخله، يمتلك ولا شكّ مشروعيّته الخاصّة. فهو من ناحية متناسق من جهة الصلة المنطقيّة الصارمة بين مقدّماته ونتائجه. كما أنّه، إذا ما وضعناه على محكّ الوقائع التاريخيّة، يجد من بينها الكثير ممّا يدعمه ويؤكّد وجاهته. لكنّ كلّا منها أيضاً يشكو قصوراً نظريّاً ما بفعل تأسّسه على أطروحة - مصادرة قابلة للتنسيب الشديد بل وللتفنيد أو التقويض الجذري إذا ما نظرنا إليها من خارجها، أي من موقع واحد من الخطابات التفسيريّة الأخرى مثلًا. كما أنّ الوقائع «العنيدة» يمكنها أن تبيّن محدوديّة كلّ منها إذا ما نزع إلى أن يكون يقينيّاً نهائيّاً منغلقاً على مسلّماته.
خذ مثلا الخطاب الأنثروبولوجي، ذا الخلفيّات الاستشراقيّة الذي تمّ تكريسه بالتوازي مع الحركات الاستعمارية الكبرى (البريطانية والفرنسية تحديدا) خلال القرن التاسع عشر. إنّه ينبني على مصادرة تجد ما يدعمها في «طبيعة» الشخصيّة العربية الإسلامية من مظاهر عنف انفعالي. كما أنّها تجد في النصوص الدينية التأسيسية (من قرآن وسنّة) كمّا لا بأس به من الدلائل على التوجّه الحربي الإرهابي (مقارنة مع نصوص دينية أخرى على الأقل) الذي تنطوي عليه، والذي تؤكّده الكثير من الوقائع والمسارات التاريخيّة. لكنّ ذلك التناول يشكو قصوراً نظريّاً شنيعاً إذا ما واجهناه بنصوص أخرى، داخل ذات المرجعيّة، وبدلائل لا عدّ لها ولا حصر على «طبيعة» مغايرة لذات الشخصيّة في حقب تاريخيّة مختلفة. فالمطعن الأساس في ذلك الخطاب أنّه لا- تاريخي ومفتقر للديناميكيّة والنسبيّة التي يشترطها كلّ خطاب نقدي. وهو يغفل علاوة عن ذلك عن أطروحة أساسيّة في نظرنا. أطروحة خلدونيّة نعتبرها من جهتنا مفتاحاً أساسيّاً لفهم الظاهرة الإرهابية ونوعيّة الانغلاق والتعصّب الذي ينتجها وحالة «العمران» المؤاتية لظهورها: إنّه ذلك التأكيد الخلدوني على أنّ الأمم تكون متسامحة مفتوحة على شتّى الفنون وضروب اللهو والمتعة وحتّى «الهرطقة» لمّا تكون منيعة عسكريّاً ومزدهرة اقتصاديّاً. أمّا لمّا تكن في طور الانحدار والترهّل، فإنّها تنتج حتميّاً شتّى أنواع التزمّت والتشدّد والتعصّب والانكفاء الهووي المؤدّية إلى «الإرهاب»، بلغتنا وليس بلغة صاحب «المقدّمة» بطبيعة الحال.
أمّا الخطاب، ذو المرجعيّة الماركسيّة، الذي يرجع الظاهرة الإرهابيّة إلى الوضعيّات الاقتصاديّة-الاجتماعيّة التي تعيشها القطاعات الأوسع من شباب الأحياء-الأحزمة الشعبية والمناطق المهمّشة والمستبعدة من التنمية في غالبية البلدان العربية، فإنّه يجد من الدعائم النظريّة ومن الوقائع التاريخيّة ما يؤكّد وجاهته: الترابط المؤكّد بين المعيش الفعلي للناس وبين أشكال وتعبيرات الوعي الذي يتكوّن لديهم في علاقة بواقعهم. وكذلك الكثير من البحوث الإحصائيّة التي أكّدت الأصول الاجتماعية المتردّية لغالبيّة الشباب «الجهادي» الذي تمّ تجنيده في العديد من مناطق العالم (من تونس والجزائر ومصر كأمثلة دالّة). لكنّ هذا الخطاب يبقى بدوره قاصراً ومحدوداً لغّا ما انتبهنا أوّلا إلى كون العلاقة بين «البنية التحتية» و»البنية الفوقيّة» ليست، ولم تكن يوميّاً على ذلك الشكل من الميكانيكيّة الاختزاليّة. أمّا من جهة الوقائع التاريخيّة فيفنّد ذلك الخطاب (أو ينسّبه كثيراً على الأقلّ) وجود الكثير من الإرهابيّين ذوي الأصول الاجتماعية «الرفيعة» وحتّى التكوين العلمي المتقدّم. وأبرز مثال على ذلك مجموعة تفجيرات «11سبتمبر» الذين تبيّن أنّ غالبهم كانوا ذوي انتماءات طبقيّة مرفّهة وتكوين علميّ متقدّم...
وقس على ذلك فيما يخصّ باقي الخطابات التفسيريّة التي سلف أن أوردنا بعضها: ثمّة في كلّ مرّة ما يدعم ذلك الخطاب نظريّاً ووقائعيّا، ولكن ثمّة أيضاً مثالب نظريّة مؤكّدة ووقائع عنيدة وأمثلة مضادّة تبيّن قصوره وضرورة عدم المجازفة بالتسليم به، وإلّا وقعنا ضرورة في فهم جزئيّ للظاهرة الإرهابية في تراكب وتعقّد مكوّناتها وتعدّد أبعادها وأسبابها ومن ثمّة في ممكنات معالجتها والقضاء عليها على الأمدية المتوسّطة والبعيدة.

أين الحل؟
ما الحلّ إذن؟ وكيف السبيل إلى ذلك الفهم وإلى تلك المعالجة؟
قلنا أعلاه أنّ رؤية نقديّة شموليّة تأخذ بعين الاعتبار جوانب الوجاهة في كلّ واحد من تلك الخطابات التفسيريّة ضروريّة لفهم الظاهرة وتحليها ومقاومتها. وأشرنا في طيّات الخطاب إلى الأطروحة الخلدونيّة الحاسمة حول الترابط المؤكّد بين الانحدار الحضاري وبين الظاهرة التعصّبيّة الإرهابيّة. ولنضف، لنختم عنصراً لا يقلّ أهمّيّة، فيه أيضاً عودة إلى عنصر تفسيريّ يشكو بدوره من قصور فادح: إنّ إرجاع الظاهرة الإرهابيّة إلى عنصر ردّ فعل سالب على شتّى الممارسات الاستعماريّة والهيمنيّة، القديم منها والجديد، لا بدّ أن يتمّ تنسيبه بالإشارة إلى عنصر يبدو لأوّل وهلة مفارقاً. إنّه التواشج الداخليّ، الذي يحاول الكثيرون إخفاءه والتعمية عليه، بين قوى استعماريّة ومخابراتية قديمة وجديدة وبين توجّهات إيديولوجيّة إسلامويّة تدّعي ظاهراً الدفاع عن الهويّة العربية الإسلاميّة والمقاومة باسمها وتمارس فعليّاً أشكال فعل سياسيّ تخدم، من خلال التنظيمات الإرهابيّة وكيفيّات دعمها والتسويق لها، سلوكات مدمّرة للمجتمعات التي تعشّش فيها. فالتنظيمات الإسلامويّة عموماً، كما أثبتت ذلك الدراسات التاريخيّة التي نظرت عن قرب في كيفيّات نشأتها وتطوّرها، لم يكن يمكنها أن تترعرع، وتغدو على هذه الدرجة من الحضور الذي نراها عليه اليوم، لو لم تكن مدعومة بقوى استعماريّة ومحتضنة من قبل دول «اصطناعيّة» في المنطقة يحمل الخطاب الإعلامي الذي تموّله شحنات هوويّة مقاومة في ذات الوقت الذي تشتغل فيه داخليّاً على تكريس النظام العولمي المهيمن الذي منتهاه كتم أنفاس أيّ نبض تحرّريّ مقاوم يبتغي المضيّ عميقاً نحو اجتراح مقاومة مبدعة من أجل عالم تسوده قيم الحرّية والكرامة والعدالة والمساواة.

الحل في التّفكيك
لا يمكن فهم الظاهرة الإرهابيّة، في صيغتها الإسلامويّة الحاليّة، ومن ثمّة البحث في ممكنات معالجتها جذريّا والقضاء عليها إلاّ عبر تفكيك مكوّناتها المركّبة وتحليل أبعادها ضمن رؤية نقديّة شموليّة تستدعي في الآن ذاته شتّى المناهج وآليّات القراءة المعتمدة في العلوم الإنسانيّة على اختلافها، من اقتصاد سياسيّ وأنثروبولوجيا (لا سيّما أنثروبولوجيا الأديان المقارنة) وعلوم نفس واجتماع و«ميديولوجيا» (باعتباره خطاباً نقديّاً حول الإعلام وتضعيفاته).

المفتاح الخلدوني
ثمة أطروحة أساسيّة في نظرنا، أطروحة خلدونيّة نعتبرها من جهتنا مفتاحا أساسيّا لفهم الظاهرة الإرهابية ونوعيّة الانغلاق والتعصّب الذي ينتجها وحالة «العمران» المؤاتية لظهورها: إنّه ذلك التأكيد الخلدوني على أنّ الأمم تكون متسامحة مفتوحة على شتّى الفنون وضروب اللهو والمتعة وحتّى «الهرطقة» لمّا تكون منيعة عسكريّاً ومزدهرة اقتصاديّاً. أمّا لمّا تكون في طور الانحدار والترهّل، فإنّها تنتج حتميّاً شتّى أنواع التزمّت والتشدّد والتعصّب والانكفاء الهووي المؤدّية إلى «الإرهاب»، بلغتنا وليس بلغة صاحب «المقدّمة» بطبيعة الحال.

تمشٍّ مختزل
ما نلاحظه في شتّى الخطابات الدارسة للظاهرة المذكورة، على كثرتها وشدّة تنوّعها، أنّ قسماً مهمّاً منها يقتصر على زاوية نظر وتناول وحيدة وعلى تمشٍّ مختزل مرتبط غالباً بتكوين الدارس معرفيّا و/ أو موقعه السياسي والإيديولوجي.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©