الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

عندما تمر الطريق إلى الجنة في الجحيم

عندما تمر الطريق إلى الجنة في الجحيم
9 ديسمبر 2009 22:01
لو وصفت حالتهم لعجز مداد القلم، ولو اقتربت منهم لبكوا بكاءً مريراً وهم الذين عاشوا في نعيم، وبين تقلبات صروف الدهر رأوا الجحيم، كانت أصابعهم ترتجف وهم يخطون الحروف حتى أن بعضهم كان أشد ما يخشاه “التأويل”، أي أن يؤول كلامه على غير محمله، أو يزل لسانه عن موضعه، أو يخطئ الخطاب في كلمه، فتذهب رقبته هباءً منثورا، ذلكم هم الكتّاب والوزراء في بلاط الخلفاء. ومن الغرابة حقاً أن يقترب الكاتب من الحاكم وهو في أشد التنافر معه، حيث وصف العرب هذا التنافر والتنابذ مختصرين الموضوعة بالمقابلات بين السيف والقلم، وقد نتساءل لماذا كل ذلك ألا يكفينا ما قاله يعقوب بن داوود كاتب ووزير المهدي في العصر العباسي حيث ضجر بوزارته وتاب إلى الله مما هو فيه، وقدم النيّة في ترك موضعه حين قال للمهدي: “والله يا أمير المؤمنين لشربة خمرٍ أشربها، أثوبُ إلى الله منها، أحبُّ إليّ مما أنا فيه، وإني لأركبُ إليك فأتمنى يداً خاطئة تصيبني في طريقي، فأعفني، وولِّ من شئت، فإني أحبُّ أن أسلّم عليك أنا وولدي، ووالله إني لأتفزع في الليل منذ ولّيتني أمور المسلمين، وليس دنياك يعوض من آخرتي”. فكان المهدي يقول له: “اللهم اغفر، اللهم أصلح قلبه”. ذلك ما جاء في كتاب “الوزراء والكتاب” لأبي عبدالله محمد بن عبدوس الجهشياري المتوفي سنة 331هـ والذي أصدرته دار الكتب الوطنية في هيئة أبوظبي للثقافة والتراث بتحقيق ابراهيم صالح ضمن احتفالات أبوظبي بمئوية المغفور له الشيخ زايد الأول 1909 ـ 2009 حاكم أبوظبي. الثقافة العربية مما يلفت الانتباه في ثقافتنا العربية حقاً، أنها نقلت عبر صحائفها المخطوطة بمدادها قصصاً عن الموت والقتل، ولم يقتصر الأمر على ما كان يجري في الحروب من تقابل الجيوش، بل تعداها إلى أوقات السلم فكانت الرقاب تجز من وراء الجدران، والمؤامرات تحاك خلف الأكمة، والشيء الأهم أن هذا الخوف نفسه قد ولّد رغبة عند مؤرخينا العرب في أن يكشفوا ما وراء الجدر تلك، فتتبعوا قصص الموت بالسيوف البتارة والسموم المبثوثة في الطعام، حتى لنجد أنه ما جاء عصر إلا وقد أقبل من دياجير الموت ثم انتهى إليها، ويكفينا أن نصف حال الوزراء والكتاب مع تقلب مجيء الحكام في هذه القصة التي حدثت بين “أبو جعفر المنصور” و”أبي العباس السفاح” وكاتبه ووزيره “أبي الجهم بن عطية” الذي كان أبو جعفر المنصور لا يستأنس به ويتعقب عليه حتى موت أبي العباس السفاح ومجيء المنصور إلى الخلافة، فدخل ابن عطية عليه يوماً فدار بينهما كلام في شؤون الدولة فعطش بن عطية، فدعا له المنصور بسويق من سويق اللوز وقد كان سَمَّه فشربهُ، فلما وصل إلى جوفه تمخض جوفُه وأحس بالموت، والمنصور ينظر إليه، فوثب ابن عطية مسرعاً، فقال له المنصور: إلى أين يا أبا الجهم؟ قال: إلى حيث بعثتني، فلما وصل إلى منزله مات. ومن شدة خوف الكتّاب أنهم كانوا يقولون شعراً في اعتذارياتهم ويفصحون عن كذبهم حيث روي أن أحداثاً (صبياناً) من الكتاب كانوا يزورون في ديوان أبي جعفر المنصور فأمر الأخير بإحضارهم وتقدّم بتأديبهم، فقال واحد منهم وهو يُضرب ضرباً مبرحاً: أطال الله عمرك في صلاح وَعِزٍّ يا أمير المؤمنينا بعفوك أستجير، فإن تجرني فإنك عصمة للعالمينا ونحن الكاتبون وقد أسأنا فهبنا للكرام الكاتبينا وربما يأتي بعد الاعتذار كرم يتعطف به الخليفة بفعل طرافة المعتذر كما حصل في هذه الحكاية حيث أمر المنصور بتخليتهم، ووصل الفتى، فأحسن إليه. هذه بانوراما عامة عن طبيعة العلاقة بين الوزراء الكتاب والخلافة، إلا أننا نكتشف عبر هذا الكتاب عن هيكلية بنائه من قبل أبي عبدالله الجهشياري. الشكل الكتابي حاول الجهشياري أن يتتبع تلك العلاقة من خلال الشكل الكتابي ثم إلى تاريخ الكتابة، فالشكل الكتابي يعني كيف ابتدأت الكتابة ومن خط بالقلم أول مرة بعد آدم، حيث قال الجهشياري: “روي عن كعب الأحبار أنه قال: أول من وضع الكتاب السرياني وسائر الكتب: آدم عليه السلام قبل موته بثلاثمئة سنة، ثم كتبها على الطين، ثم طبخه، لما انقضى ما كان أصاب الأرض من الغرق، ووجد كل قوم كتابهم فكتبوه، فكان اسماعيل وجد كتاب العرب”. ثم روي أن أول من وضع الكتابة العربية اسماعيل بن ابراهيم، وكان أول من نطق بالعربية فوضع الكتاب على لفظه ومنطقه. وروي أن أول من كتب بالعربية ثلاثة رهط من بولان ـ وهو بطن من طيء ـ يُقال لأحدهم مرامر بن مرة وأسلم بن سدرة وعامر بن جدره. ثم ينتقل الجهشياري ليتتبع الكتابة عند الفرس وكسرى وهو في ذلك يرد الأمر تعلقاً باستحداثهم ديوان الخراج الذي أوجد العرب فيما بعد شبيهه، ومن هنا يطابق الجهشياري منهجه في نشأة هيكلية كتاب الوزراء والكتاب مع حركة التاريخ ووقائعه هذا من جانب، أما الجانب الآخر الشكلي فهو ـ أي الجهشياري ـ قد تتبع ما جاء عن الملوك وأخبارهم عادلاً مادار من تدوين اجتماعي وما جرى في أسواق الوراقين بالرغم من ازدهارها في العصر العباسي مثلاً إذ أنه لم يلتفت إلى ذلك، بل ظل ينقل عن خلفاء بني العباس متجاهلاً ما يجري من تدوين علمي في الأسواق الأدبية والعلمية. تاريخ الكتاب روى الجهشياري: “في كتاب من كتب الهند، إذا كان الوزير يساوي الملك في المال والهيبة والطاعة من الناس فليصرعه الملك، فإن لم يفعل، فليعلم أنه المصروع”. يتبع الجهشياري تاريخ الكتاب منذ عهد الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم حتى أيام المعتضد بالله العباسي مروراً بأبي بكر وعمر وعثمان وعلي والفترة الأموية معاوية ويزيد ومعاوية بن يزيد ومروان بن الحكم وعبدالملك بن مروان والوليد وسليمان وعمر بن عبدالعزيز ويزيد بن عبدالملك وهشام والوليد بن يزيد بن عبدالملك ويزيد بن الوليد النافعي وابراهيم بن الوليد ومروان بن محمد الجعبري وابراهيم الإمام ثم العباسية وهي أيام أبي العباس السفاح والمنصور والمهدي وموسى الهادي والرشيد والأمين والمأمون والمعتصم والواثق والمتوكل والمستعين والمعتز والمهتدي والمعتمد حتى المعتضد كما قلنا، وتلك فضيلة الكتاب ومنهجه أنه طابق بين الوقائع بتسلسلها التاريخي الواقعي وبين تطور المنظور إلى الكتابة لكنه ـ أي الجهشياري ـ ظل حبيس جدران القصور. لم يناقش الجهشياري هيكلية النص الكتابي بل اكتفى بوضعه كراوية لحكايات عن علاقة الوزراء والكتاب بالسلطة الدينية في أوائل العصر الإسلامي والدنيوية في العصرين الأموي والعباسي ويمكن لنا من خلال هذا التسلسل التاريخي أن نقرأ هذا التطور عبر الحكاية. قال زيد بن ثابت كاتب رسول الله صلى الله عليه وسلم: كنت أكتب لرسول الله يوماً، فقام لحاجة، فقال لي: “ضع القلم على أذنك، فإنه أذكرُ للمملي، وأقضى للحاجة”. وبالفعل ظلت هذه الحركة بأن يضع الكاتب ـ عند الاستراحة ـ قلمه على أذنه قريباً من الرأس والفكر والعقل وموطن التذكر. التاريخ الهجري كان الخليفة عمر بن الخطاب أول من قرر التاريخ من الهجرة، لأن أبا موسى الأشعري كتب إليه: إنه يأتينا منك كتب ليس لها تأريخ ـ وكانت العرب تؤرخ بعام الفيل ـ فجمع عمر الناس للمشورة، فقال بعضهم: أرخ بمبعث النبي، وقال بعضهم: بمهاجره، فقال عمر: لا، بل بمهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن مهاجره فرق بين الحق والباطل. وكان ذلك في سنة سبع عشرة أو ثماني عشرة من الهجرة. ولما أجمعوا على ذلك، قالوا: بأي الشهور نبدأ؟ فقال بعضهم: من شهر رمضان؟ فقال عمر: بل من المحرم، فهو منصرف الناس من حجهم، وهو شهر حرام، فأجمعوا على المحرم. وفي خبر شاذ روي: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما ورد المدينة مهاجراً من مكة، يوم الاثنين لاثني عشرة ليلة حلّت من شهر ربيع الأول سنة أربع عشرة، من حين نبّئ، أمر بالكتابة”. والخبر الأول أثبت وأوضح كما يذكر الجهشياري. قلم الكتابة قيل إن أحد الكتاب ناشد عمر بن عبدالعزيز يسأله قراطيس، فكتب إليه عمر: أن دقق القلم، وأوجز الكتاب، فإنه أسرع للفهم. ومن خلال هذا النص نقرأ الإيجاز والبراعة في الكتابة والاختصار في فضاء الصفحة المكتوبة. ومما جاء أيضاً: “حكي أن عبدالحميد الكاتب مرّ بابراهيم بن جبلة، وهو يكتب خطاً رديئاً، فقاله: أتحب أن يجود حظك؟ قال: نعم، فقال: أطل جِلفة قلمك وأسمنها، وحرّف قطتك وأيمنها”. ويتناقض هذان الخبران مع بعضهما بين نصيحة عمر بن عبدالعزيز للكاتب بأن يبري ويدقق قلمه وبين نصيحة عبدالحميد الكاتب أن يسمن رأس القلم، وبين الإسراف والتقتير نجد نظرة الخلفاء والكتاب البارعين لكيفية الكتابة وتجويد الخط. وكانت العرب تقدر الكتاب ولا غنى للخليفة عن الوزير الكاتب حتى روي عن أبو جعفر المنصور أنه كثيراً ما يقول بعد إفضاء الأمر إلى بني العباس: غلبنا بنو مروان بثلاثة أشياء: بالحجاج وبعبد الحميد بن يحيى الكاتب، والمؤذن البعلبكي. مقتل ابن المقفع كان سفيان بن معاوية بن يزيد بن المهلب يضطغن على ابن المقفع أشياء كثيرة، منها أنه كان يهزأ به ويسأله عن الشيء بعد الشيء فاذا أجاب قال له أخطأت، ويضحك. واخيرا قتله حيث أمر بتقطيع ابن المقفع وطرحه في التنور فقال لحظتها ابن المقفع لسفيان: والله إنك لتقتلني، فتقتل بقتلي ألف نفس، ولو قتل مئة مثلك ما وفوا بواحد، ثم قال شعراً: إذا ما مات مثلي مات شخص يموت بموته خلقٌ كثيرُ وأنت تموت وحدك ليس يدري بموتك لا الصغير ولا الكبيرُ دنان وأدن قيل أن زياد بن أبيه دخل يوماً ديوانه، فوجد فيه كتاباً وفيه: ثلاثة دنانٍ فقال: من كتب هذا؟ فقيل: هذا الفتى، فقال: أخرجوه من ديواننا لئلا يُفسده، وأمح هذا وأكتب: ثلاثة أدن. وكان زياد يجلس في بيته ليملي على كاتبه أسراراً له، وكان معه ابنه عبيد الله، فنعس زياد، فقام ينام، فقال لعبيد الله: تعهد هذا، لا يغير شيئاً مما رسمته له. فعرضت لعبيد الله حاجة إلى البول، واشتد ذلك به، فكره أن ينبه أباه، وكره أن يقوم عن الكاتب، فشد ابهاميه بخيط وختمهما، وقام لحاجته. فاستيقظ زياد قبل عودة عبيد الله، فلما نظر إلى الكاتب، سأله عن خبره، فخبره، فأحمد زياد ذلك من فعل عبيد الله. الكاتب والمعلم كان في صحابة الخليفة العباسي المهدي رجل يعرف بالثقفي البصري وكان أبو عبيد الله وزيره له مستثقلاً، وكان يريد أن يضع منه ويحقره، فتكلم الثقفي يوماً فلحن (أخطأ) فقال له أبو عبيد الله: أتجالس أمير المؤمنين بالملحون من الكلام؟ أما كان يجب عليك أن تقوّم من لسانك! فقال له الثقفي: إنما يحتاج إلى استعمال الإعراب في جميع الكلام، يا أبا عبيد الله، المعلمون، لينفقوا عند من التمسهم لتعليم ولده. وكان يعرّض بأبي عبدالله، لأنه كان معلماً في أول حياته، قيل فضحك المهدي حتى غطى لحيته. الكاتب المجهول حج المهدي في بعض السنين، فمر بميل (وهو منار يبنى للمسافر على الطريق) وعليه مكتوب، فوقف فقرأه واذا هو: لله درك يا مهدي من رجل لولا اتخاذك يعقوب بن داود وكان يعقوب بن داود وزير المهدي وكاتبه فقال المهدي لمن معه: اكتب تحته: على رغم أنف الكاتب هذا، وتعساً لجده. اكتمال الشعر مدح بعض الشعراء الفضل بن يحيى البرمكي وكان كريماً معطاء فقال فيه الشاعر: ما لقينا من جود فضل بن يحيى ترك الناس كلهم شعراء فاستجيد البيت واستحسن وعيب بانه بيت مفرد فقال أبو العذافرة، ورد بن سعد العمّي: علم المفحمين أن ينطقوا الاشعار منا والباخلين السخاءَ وقيل لأبيه يحيى بن خالد البرمكي ما البلاغة؟ وكان يقول: أنْ تكلم كل قوم بما يفهمون. وقال الاصمعي: سمعت يحيى بن خالد يقول: الدنيا دول، والمال عارية، ولنا بمن قبلنا أسوةٌ، وفينا لمن بعدنا عبرة. كل ذلك جاء في نسخة من كتاب الوزراء والكتاب لأبي عبدالله محمد بن عبدوس بن عبدالله الجبهشياري الكوفي الأصل والذي نشأ في بغداد وولي مناصب مهمة، منها إمارة الحج العراقي حيث سار بالحجيج إلى مكة عن طريق الشام وكانت كسوة الكعبة معه لأنه كان من أصحاب الوزير ابن علي بن مقلة. أما مؤلفاته فأشهرها “الوزراء والكتاب” و”أخبار المقتدر بالله” و”ميزان الشعر والاشتمال على أنواع العروض” و”ألف سمر من أسمار العرب والعجم والروم وغيرهم” الذي لم يصل به إلى الألف. وقد اعتمد المحقق ابراهيم صالح على نسخة مدينة فيينا التي طبعت بمطبعتي ماكس يافي وآدولف هولرهورت سنة 1926م. عن نسخة خطية وحيدة في دار الكتب الوطنية تحت رقم 916 وتقع في 204 ورقات.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©