الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الزوجة المزيفة

الزوجة المزيفة
1 يوليو 2010 21:29
ورثت الطب أباً عن جد كان أبي وجدي استاذين في كلية الطب، وأصبحت مثلهما حباً في هذه المهنة الإنسانية الراقية التي عشقتها وتربيت في كنفها وبين ايدي أساتذتها الذين كانوا زملاء أبي، ونتزاور معهم، وقد أعطتنا أكثر مما أعطيناها، ومنحنا الله سبحانه وتعالى بسببها رزقاً وفيراً، ومالاً كثيراً، فبجانب أنني نشأت في رغد من العيش، وأتيت إلى الدنيا لأجد في فمي ملعقة من ذهب، وأقيم في فيلا بمنطقة راقية، لا يحلم بها كثير من الأغنياء، فإن ذلك كان داعماً لتفوقي ومواصلة الريادة العلمية في أسرتي فأمي هي الأخرى أستاذ بالجامعة ولكن في كلية نظرية، وفي هذه الأجواء العلمية وجدتني أسبح في العلوم والمعارف وأغوص في الأبحاث والكتب والدراسات، وأجد الدعم والتشجيع والمكافآت على الإنجازات التي أحققها، فكانت تدفعني لتحقيق المزيد من النجاح، ووضعت أمام عيني هدفا لا أحيد عنه، وهو الالتحاق بكلية الطب ثم العمل أستاذا بها، كي لا أكون مجرد طبيب عادي مثل الآلاف الذين يعرفهم الناس، إنما أريد أن أكون مثل أبي وجدي وأمي، وكانت السيارة الفارهة عند التحاقي بالكلية هدية تفوقي ووضع قدمي على أول الطريق الذي أريده وتريده عائلتي، وقد التقينا جميعا عند هدف واحد نسعى إليه. وأثناء الدراسة لم يكن يدانيني في هذه المميزات غير زميلة واحدة، جميلة أنيقة تقيم أيضاً في فيلا بمنطقة تماثل المنطقة التي أعيش بها وترتدي أفخر الملابس على أحدث الصرعات وصيحات الموضة العالمية، تحركت مشاعري نحوها، وأنا أعلم أنها مشاعر راشدة، وليست من تصرفات المراهقين، لكنني خشيت أن أبوح بأحاسيسي، والسبب الوحيد أنها من عائلة كبيرة جداً وكما أخبرتنا فإن والدها كان مرشحاً لتولي وزارة التربية والتعليم في بعض الأوقات، وتتعامل مع جميع زملائها وزميلاتها على أنها ابنة وزير، وخشيت أن يكون مصير طلبي الرفض رغم أنه لا يوجد ما يعيبني، غير أن هناك بعض الفوارق الدقيقة، ولا أحب أن أمر بتجربة فاشلة، بل أن هذه الكلمة لا محل لها ولا وجود في قاموس حياتي كله، ولم اقدم نحو هذه الخطوة إلا بعدما تأكدت من أن الطريق ممهد تماما وأنها ستوافق على الارتباط بلا أدنى تحفظات. وتخرجنا وتزوجنا، وانتقلنا إلى عش الزوجية الذي لا يقل عن المستوى الذي نشأت فيه، بل كان أيضا فيلا وفي مكان راق، وكان وكيل زوجتي خالها الذي تقيم معه وتناديه «اونكل» كما اعتادت أن تتكلم بكلمات أجنبية في كل حديثها، حتى يكاد الذي لا يعرفها يشك أنها تجيد اللغة العربية، ولم يكن لها أخوة ولا أخوات وان أمها توفيت منذ فترة، وبسبب مرض والدها لم يحضر العرس، وانغمست أنا وزوجتي في حياتنا العلمية والعملية، بعد تعييننا معيدين بالكلية وانشغالنا بالدراسات العليا والماجستير والدكتوراه، حتى رزقنا بطفلنا الأول بعد الأربعين من العمر، وكان لكل منا عيادة ونعيش في استقرار ومن الله علينا بطفل وطفلة آخرين، زرعت فيهم أمهم طريقتها في الحديث والتعامل مع الآخرين، وحتى أتجنب الخلاف تركت لها ذلك، غير أنني كنت أوازن الأمور وأعيد تصويبها كلما سنحت الفرصة. وها أنا في الخمسين من عمري وأمس احتفلت مع زوجتي وابنائنا الثلاثة بعيد زواجنا الخامس والعشرين، ربع قرن بالتمام والكمال مر على هذا الحادث السعيد، كل ما يشغل بالي هو مستقبل ابنائي احلم لهم كما يحلم لي أبي، اريدهم متفوقين ناجحين في حياتهم، ورغم ما أنا فيه من خير ونعم لا ادري إن كنت أريدهم أن يكونوا مثلنا أم يجب أن يختاروا طريقهم كل حسب ما يريد، وان كان الحكم على هذه الأمور مازال مبكرا لكنها تشغلني وتسيطر على تفكيري، وفي الحقيقة هي لا ترقى لأن تكون مشكلة، واليوم توجهت إلى العيادة في المساء، كما تعودت وبينما أطالع بيانات المريض الذي أمامي فوجئت بأن اسمه مطابق لاسم والد زوجتي، رجل في الخامسة والستين أحيل إلى التقاعد منذ خمس سنوات، تبدو عليه آثار الزمن والمعاناة والفقر، ومن قبيل الدردشة وبث الطمأنينة في نفسه، وكما هي طريقتي في التعامل مع المترددين على العيادة، سألته عن عمله فقال إنه كان «عاملا» بسيطا في إحدى المدارس ثم سألته عن أبنائه، فقال إن له خمسة من البنين والبنات، واحدة منهم طبيبة فعاودت السؤال ولماذا لم تعالجه، قال إنها تقاطعه منذ أن كانت في المرحلة الثانوية، فسألته عن اسمها، فإذا به يهوي على رأسي بحجر صلد، ويذكر لي اسم زوجتي فاتهمت نفسي بعدم إجادة السمع وأعدت كل الأسئلة على الرجل كأنني تحولت من طبيب إلى وكيل نيابة يحقق في جريمة غامضة ويريد أن يصل فيها إلى الحقيقة. سالت من عيني الرجل دمعات ساخنة، وخنقته العبرات، وعرقلت الكلمات التي انحشرت في حلقه ولم يقو على إخراجها، وقد كنت مثله غير أنني أزيد عنه أنني كنت أتلقى كلماته كأنها رصاصات تخترق أذني، وهو يخبرني بقصة ابنته أي زوجتي كاملة، ولو أن أحدا ذكرها لي ما صدقته ولو شاهدتها في فيلم سينمائي، لانتقدته لعدم معقوليته وعدم صلته بالواقع، وكأن الرجل وجد متنفسا للحديث، وكأنني وجدت ضالتي وإجابات عن تساؤلات قديمة، قال: نظرا لوظيفتي المتواضعة في التربية والتعليم وعدم قدرتي على الإنفاق على أسرتي، وافقت على إلحاق ابنتي الكبرى لتعمل خادمة عند رجل ثري، وذكر لي مكان مسكنه وهو الذي قالت عنه زوجتي انه «أونكل» أو خالها، وتأتيني ببعض المبالغ التي تعينني على تربية اخوتها وتولى الرجل تربيتها وتعليمها، ولأنه لم يكن له أبناء ولا بنات اعتبرها ابنته تماما، واغدق عليها وكرس حياته هو وزوجته من أجلها خاصة عندما لاحظا تفوقها في الدراسة، وكان كريما بما لايحلم به أحد منا، فكان يرسل مبلغا من المال بشكل دائم شهريا مع إعفاء ابنتي من الخدمة في بيته، بل جاءها بخادمة لتخدمها حتى تتفرغ لدروسها، وتباعدت زيارتها لنا بحجة الدراسة والاستذكار، لكن النوايا الحقيقية ظهرت منها عندما جئت أنا وامها لزيارتها بعد غياب عدة أشهر لنطمئن عليها وعلى أحوالها وكانت الطامة الكبرى، حيث تنكرت لنا أمام الخادمة، وكأنها لا تعرفنا، وتعاملت معنا على أننا متسولين بحاجة لمساعدة. يومها بكيت أنا وأمها كما لم نبك من قبل، اعتصرنا الألم وعدنا بحسرتنا، وكان الصمت بيننا أبلغ من الكلام، لأنه لا توجد أي كلمات مهما كانت تستطيع أن تعبر عن هذه المأساة، ولا أبالغ إذا قلت إن المرض هاجمني منذ تلك اللحظة ورغم فعلتها هذه، كنت أتتبع أخبارها من بعيد فهي في النهاية فلذة كبدي، وعلمت أنها التحقت بكلية الطب، ثم أصبحت طبيبة ناجحة، غير أنني لم استطع تكرار زيارتها، حتى لا تتجدد مأساتي، وهي من جانبها لم تحاول أن تسأل عنا ولا تعرف ماذا فعل الزمان بنا، حتى أنها عندما تزوجت لم تخبرنا وعلمنا من الرجل الذي أحسن الينا واليها أنها رغبت في عدم إخبارنا حتى لا نظهر ويعلم عريسها الحقيقة، وادعت أن هذا الرجل خالها وولي أمرها. لم أستطع أن اصف لمحدثي دواء لأن كل علوم الطب ضاعت من رأسي، وضربت له موعدا آخر دون أن أخبره بالحقيقة المرة التي يعرف نصفها وأنا اعرف نصفها الآخر، وخرجت لااستطيع أن أميز معالم الطريق، وكل ما في رأسي تساؤلات عن سبب تصرفاتها وكيف استطاعت أن تخدعني كل هذه السنين، وكيف نجحت في الحفاظ على هذه الأسرار الدفينة، لابد أنها تمتلك قدرات فائقة من الخداع، حرباء تمكنت من أن تتلون وخلعت الحقيقة وارتدت أثواب الزيف والغش، هل أنا ساذج إلى هذا الحد، ومن الغالب ومن المغلوب؟ النظرية لا مثيل لها، ولا قاعدة لحلها، ولا جواب شاف عن أي سؤال، لأول مرة في حياتي تسبق الأجوبة الأسئلة الآن أتذكر، وهذا هو موعد التذكر، عدم حضور أي قريب لها، وعدم زيارة والدها - الوزير- ولا أحد من إخوتها، وكان عذري عدم اكتشاف أن الرجل الذي تربت في كنفه لم يكن خالها، لأنني لااعرف الاسم الكامل لامها، وبعد زواجنا بدأت تتحاشى الحديث عن أسرتها، إلا عندما تتحدث عن الأمجاد والعوائل الكبرى والذكريات في قصور عائلتها التي كانت مجرد أوهام وأساطير. وعدت إلى بيتي كأن كل الأشياء فيه تغيرت ولم تكن كما هي من قبل، زوجتي تلك الغارقة في النوم ليست هي التي عاشرتها منذ ربع قرن ومن قبلها سنوات الزمالة في الجامعة، حتى أنا لست أنا ولأنني لم أتعود العجلة في حياتي، ولاالتسرع في اتخاذ أي قرار مهما كان بسيطا أو كبيرا، تحاملت على نفسي ولم اخبرها بشيء مما علمت حتى تأكدت من جميع الأطراف من صحة ما تناهى إلى سمعي واصبح لا يقبل أي نوع من الشك، وكي لا اترك بابا واحدا يوصل إلى الحقيقة، واجهتها هي نفسها بهذه الأحداث الدرامية، فلاذت بالصمت وكان في سكوتها اعتراف بالحقائق المرة، لكنه خال من أي ندم أو رد فعل، ولم يبد عليها حتى مجرد الاسف، توقعت أن اسمع منها مبررات ولو واهية حتى تدافع عن نفسها، لكن ردها كان خلال الأيام التالية بشكل يناسب شخصيتها، فقد توجهت إلى المحكمة وأقامت دعوى لتخلعني وعندما توجهت للرد على دعواها ذكرت الحقائق المرة، ولكن قبل أن يصدر حكم في قضيتها، لم أمهلها حتى تفعل ما تريد وتوجهت إلى المأذون الشرعي وطلقتها لتخرج من حياتي بسرعة، وتعيش وحيدة بعدما عرف كل الناس ما اخفته ومن جانبي لم أخجل من أخوال أولادي ولا من جدهم بل توليت الإنفاق عليهم ومساعدتهم، واصبحوا هم أسرتي الجديدة.
المصدر: القاهرة
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©