الثلاثاء 19 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

بئْس الوِرْد المورود

بئْس الوِرْد المورود
6 يوليو 2017 01:42
في زمن «ما بعد الحقيقة» الذي نعيشه، وعلى مشارف زمن «ما بعد القِيَم» الذي يتهدّدنا، ما عاد المال الآسن يقنع بشراء الذمم في دوائر الاقتصاد وعالم السياسة فحسب، بل غدا الرهان على الانطلاق من قاعدة أعمق، كانت في ما مضى نائية وهي قاعدة المخزون الحضاري، تقديراً من أصحاب المال الآسن أنّ من يضع يده على ذلك المخزون بوجهيه الثقافي والروحي تذعن له كل السلطات الأخرى. خلال مراحل سابقة، كان قادة الرأي والفكر، على تنوع فئاتهم وتباين مشاربهم، بمثابة الزهّاد، فهم «ملح الأرض» يشْغلهم حلمٌ رومانسي في الغالب بتحوير العالم، حيث التصور السائد في أوساطهم أنه كلما زاد تعفّفهم وتقشّفهم ازداد أثرهم. كان هذا المنزع الصوفي في النظر إلى العالم حائلاً دون السقوط، حتى أن شراء الذمم من قِبل أرباب المال الأسود، ممن باتوا يعملون جاهدين لإدخال كل المنتجات المعنوية إلى بورصة الربح، ما كان رهانهم على أصحاب العقول والمبادئ كبيراً، وكان النفور بينهما هو القاعدة والتقارب هو النشاز، ولكن ذلك زمن وهذا زمن. ففي الزمن الحالي ثمة متاهة يعيشها «المثقف العربي» و«الفقيه العربي» كاشفة عن أخرى أشدّ، ألا وهي تخبّط العقل. بعد أن بات هيناً على المال الأسود، أن تتداعى إلى موائده شراذم كثر جياع عطاش. أدمن حشدٌ منهم العطالة حتى باتوا عرضة للبيع في المزاد ومن دون مزاد، فإكراهات التكسّب التي يعيشها جمعٌ غفيرٌ جعلت كثيرين يبحثون عن الارتزاق، ويتغاضون عمّا كان يُعرف بـ«رسالة المثقف» و«دور المثقف». والحال أن الإبداع والمال خطّان متوازيان لا يلتقيان، لعلّ ذلك ما يُستشَفّ من نُصح المسيح لحواريه: «لا تقدروا أن تخدموا الله والمال (وكلمة المال الواردة في نص الإنجيل العربي هي «مامون» في آرامية المسيح: أي إله الجشع)»، وهو ما أثبته قول الحق في محكم تنزيله: «مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ». منزلق خطر لقد حصل منزَلق خطيرٌ في الاجتماع العربي منذ أن جنّد المالُ الأسود المثّقفَ والإمامَ إلى صفّه، مانحاً كليهما قدرات خارقة للسطو على وعي الناس وضمائرهم، وهذا الأمر خير ما تجلى في شخصين ممثّلين لخطين، أحدهما أيديولوجي قومجي والآخر ديني إخواني، كان تأثيرهما عميقاً على مدى سنوات: هما المثقف عزمي بشارة والفقيه يوسف القرضاوي، الأول يدفع خطُّه صوب انفصام مع العالم والثاني يعيد إنتاج وعي قروسطي بديننا بعد أن اختطفه في غفلة منا. سُخّرت لكل منهما ولخطّيهما الجامعات والمجلات والصحف والمراكز والقنوات والمنابر والجوامع والإمكانات المادية، حتى استفقنا على هول الكارثة وقد تمزقت الأوطان ودبّ الاقتتال في ديارنا ولدى أجوارنا. فأن تكون مثقفاً فاعلاً ومؤثراً في الراهن يعني أن تغدو مترَفاً، وأن تدخل بورصة المال والأعمال، وإن لم تدخل بورصة المال فعلى الأقل أن تشايع أرباب عالم الأعمال. وهو السقوط المدوّي للمثقف والثقافة الذي يعيشه عالمنا الراهن والمتجلّي في تبضيع الإبداع وتحويله إلى منتج على غرار سائر المنتجات الأخرى، محكوم بمنطق العرض والطلب، فكل مثقف وكل فقيه من ذلك الصنف الموظَّف (على غرار بشارة والقرضاوي)، صار مستهلَكاً حتى العظم ومستنزَفاً إلى النخاع إعلامياً ودعائياً، وما عاد إبداعه يُصنع في خلوته، وإنما ألَقه في اصطفافه جنب أصحاب المال الأسود، ممن يغدقون عليه ويعلون شأنه. ونحن في بلاد العرب محنتنا مضاعَفة، لأن مالَنا هادر ومثقّفنا فاتر. مالُنا هادر لأن «ماموناته» يتصورون شراء كل شيء، وبالفعل فقد بات بوسعهم اقتناء كل شيء، لأن مقولات القيمة، والرمزية، والالتزام، والأصالة، باتت منتجات تُصنَّع في الحين، وتُحوَّر حسب الطلب، وتحاك على المقاس. باتت القيم والقضايا والأهداف سلعاً آنية، يتناقض ما يرُوَّج منها اليوم مع ما سيُروَّج غداً، فالزمن السائل الذي يتحدث عنه الفيلسوف البولندي زغمونت باومان بشأن سمة «السيولة» التي تطبَعُ عالمنا: «المجتمع السائل»، و«الحداثة السائلة» و«العلاقات السائلة»، يملي إدراج الثقافة والمثقف ضمن هذا الواقع السائل والمائع، والذي بات عصيّاً على الفهم مع من هاجر الهجرتين وشهد القبلتين، أي من شهد عصر التصوف الثقافي وداهمه عصر التبضيع المالي. ذاك بشأن المال الهادر، وأما المثقف الفاتر فهو عربي بامتياز، بموجب حالة التخثر التي تعاني منها دورته الدموية، فالمثقف الراهن لا يقف على أرضية عقلية صلبة، ومن ذلك العوز جاءت جلّ  مآسيه، لذلك تفوق شحنة الزيغ والهوى شحنة التعقّل لديه بأضعاف، ومن هذا الباب سَهُل استدراجه. فقد دخل المثقف زمن التسليع قبل أن تعلِن أزمنةُ ما بعد الحداثة والرأسمالية الجديدة موتَ المثقف، وقبل أن تحوِّله إلى كائن تجاري قابل للبيع والشراء والمضاربة، فالمصدر المشترك لذلك الحيف هو البراديغم الرأسمالي الغربي، كما يقول عالم الاجتماع البرازيلي الفرنسي ميكائيل لوفي، والذي يجد تعبيره الحالي في الليبرالية الجديدة وفي «دِين رأس المال»، دِين إضفاء الطابع الوثني على البضاعة، مع معابدها (البنوك)، وإكليروسها (الممولون)، ولاهوتها (المتكوّن من رجالات الاقتصاد). زمن أسود ففي زمن المال الأسود جرى تهذيب المثقف وصقله ونزع شوك النقد من قلمه، أو بعبارة مغايرة جرى «تحضيره» (من الحضارة)، تبعاً لما يقتضيه انضمامه إلى جوقة أرباب المال. في ما مضى، ما كان أصحاب المال يعنيهم شأن الرأسمال الرمزي الذي تحدّث عنه الفرنسي بيار بورديو، وأما اليوم فهو شغلهم الشاغل يتقصّون مسارب السلطة الرمزية والثروة الرمزية، بقصد تسليع كل شيء من خُلق ودين، حتى بتنا نتحدث عن «السوق الدينية» وما تقتضيه من رضوخ لمنطق العرض والطلب. المال الأسود مدفوع نحو صنع الفتن وليس إلى الإعمار، لذلك تراه يُبذَل على البهرجة الثقافية، أضعاف ما يُصرَف على الاستثمار الحقيقي في الكلمة والثقافة. أتساءل هل ثمة مساع جادة لتبْيِئة المعارف الرصينة، وزرع بذور العقلنة، وإدراج العلمية في استهلاك الناس الديني والثقافي؟ ضئيل ذلك ويسير، بل جلّ  الهمّ تحوّل إلى البهرجة والديكور. مرّت ستة عقود أو ما يزيد على استقلالاتنا الوطنية ولا زلنا دون تحقيق الكفاية في المعارف الضرورية. أضرب مثلاً بشأن الحقل المعرفي الذي أشتغل فيه منذ ما يناهز ربع قرن وهو حقل الدراسات العلمية للأديان، ما الذي أنجزنا فيه وبأي ترجمات أثريناه، وبأي أبحاث أو مثاقفات عمّقناه؟ مع أن جانباً كبيراً من مآسينا متأتٍّ من حقل المقدس ومن انفجاراته الفجئية، فالدين معرفة وليس حماسة، والعلوم الدينية معارف وليست أهواء: فأي إضافات لنا في علم الاجتماع الديني، وفي فينومينولوجيا الأديان، وأنثروبولوجيا الأديان، وتاريخ الأديان، وعلم مقارنة الأديان، وعلم النفس الديني، وهي مداخل أساسية للإحاطة بالظواهر الدينية وفهم ذواتنا؟ والشيء بالشي يذكر، فبفعل مراقبتي للواقع الديني العربي كنتُ على مدى سنوات من متابعي برنامج «الشريعة والحياة» في قناة الجزيرة القطرية الذي يؤثِّثه الشيخ يوسف القرضاوي وجماعة شيوخ «اتحاد علماء المسلمين». لن أدخل في مهاترات بشأن ما صار من الماضي، ولكن البارز أن المكوَّن العقلي والمنطقي لدى خِرّيجي «مدرسة الإخوان» واهنٌ وهشٌّ، وهو ما من شأنه أن يقود إلى وعيٍ بالدين قروسطي عقيم، ويعيد إنتاج الخرافة والأسطورة والفتوى المغتربة، ومن ثمَّ يقود إلى الانفجار عاجلاً أم آجلاً، وهو ما تعيش بلاد العرب تبعاته. مال للتدمير لا للتعمير يتساءل المرء أحياناً عن المال العربي الوافر لماذا لم يَصنعْ نهضة في بلدان موحَّدة جغرافياً وتاريخياً، وتراثاً وحضارة، ومشاعر وأحاسيس؟ وصنَعَ قشوراً من التحضر سرعان ما تتطاير مع هبة كل ريح عاتية، وبنى أشباه إنجازات سرعان ما توقفت مع رحيل كل حاكم، أين يكمن الخلل وأين يتخفّى الداء؟ الواقع أنه لطالما خدعنا أنفسنا بتحكم الآخر الغربي، في مصيرنا، وعلَّلنا المسألة بأنه لا يريد لنا خيراً ويتعقّب تقدّمنا، ولكن القراءة الواعية تبرز ألاّ عدوّ لنا ألدّ من أنفسنا، وألاّ عقبة لنهضتنا أكثر من ذواتنا العليلة. نظرتنا القاصرة للإنسان والتاريخ طمست الصواب أمام أعيننا، فلدينا تلذذ ساديّ بتدمير ما لدينا، وهدر لطاقاتنا في العبث، واللامعنى، والعنف، والقتل، والسحل، واللّغو، والهراء، وبالمقابل لدينا نفور مما ينفع الناس ويمكث في الأرض، فلا ينفعُ الغنى في يوْم السَّخط، كما يقول النبي حزقيال في سِفْره. فأن يصير بلد حباه الله بثروة هائلة مثل دولة قطر مأوى لصنّاع اللامعقول الديني، وتغدو منابره الإعلامية محطات لترويج الهرج السياسي، هو عين تحول النعمة إلى نقمة، والأمر لا يتطلب سوى وقفة تأمل ومراجعة. كانت خطوات الانتهاض العربي في فجر الاستقلالات، على تواضع الإمكانيات، عملاقةً مقارنة بالاستدمار الذاتي الذي نشهده اليوم، فقد صرنا نعيش حفلَ  تفتيت الأوطان على المباشر في القنوات، و«قناة الجزيرة» إحداها وكأن ذلك منتهى الإنجاز والبناء. ثمة انقلاب في مدارك العقل وفي مكامن الإحساس أفْقدا المرء الرشاد لتمييز الفعل التاريخي من العبث التاريخي، ليتساوى التخريب بالإعمار، فنحن بحق نعيش زمن المال الذي أعمى البصيرة. فلا مراء أن الشعوب لا تنهض سوى ببثّ ثقافة بديلة في الناس، وهذا ليس كشْفاً جديداً، وإنما قاعدة اجتماعية سارية في الخلق، وبلاد العرب التي ينخرها السوس من كل جانب لِتنجوَ بما تبقى من كيانها ملزَمة بإنهاء ثقافة الفوضى وطرح ثقافة رشيدة، وهذه الثقافة البديلة ليست عزيزة. البيروفي غوستافو غوتيراز في كتابه المعنون بـ«لاهوت التحرير-السياقات»، لعلّه أتى على خلاصة ما يكابده العرب. نجده يلحّ في مستوى أوّل على ضرورة تهشيم الثنائية المتوارثة: فلا وجود لواقعين، أحدهما «زمني» والآخر «روحي»، أو تاريخين، أحدهما «مقدّس» والآخر «مدنّس». هناك تاريخ موحَّد، وفي حضن ذلك التاريخ الإنساني والزمني ينبغي أن تتحقق العدالة الاجتماعية. لا يتعلّق الأمر بترقّب الخلاص من أعلى لأن الخروج التوراتي يبيّن لنا وبشكل لا لُبس فيه «أن بناء الإنسان عملٌ من صنعه، يتأتى تبعاً لنضاله»، كما أن مسار الخلاص يغدو مساراً جماعياً و«شاملاً» بعد أن كان خياراً فردياً وخاصاً، حيث لا يتمثل الرهان في أن ينجو المرء بنفسه، بل في خلاص شعوب بأسرها وتحررها، ترزح تحت نير الاستعباد، فليس الفقراء، ضمن هذا السياق، مجرد موضوع للشفقة أو هدف للإحسان، لكنهم على غرار سائر المستضعَفين، صنّاع تحررهم، فلا ينبغي للمرء أن يعزّي النفس بقول المسيح (ع): «لأن يدخل جملٌ في سمّ الخياط أهون من أن يدخل غني ملكوت الربّ»، بل إن يأخذ قدره بيده ويمضي. أين يكمن الداء؟ يتساءل المرء أحياناً عن المال العربي الوافر لماذا لم يَصنعْ نهضة في بلدان موحَّدة جغرافياً وتاريخياً، وتراثاً وحضارة، ومشاعر وأحاسيس؟ وصنَعَ قشوراً من التحضر سرعان ما تتطاير مع هبة كل ريح عاتية، وبنى أشباه إنجازات سرعان ما توقفت مع رحيل كل حاكم، أين يكمن الخلل وأين يتخفّى الداء؟ تحول النعمة إلى نقمة أن يصير بلد حباه الله بثروة هائلة مثل دولة قطر، مأوى لصنّاع اللامعقول الديني، وتغدو منابره الإعلامية محطات لترويج الهرج السياسي، هو عين تحول النعمة إلى نقمة، والأمر لا يتطلب سوى وقفة تأمل ومراجعة. تطويع المثقف المثقف العربي دخل زمن التسليع قبل أن تعلِن أزمنةُ ما بعد الحداثة والرأسمالية الجديدة موتَ المثقف، وقبل أن تحوِّله إلى كائن تجاري قابل للبيع والشراء والمضاربة. فالمصدر المشترك لذلك الحيف هو البراديغم الرأسمالي الغربي، كما يقول عالم الاجتماع البرازيلي الفرنسي ميكائيل لوفي، والذي يجد تعبيره الحالي في الليبرالية الجديدة وفي «دِين رأس المال»، دِين إضفاء الطابع الوثني على البضاعة، مع معابدها (البنوك)، وإكليروسها (الممولون)، ولاهوتها (المتكوّن من رجالات الاقتصاد). ففي زمن المال الأسود جرى تهذيب المثقف وصقله ونزع شوك النقد من قلمه، أو بعبارة مغايرة جرى «تحضيره» (من الحضارة)، تبعاً لما يقتضيه انضمامه إلى جوقة أرباب المال. مطلوب ثقافة بديلة لا مراء أن الشعوب لا تنهض سوى ببثّ ثقافة بديلة في الناس، وهذا ليس كشْفاً جديداً، وإنما قاعدة اجتماعية سارية في الخلق، وبلاد العرب التي ينخرها السوس من كل جانب لِتنجوَ بما تبقى من كيانها ملزَمة بإنهاء ثقافة الفوضى وطرح ثقافة رشيدة، وهذه الثقافة البديلة ليست عزيزة. البيروفي غوستافو غوتيراز في كتابه المعنون بـ«لاهوت التحرير-السياقات»، لعلّه أتى على خلاصة ما يكابده العرب. نجده يلحّ في مستوى أوّل على ضرورة تهشيم الثنائية المتوارثة: فلا وجود لواقعين، أحدهما «زمني» والآخر «روحي»، أو تاريخيْن، أحدهما «مقدّس» والآخر «مدنّس». هناك تاريخ موحَّد، وفي حضن ذلك التاريخ الإنساني والزمني ينبغي أن تتحقق العدالة الاجتماعية.  
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©