الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

حضارة الخوف

حضارة الخوف
18 يناير 2018 02:06
لعل الأوان قد آن لتغيير بعض الاستعارات التي كنا نحيا بها ونموت (لايكوف)، وتعويضها باستعارات أخرى فرضتها فرضاً تحولات العالم السياسية الهائلة. فإذا عرّفنا الثقافة بكونها ابتداعا مستمراً للآخر العدو، وسلّمنا بأن العدو لا وجه له ولا هوية، صار دَيْدَنُ كل ثقافة أن تهب لهذا الوجه ملامح، ولهذه الملامح اسما يتغيّر باستمرار بتغيّر الحضارات. فهو عند الإغريق والرومان البربري الهمجي، وعند العرب المسلمين يأجوج ومأجوج (أي قبائل الترك والمغول...)، وعند الغزاة الأمريكيين الهنود الحمر، وعن النازيين الألمان اليهود، وعند الإسرائيليين الفلسطيني، واليوم صار الإرهابي المسلم في زمن العولمة عدوَ الجميع. عدو تحتاج كل ثقافة إلى عدو لتشخّص فيه وبواسطته خوفها العميق من الآخر البربري. هذا الهلع، إن نظرنا إليه من زاوية السيكولوجيا السياسية، ضروري في تكوين الحضارات. فعندما طرح الفيلسوف الألماني بيتر سلوترداك هذا السؤال: ما الذي تعنيه عبارة «حضارة الهلع»؟ هل تقتضي حياة الهلع حضارة؟ أليس من شروط وجود الحضارة غيابُ عنصر الهلع وإقصاؤُه؟ فإن جوابه الصادم يؤكد بأنه بفضل الاحتكاك بتجارب الهلع، كالحروب والغزوات والثورات والمجاعات والأوبئة... صارت الحضارات الحية ممكنة. فهي تحتاج إلى عنصر الهلع هذا حتى توجد وتكون. وربما لهذه الغاية كانت كل ثقافة تنتج هذا العنصر الخَطِرَ الخَطيرَ دوما بطريقتين متكاملتين: صناعة العدو وتشييد الحيطان. فكلما ارتفعت الحيطان والأسوار دل ذلك على أن حجم الخوف قد تزايد في حياة أمة من الأمم، وصار من الضروري تطويقه، إذ بتقسيم الأرض وتوزيعها ترسم الدول حدودها، ولكن برفع الأسوار والحيطان تُطوّق خوفها. فهل يمثل العدو والحائط الاستعارات الجديدة التي نحيا بها ونموت؟ يقدم فيلم «الحائط» الذي أخرجه للسينما دوغ ليام Doug Liman، وأدى أدواره ثلاثة ممثلين فقط، هم آرون تايلور - جنسون Aaron Taylor-Johnson في دور الرقيب آلان إزاك، وجون سينا John Cena في دور الرقيب الأول شاين ماتيوز، والممثل البريطاني ليث النخلي Laith Nakli في دور جوبا، مثالا رائعا على تلازم استعارتي «العدو» و»الحائط». تدور أحداث هذا الفيلم في السنوات الأخيرة من الحرب الأمريكية العراقية، وتحديدا سنة 2007، بعد أن أعلن الرئيس بوش انتصار أمريكا واستمرار العمليات العسكرية في العراق. على هذه الخلفية التاريخية، دارت أحداث هذا الفيلم الشبيه في الكثير من مشاهده بأفلام الوستيرن (أفلام الغرب الأمريكي)، لا بأفلام الحرب. فلا نجد حشوداً كثيرة من الجنود، ولا مشاهد انفجار القنابل ولا أزيز الرصاص المتطاير من الأرض والسماء، ولا طائرات تفتح بقنابلها أبواب الجحيم، ولا دبابات تخلّف الدمار أينما مرت. لا شيء من كل هذا. فالحرب في هذا الفيلم تبدو كأنها حطت أوزارها، وانتهى كل شيء تقريباً، ورغم ذلك ظلت رحاها تدور بين جنديين أمريكيين وقناص عراقي أطلق عليه اسم «جوبا» كان يترصد، كل الجنود الذين يمرّون أمامه فيقضي عليهم. قنّاص ينبغي أن نتوقف قليلا عند شخصية «جوبا» الشبحية في هذا الفيلم، فقد أصبح اسمه يُطلق على كل قناص عراقي. ولكنه، في واقع الأمر، هو الاسم الحركي لشخص حقيقي مجهول من نخبة القناصين في الجيش العراقي، اشتهر لما حولته المقاومة بالعراق، لأجل الدعاية والحرب النفسية، إلى بطل شبه أسطوري بفضل سلسلة من أفلام الفيديو انتشرت على شبكة الأنترنت. وقد لقيت هذه الأفلام نجاحاً غير متوقع ترددت أصداؤه في أرجاء العالم. ومنذ ذلك الوقت صار «جوبا» عند الكثير من العراقيين بطلاً قومياً، فلم يكن يستهدف برصاصه أحداً إلا جنودَ العدو الأمريكي الذي سادت في صفوفه أجواء الهلع الرهيب منذ ظهور شريط الفيديو الأول في نوفمبر (تشرين الثاني) 2005. ورغم القبض على القناص العراقي الذي كاد يقضي على الجندي ستيفان تشيدرار Stéphane Tschiderer، عبر ثقب في عربة قطار، ومن مسافة تبعد حوالي مائة متر، فإن «جوبا» قد عاود الظهور وأردى في غضون ذلك الأسبوع إثني عشر جنديا. وفي 29 نوفمبر 2006، ألقت وزارة الداخلية العراقية القبض على شخص يدعى نزار أو مزار الجبوري، مؤكدة في بلاغها الرسمي أنه قناص بغداد المنعزل، «جوبا». غير أن المقاومة المسلحة بالعراق كذّبت ذلك فيما بعد. يستحضر فيلم «الحائط» اسم هذه الشخصية وأسطورتها ليحاورها كما تتحاور نصوص الأدب. فأفلام «جوبا» مثلت العدو الذي أفلح في إشاعة مشاعر الهلع في حرب الخليج، ولكنها شخصت في الآن نفسه عقدة العراق الأمريكية التي انفجرت بفضيحة صور الجنود الأمريكيين وهم يعبثون، في سجن أبو غريب، بأجساد الأسرى العراقيين العارية. فالناظر في تلك الأفلام يشاهد في البداية «جوبا» وهو يعلن ما يلي: «عندي تسع رصاصات في بندقيتي، وعندي هدية لجورج بوش. سأقتل تسعة أشخاص، أفعل ذلك حتى يتمكن المشاهدون من رؤيتهم. الله أكبر، الله أكبر.». بعد ذلك تُعرض مشاهد منفصلة متباعدة تُصور عدة طلقات نارية تصيب جنوداً أمريكيين، فتصرعهم. تلك المشاهد الرهيبة هي التي يُفتتح بها فيلم «الحائط». فالكاميرا تقترب شيئاً فشيئاً من الجنديين المتخفيين منذ ساعات طويلة في أرض خالية كالبيداء، في وضح النهار، ثم نراها تقترب، عبر منظاري بندقيتيهما، من الجثث التي تناثرت هنا وهناك على مرمى البصر، إلا أنها تعود فجأة إلى الجنديين، فنراهما يتساءلان إن كان بإمكانهما الظهور والاقتراب من تلك الجثث دون أن يَقضي عليهما عدوُهما القناص؟ هشاشة تظهر استعارة الهلع منذ الحوار الأول الذي دار بين الجنديين وقد تلازم فيها الحائط والعدو. يقول الجندي آلان إزاك: «هذا الحائط هو اللعنة»، فيجيبه الجندي الآخر شاين ماتيوز: «إنه، يا رجل، حائط. أتخشى من حائط؟»، فيرد عليه إزاك: «كلا، ولكن أخشى مما يوجد خلفه»، فيجيبه ماتيوز: «لا يعنينا ما يوجد هناك. احتفظ بهذه الأفكار في رأسك»، ثم نراه بعد ذلك يتشجع ويغادر مخبأه، ويقترب من جثث الجنود، ولكن سرعان ما يصيبه القناص «جوبا» دون أن يقتله. فيسارع الجندي آلان إزاك بطلب المساعدة من القاعدة الأمريكية القريبة، لكن «جوبا» يتمكن من رصد المكالمة، فيبادل الجندي الكلام مدعيا أنه ينتمي إلى فرقته، فتفضحه لهجته ، وحينها تبدأ ملامح العدو في الظهور. بعد مناورات يتمكن أحد الجنديين من بلوغ حائط قصير والاحتماء به وهو مصاب في رجله. ثم في آخر مشاهد الفيلم، نراه، بعد طول انتظار، يدفع الحائط بيديه، فإذا هو حائط هش غير ثابت في الأرض، ما لبث أن تهاوى وسقط، وبسقوطه تقبل طائرتان مروحيتان فيُؤمِن الجنودُ المكان وينقذون رفيقهم إزاك. ولكن، ما إن ارتفعت الطائرة حتى أصابت رصاصة القناص أحد الجنود... ينتهي الفيلم بصورة الطائرة المروحية وهي منغرسة في الرمال بعد أن سقطت، كأنها بذلك السقوط تعود بالأحداث من حيث بدأت، لتؤكد أن الحرب لا يمكنها أن تنتهي بمجرد القضاء على العدو، لأنها تسكن في رؤوسنا، وتتغذى من مخاوفنا التي صارت ككرة الثلج تكبر وتتعاظم فتنقلب إلى حائط عال طويل. ولكن كيف يمكن لمشاعر الخوف «المتبخرة» أن تتحول إلى شيء مادي صلب في قسوة الحجارة ومتانة الحيطان؟ وظائف ينبغي أن نسجل من الآن أن الحيطان منذ سور الصين العظيم إلى حائط برلين، وما شُيد بعده من حيطان أخرى، قد اختلفت وظائفها وإن تشابهت هندستها. فحائط برلين ينتمي إلى صنف نادر جدا. فبينما كان لمعظم الحيطان هدف واحد، وهو منع الغرباء من التسلل إلى بلد ما، ارتفع حائط برلين لمنع سكان ألمانيا الشرقية من مغادرة بلادهم إلى بلدان أجنبية. فهذا الحائط هو الجانب المادي المحسوس من الستار الحديدي الذي أسدلته الحكومات الشيوعية حتى تمنع شعوبها من الفرار والإفلات من قبضتها. فهو لم يستخدم لحماية السكان، بل لحبسهم. فحائط برلين هو من صنف الحائط - السجن، كلما علت أسواره استحال على السكان المساجين الخروج منه. ولكنه ليس الصنف الوحيد، فقد شُيدت بعده حيطان أخرى اضطلعت بوظائف مختلفة. من ذلك أننا نشاهد اليوم ظهور صنف الحيطان - الحدود التي تفصل بين بلدين كانا متحاربين، كالحيطان التي تفصل بين الكوريتين الجنوبية والشمالية، وبين الهند وباكستان وكشمير، أو بين أجزاء من اليونان وتركيا وقبرص. ورغم توقف المعارك فإن السلم لم يعد ولم يستتب، فقد ظل كل بلد محتمياً بهذه الحواجز التي لم يتجرأ أحد على تحطيمها أو إزالتها. أسوار ويبدو أن أشد الأصناف انتشارا وأقدمها هو حائط - الحماية والوقاية، أشهرها سور الصين العظيم، أو «الأسوار العظيمة»، ويسمى بالصينية القديمة «شانغ شانغ»، ويعني حرفيا «السور الطويل». وهو في الحقيقة مجموعة من التعزيزات العسكرية الصينية، بُنيت في عهد مملكة مينغ، ودُمرت وأُعيد بناؤها عدة مرات في مواضع مختلفة، بين القرن 3 قبل الميلاد والقرن 7 بعد الميلاد، للدفاع عن حدود الصين الشمالية وحمايتها من غزو الجيوش المنغولية والمنشورية. ويضطلع «حائط هدريان» (بالإنجليزية: Hadrian’s Wall)، نسبة إلى الإمبراطور الروماني هدريان، بالوظيفة نفسها، وهو حماية الحدود الشمالية للإمبراطورية الرومانية من هجمات «البرابرة» أو القبائل الكليدونية سكان إسكتلندا الأصليين. وقد بناه بين 122م و127م. ويبلغ طوله ثمانين ميلاً رومانياً، (حوالي 117،5 كلم). وهو يمتد على كامل الحدود الإنجليزية الإسكتلندية الحالية. وقد انتشر هذا الصنف من الحيطان في القرون الوسطى، فلم تخل مدينة في خِطَطِها من أسوار تُحيط بها وتحميها. إلا أنها مع التقدم التكنولوجي لم تعد صالحة للاستخدام العسكري الدفاعي، إذ صار بالإمكان تفجيرها بيسر بالقنابل والصواريخ... ومنذ عقود قريبة ظهر نوع جديد من الحيطان يحمل طابع عصرنا الحالي، وهو الحائط - المضاد للهجرة، شُيّد لمنع الفقراء من الدخول إلى بلدان الأغنياء. وأفضل ما يمثل هذا الصنف اليوم هو الحائط الذي يمتد على كامل الحدود التي تفصل الولايات المتحدة الأمريكية عن المكسيك. وهو عبارة عن حواجز عالية كالأسوار لا غاية منها سوى منع هجرة المكسيكيين غير القانونية ومقاومة تجارة المخدرات. وشبيه به حائط آخر يفصل الهند عن بنغلادش، متكون من الجانب الهندي من ثلاثة آلاف ومائتي كيلومتر من الأسلاك الشائكة، يحرسه يومياً فيلق يبلغ عدده الإجمالي مائتي ألف جندي. أما من الجانب البنغلاديشي فيبلغ عدد الجنود سبعين ألف جندي مكلفين بحراسة حائط شُرع في تشييده سنة 1993، ودام بناؤه عشر سنوات بكلفة قياسية بلغت أربعة مليار دولار. وهو حائط دموي، بل هو أخطر الحيطان الحدودية في العالم، فقد بيّنت الإحصائيات الرسمية أن عدد الموتى من الجانبين قد بلغ رقماً مهولاً يُقدر بضحية كل خمسة أيام على مدى عشر سنوات أغلبهم من بنغلادش. وقد بررت السلطات الهندية بناءها هذا الحائط بمخاوفها المتزايدة من تسلل الإرهابيين الناشطين في بعض الجهات الهندية المستقلة، والهجرة البنغلاديشية الاقتصادية، وتجارة البضائع غير القانونية... عزل وفي كل الأحوال يظل الحائط الذي يفصل «إسرائيل» عن الضفة الغربية وقطاع غزة صنفاً فريداً من نوعه. فهو يضطلع بعدة وظائف في آن واحد. فهو رسمياً يعتبر حاجز بزعم وقاية وحماية الإسرائيليين من محاولات الاغتيال والعمليات القتالية التي كان ينجزها محاربون أتوا من فلسطين. ويبدو حسب آخر الإحصائيات الإسرائيلية أن نسبة تلك العمليات قد تقلصت إلى ثمانين بالمائة. بيد أن دور هذا الحائط لم يقف عند هذا الحد، لأنه لم يُبْنَ على الحدود الفاصلة بين الأراضي الفلسطينية والإسرائيلية، أي على ما يُسمى بالخط الأخضر، وإنما بُنِيَ على أراضي فلسطين، بالإغارة عليها بعشرة أمتار، وأحيانا بالاستيلاء على عشرة كيلومترات منها. والغريب أن هذا الحائط قد عوض الحدود القديمة، ففقد الفلسطينيون حق الذهاب إلى أراضيهم الواقعة في الجهة الأخرى. أما وظيفته الثانية فهي ضم جانب جديد مقتطع من المجال الفلسطيني. ذلك أن بناء هذا الحائط إنما هو إجراء غير منفصل عن سياسة احتلال الأرضي المتمثلة في ربط المستوطنات المبنية داخل فلسطين بالإدارة الإسرائيلية بواسطة الطرقات المخصصة والفصل والمراقبة. فأصبحت مختلفُ الأجزاء المقضومة من المجال الفلسطيني، حيث يجد سكانها الفلسطينيون عنتا شديدا في الاتصال بعضهم ببعض، شبيهةً بالبوتستانات bantoustans الإفريقية، أي المناطق التي خصصت زمنَ نظام الفصل العنصري L’apartheid في جنوب أفريقيا والجنوب الغربي الإفريقي للسكان السود المتمتعين بدرجات متفاوتة من الاستقلال. فما كان في البداية حائطا للحماية والوقاية قد انقلب من الجهة الأخرى إلى حائط للعزل والحبس والسجن. فوظيفته سياسية وهي أن تجعل إسرائيل من فكرة تكوين دولة فلسطين ذات سيادة على أراضيها أمرا بعيد المنال، بل مستحيلا في الواقع. ..وعزلة ينبغي أن نضيف إلى كل عناصر هذه اللوحة حيطاناً أخرى أقل قيمة لأنها شُيّدت لحماية مركز القيادة العسكرية، كالمنطقة الخضراء Green zone ببغداد، أو بُنيت بسبب محاذاتها لحي فقير مشبوه، مثل الحيطان التي نجدها في بادوفا Padoue المدينة الواقعة في شمال إيطاليا. فقد بُنِيَ لمنع تجار المخدرات القاطنين في العمارات الست من صنف (HLM أي مساكن/‏ ذات كراء/‏ معقول) من حي آنالي Anelli من مزاولة تجارتهم الممنوعة في حي دي بازي De Besi. ألا يذكر هذا الحائط بحيطان الحظر التي شيدت في منطقة البروفانس La Provence بالجنوب الشرقي الفرنسي لمنع الطاعون من الانتشار سنة 1720؟ أما الحيطان الحامية التي تحيط بالإقامات الفاخرة فهي مجرد تنويع مثير للاهتمام، لأنها عبارة عن غيتوات ghettos أو أحياء ذهبية معزولة، اختار سكانها بأنفسهم الانكفاء والعزلة بعيدا عن كل التهديدات والمخاطر. مثل هذه الحيطان متكاثرة داخل الولايات المتحدة ذاتها. وهي لا تعوض الحدود الجغرافية السياسية، وإنما تعكس ظهور طبقة جديدة ثرية يبلغ عددهم في الولايات المتحدة وحدها ثمانية ملايين ساكن يقطنون في ثلاثين ألف من التجمعات المسورة، ومناطق إقامة عالية الجدران. من بين هؤلاء المواطنين فئة تنتمي إلى «نادي الأثرياء» تٌسمى «المواطنون الكوكبيون» citoyens globaux يمتلك أفرادها «جواز سفر هندي، وقصراً في أسكتلندا، وموطن قدم في مانهاتن، وجزيرة خاصة في الكاراييب...». ويُمضي هؤلاء المواطنون عامة يومهم في عقد الصفقات والأعمال الإنسانية كحماية المحيط ومقاومة الأمراض ورعاية الفنون... وهم يعيشون في مدن أو قرى خاصة تعزلهم عن سائر الطبقات الشعبية، ولكنها تترجم في الآن نفسه خوفهم من الحياة الاجتماعية الخارجية بتقليص عوامل الخطر كالأمراض، وجميع أشكال العنف. صناعة ما الذي ينبغي الخروج به من عرض كل أصناف الحيطان؟ نجد الجواب عند المؤرخ الفرنسي كلود كايتالClaude Quétel الذي يعلمنا بحكمة أن بناء الحيطان إنما يعرب في الآن نفسه عن خوف من يبنيها، هذا الخوف الذي حذرنا منه المفكر الراحل تودوروف Todorov في كتابه «الخوف من البرابرة، أبعد من صدام الحضارات» مبينا أن أول ضحايا الخوف هم الذين يشعرون به ويجعلونه مهيمنا على نفوسهم. فيصبح الخوف حينها خطرا لأنه يبرر كل ما يقترفه الإنسان من جرائم فظيعة. فالخوف من الموت الذي يهددني أو يتهدد حياة من أحبُ يجعلني قادرا على القتل والتعذيب وتشويه الأجساد. فباسم حماية نسائنا وأطفالنا وشيوخنا هنا يُقتل شيوخ الآخرين وأطفالهم ونسائهم هنالك. وعندما نوافق على قتل من نخاف منهم لإبعاد الخوف من نفوسنا، فإن الخوف من البرابرة يمكن أن يقلبنا إلى برابرة. ولكن إذا غيرنا زاوية النظر، واعتبرنا الخوف صناعة رأسمالية تتاجر بالعواطف والمشاعر بشتى الطرق، أصبح كتاب عالمة الاجتماع إيفا إلوز Eva Illouz «أحاسيس الرأسمالية» ضرورياً في فهم ما تسميه بـ«رأس المال العاطفي» وطرق استثماره وتوظيف أرصدته في «بنك الهلع العالمي». فالرأسمالية اليوم لا تعتمد على العقلانية والحسابات المضبوطة والمؤسسات الديمقراطية والنزعات الفردية... لأنها قد انقلبت إلى «رأسمالية انفعالية» تشتغل، في طور ما بعد الحداثة، ببيع العواطف والأحاسيس وتحويلها إلى بضاعة. فالأحاسيس في هذه «الرأسمالية الانفعالية» هي مكون أساسي في السلوك الاقتصادي وحياة الأفراد العاطفية، بل هي متحكمة في منطق العلاقات السياسية والمبادلات الاقتصادية تحكما تجلى في توزيع بضائع الخوف وتسويقها في شكل حيطان فاصلة بين البلدان، حتى غدت تجارة الهلع واعدة، وبدت عبارة «للحيطان مستقبل»، les murs ont de l›avenir، الواردة في كتاب المؤرخ الفرنسي كلود كايتال «الحيطان، تاريخ البشر الآخر» صادقة كل الصدق. فبعد سقوط حائط برلين سنة 1987، إثر نهاية الحرب الباردة، رأى الكثير في ذاك السقوط علامة تبشر بعهد جديد من الحرية، وولادة عالم منفتح بلا حدود، لا تشيّد فيه الحيطان ولا ترتفع. غير أن ما حصل بعد عشرين سنة كان مخالفاً لكل توقع، ومخيّبا للآمال. فقد اتضح أن حائط برلين كان كطائر الفينيق، سرعان ما انتفض من غباره وأنقاضه، ليعود كأعتى ما يكون. فقد بُنِيَ بعده خمسة وستون حائطاً يبلغ طولها الإجمالي أربعين ألف كيلومتر، أي تقريباً ما يساوي محيط الأرض على خط الاستواء. وعموما، فقد أثبتت الوقائع الكثيرة خلال حقب التاريخ المختلفة أن زوال الحيطان أمر مستبعد، خاصة بعد أن تسارع نسق تشييدها، وتكاثرت أنواعها وأصنافها في العقود الأخيرة، حتى أمكن للمؤرخ أن يكتب تاريخ الحيطان الغابر، ويتنبأ بحيطان أخرى آتية في قابل الأيام، مادامت تجارة الخوف نافقة، وأرصدتها ترتفع كل يوم في بنوك الهلع العالمي. معاينة وصل الرحالة العربي سلام الترجمان، إلى تخوم الصين، وعاين سورها الشهير وهو يظن أنه بلغ السد الذي بناه الإسكندر ذو القرنين، ولعله كان في ظنه ذاك متأثراً بحلم الخليفة الواثق بالله. فقد ذكر ابن رستة في الجزء السابع من كتابه «الأعلاق النفيسة»، أن السبب الداعي إلى رحلة سلام الترجمان هو منام رأى فيه الواثق بالله سقوط السد الذي بناه ذو القرنين لمنع يأجوج ومأجوج من الفساد في الأرض. ومما جاء فيه: «فحدثني سلام الترجمان أن الواثق بالله لما رأى في منامه كأن السد الذي بناه ذو القرنين بيننا وبين يأجوج ومأجوج قد انفتح، فطلب رجلاً يخرجه إلى الموضع فيستخبر خبره. فقال أشناس (قائد تركي): ما ها هنا أحد يصلح إلا سلام الترجمان [...]» (ص142). ويعكس هذا المنام قلق الواثق بالله، مما تناهى إليه من إشاعات عن تحرك القبائل التركية في أواسط آسيا. وليس يأجوج ومأجوج سوى تمثيل لصياغة الآخر في أقصى درجات اختلافه.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©