الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

قراءة في اختراقات المعقول

قراءة في اختراقات المعقول
30 يونيو 2010 22:00
وأنتَ تقتني نسخة من الديوان العاشر للشاعر محمَّد عيد إبراهيم “السندباد الكافر” (منشورات الغاوون، بيروت، 2009)، يصدمك عنوانه كونه يجمع بين مفردتين أولهما مفردة “السندباد” التي تحيل في المخيال البشري على ذلك الكائن المتجوِّل بمرح بين أمكنة الأرض والسماء، وثانيتهما مفردة “الكافر” التي تحيل على قيمة سلبية في مخيلنا الدِّيني ليصبح السندباد الجوال ممجوجاً إذا ما نظرنا إليه وفق المعيار الدِّيني، لكننا، ولما كنّا بإزاء تمثيلات شعرية يزيح فيها الشّاعر كل الدلالات المُصطلح عليها نحو تمثيلات دلالية غير محايدة، فإننا سنحتاج إلى إزاحة دلالية من شأنها إخراج العنوان “السندباد الكافر” من دائرة الفهم الدِّيني صوب دائرة الفهم الدُّنيوي لنؤمِّن طريقنا نحو قراءة قصائد الديوان، ونتساءل: بماذا يكفر سندباد محمَّد عيد إبراهيم، وهو الكائن المتخيَّل في وجوده وحركته وحضوره؟ إنه يكفر بكل أنماط المعقول الزائف، والمتعارف الخاوي، والمتخيَّل العليل، الذي تضج به حياة البشر، ليخلق معقوله الخاص به، ومتعارفه الذي يراه، ومتخيَّله الأكثر تكريساً لكينونته التي يريد الحضور بها وهو الذي يعيش بقية قواه وأهوائه في مشهدية الأفول. على أن معقول هذا السندباد لا يعني خضوعه إلى نمط عقلاني صارم؛ ففي سلوكه المتخيَّل تجتمع كل اختراقات المعقول صوب عوالم مدفوعة بالتمرُّد على حال الوجود من جهة، والشعور بخيبة قواه السائرة نحو النهايات المعطَّلة من جهة أخرى. تحفل قصائد الديوان بالكثير من العلامات التي تحيل على كينونة السندباد الكافر الجسدية والروحية وقد نالت منه رحلة العمر والعناء حتى استحالت كينونته إلى كينونة هرِمة تنذر بأفوله صوب النهايات المعطَّلة. يمكن النَّظر إلى تجربة الشاعر محمَّد عيد إبراهيم في هذا الديوان من زاوية تجربة الأهواء التي تكرسها بعض قصائد الديوان، كذلك من زاوية مسارات الأفول التي ستهيمن على كينونة السندباد في ظهوره وحضوره بقصائد أخرى. يلعب الحزن دوراً كبيراً في توليد فضاءات إنجازية لدى الذوات والتي سرعان ما تتحوَّل إلى سلوك، أو لنقل إلى فعل حافل بعلاماته الجسديَّة التي تعبر عن كينونته وتدلُّ عليها. وسندباد الشّاعر، وهو الذي يعيش أزمنة الأفول والنهايات شبه المعطلَّة، يعيش حالة حزن الحياة الذي يصفه النّاص بـ “المشعِّ”، لنقرأ: “كعلامة مائية حزنُ الحياة المشعُّ يعجزه، يتسقط من أي قطار، على أثر قديم، كالهالك في فلاة وسط جذعين عاشقين وغروب نحاسيٍّ بعزلته”. يتضح من هذا النَّص/ المقطع أن (ذات الحالة) في مدار هذه القصيدة تعيش لحظة حزن موضوعي “حزن الحياة المشع” يتركَّز في الذات ليتحوَّل إلى خميرة مضاء بالأسى والألم. ولعل اختيار النّاص/ الشّاعر لصفة “المشع” المحمولة على “حزن الحياة” لفيه تأكيد على هيمنة الحزن على ذات الحالة، بل وسعة سطوته عليها. إنَّ تشبيه حزن الحياة المشع بـ “العلامة المائية” ربما يعكس تناقضاً شكلياً لكنه التناقض الإبداعي في تجربة المتخيَّل الشعري في الجمع بين “الحزن” و”الماء”، فهذا الأخير هو الخصب، والنماء، والوفرة، والعطاء. أما الحزن فهو النكوص، والخفوت، والسكون، لكن الإزاحة التي تعمدها النّاص يريد منها إخضاع المشبه به “ذات الحالة” إلى المشبه؛ بمعنى أنه يريد إخضاع كل العلامات الحسية المحيطة بذات الحالة إلى ما تعيشه ذات الحالة نفسها ليصبح حزن هذه الذات هو حزنُ الكينونة من حوله بكل تشكلاتها وتمظهراتها الممكنة، ومن ثم حزن جسديَّة هذه الكينونة المتشيئة أشكالاً. لقد أدى حزن ذات الحالة كعلامة أهوائية إلى ولادة علامة ارتدادية قوامها العجز، والعجز هو علامة نفسية وجسمية وجسديَّة دالة على القصور وانعدام القدرة الفاعلة على الظهور الحيوي الخلاق. لقد سعى الشّاعر إلى استعارة معادل موضوعي لتثوير كينونة العجز الحالّ في ذات الحالة. الكرب هو الهم أو الغم الذي يجتاح الذات في بعض حالاتها. والملاحظ على توظيفات النّاص هنا في قصيدة الديوان الأولى أنه أنسنَ الكربة، وراح يكشف عن علاماتها الأنثوية عندما جعلها امرأة عجوز. إنَّ الغم أو الكرب هو حالة أهوائية سلبية، إنها حالة سوداء غير مرغوب فيها، إلا أن سندباد الديوان يسعى إلى قراءة معدومات الأحاسيس والمشاعر والأهواء قراءة برجماتية بافتراض بقية فرح وسرور ما في كينونة الوجود الممكنة. تسعة الذات الهرِمة، ذات الحالة، وهي ذات السندباد، وبالتالي ذات النّاص فالشّاعر أيضاً، تسعى إلى استرداد الوجود من العدم من خلال تحويل النكوص والهزيمة والهلاك، وبالمرّة تحويل الكرب إلى فرح، إلى إمكانية لذَّة، إلى مشروع طاقة يمكن من خلالها استعادة المعدوم نحو الموجود الممكن وعبر النَّظر إلى كينونة الكرب/ الكُربة كأنثى وإن كانت آفلة الوجود أو سائرة نحو النهاية المعطَّلة كما تشي بذلك بعض علاماتها الجسديَّة. ووسط الهزائم التي مني بها سندبادنا المتعطش لكينونات الوجود المتعافية، ووسط الحزن والكرب الذي يعيشه بألم الكائن الذي تجتاحه الخسارات المتوالية، يأتي الفرح كحلم وأمل وطموح، بل إن حضور الحزن والكرب في ذاته، وهي ذات حالة، وكما ظهر في بنية النَّص السطحية، تخفي في بنية النَّص العميقة ما يناقض الحزن والكرب كحاجة يفتقدها السندباد. إلا أن النّاص أو الشّاعر لم يغب عنه إخراج الرغبة بالفرح إلى بنية النَّص السطحية، والاشتغال عليها كمنجز يرغب فيه السندباد، ويبحث عنه، بل وينبش طبقات الوجود سعياً للظفر به: “حولي، أنبشُ الفرح، وقد تأخرتُ. أُنادي أن يكنز روحي فيسري مبدياً فتنته. عبر زمان وئيد، على خسارة، صار ظلاً تفتت كالأزهار في أيكة النوم”. يبدو من هذا المقطع النَّصي أن الفرح أو البهجة كعلامة دالة على هوىً يفتقد إليه السندباد، سيلعب دوراً مركزياً في توليد الفضاء الدلالي لهذا النَّص، وتحديداً بالفضاء الأهوائي في مداره. يرى السندباد نفسه الكائن الوحيد الذي تدور حوله البهجة أو الفرح على نحو مبذول؛ لكنهما قاصران على كينونتهما فقط، عصية على غيرها حتى إن الفرح ليبدو كما لو كان صخرة ترابية تحتاج إلى معول لإرضائها أو استدراجها إلى ذاته اللاهثة. ومن هنا، نرى النّاص/ الشّاعر يستخدم فعل “النبش”؛ نبش كينونة الفرح من حوله، كما أن الفرح لو كان طيعاً لما لجأ السندباد إلى فعل النبش. ولم يكتف السندباد بذلك، فالاستجابة ضعيفة، وهذا ما دعاه إلى استخدام الصوت كدال علاماتي استدراجي لترويض الفرح كي يظهر ويكون ويمتثل للرغبة المقتولة بالحزن والكرب لدى السندباد، فراح ينادي الفرح، ويطلب منه أن يغمر روحه وهو الفاتن المتمنِّع الاستجابة، لكنه ظهر كظل مفتَّت الحضور. لقد نظرنا سابقاً في أنسنة الكُربة وتمثيلها كامرأة عجوز، والآن نحن بصدد أنسنة الحياة وتمثيلها كأنثى أيضاً. يبدو فعل الجلوس على ركبتي السندباد علامة تحيل ليس فقط على الرغبة بالحياة العامة إنما على الرغبة الغريزية “الجنسية”، وهذا ما يفسره المسار التوليدي للحكاية في متن النَّص؛ فبعد الجلوس، نراه يبلل شفتي الحياة بماء وكأن شفتي الحياة يابستين. ليس هذا فقط، بل يعمل على تنقية قلب الحياة. إن المشهد الجسدي يستند في توليد علاماته على ثلاثة أفعال هي: الجلوس، والبلل، والتنقية. وهذا يعني أن الجسديَّة التي ينشدها للحياة هي جسديَّة حية ويافعة وقابلة للعطاء والحركة والتفاعل وهو ما يفتقده كائننا السندبادي الآفل. تنشطر قصائد هذا الديوان إلى قسمين أو تكاد؛ قسم يلجا فيه النّاص/ الشّاعر إلى الواقعية في التصوير الشِّعري المتخيَّل، وهو أقل، مقارنة بالقسم الثاني الذي ينفرط فيه عقد المتخيَّل الشعري على نحو سريالي تجتمع في لحظته الشِّعرية الواحدة جملة النقائض والمفارقات والغرائب التي تشير إلى اللحظة التي لا يمكن أن نرى فيها “السندباد” سوى ذلك الكائن الذي ينحب أفول حياته وقواه، وكأننا بلحظة الحياة الواقعية لا تفي بالغرض الوجودي فلم يجد أمامه سوى تركيب صورة جديدة يتصيَّر من خلالها كائناً متجدِّداً. إن تجربة الشّاعر المصري محمَّد عيد إبراهيم في ديوانه “السندباد الكافر” تكتنز تجارب دواوينه التسع المتوالية الصدور منذ عام 1980، مع فارق جوهري يكمن في خصوصية تجربته في هذا الديوان وعلى الصعيدين؛ صعيد لبناء الجمالي، وصعيد البناء الوجودي. كما أن المقول الشعري في هذا الديوان، وبسبب قوة التعبير الدلالي والإشاري والإيحائي فيه، يمكن أن يصبح نصاً مفتوحاً على قراءات تأويلية متعددة المداخل والقراءات.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©