الثلاثاء 23 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

«مجلس» عربي في مركبة فضائية

«مجلس» عربي في مركبة فضائية
9 ديسمبر 2009 21:45
كثيرة هي “مجالس” الناس، المجالس/ الأمكنة. ومنذ القِدم اهتم الإنسان بها لما لها من دور في حياته الذاتية والأسرية والمجتمعية، وللمجالس أدوار أخرى تتعلَّق بالمنزلة بين الناس، وبالذوق، وبفلسفة الضيافة. ومن طبيعة المجالس أنها أرضية؛ فهي غالباً ما تُنشئ كينونتها الجسدية بالانطلاق من بقعة أرضية، قد نجد مجلساً في الطابق الأربعين بمنى ما، لكننا لن نجد “مجلساً” معلَّقاً بين السماء والأرض، إلا أن طاقة التخيُّل الإبداعية دفعت بالروائي الإماراتي خالد سالم الجابري في أول عمل روائي له حمل اسم “الرحالة”، دفعته إلى بناء مركبة فضائية تجوب فضاءات الأكوان، وتضم في داخلها مجلساً مصمَّماً على الطريقة العربية رغم أن روايات الخيال العلمي التي تحلق سردياتها في فضاءات الأكوان غير المتناهية لا تميل إلى التعامل مع مقتنيات الكوكب الأرضي. إنها ولا شك فكرة رائعة جادت بها مخيِّلة خالد الجابري الروائية؛ فكرة الخروج من الأرض إلى أكوان الفضاء الأخرى بمركبة فضائية مؤثَّثة بجسديّات الكوكب الأرضي كحلم في نقل مقتنيات الإنسان العربي التراثية إلى الفضاء لتتحوَّل، تلك المقتنيات هناك، إلى أيقونات حافلة بالدلالات، لكن تبقى الدلالة الجسديَّة فيها هي التي تهمنا هنا. نقرأ في الرواية المقاطع النَّصية الآتية: “تنهَّدتُ في عمق، ثم رفعتُ ما تبقّى من قهوة في فنجاني لأرتشفه دفعة واحدة. كانت عيناي قد سئمت منظر السماء فأخذتْ تحدِّق في ذلك المجلس العربي الأصيل بشرود هو أقرب للذهول. كانت وسائده قد تناثرت عشوائية محببة للنفس، واصطبغت بلون دموي صارخ خفَّف من حدته عدد من الزخارف المذهبة المتقنة التي يبعث مرآها في نفسي شوقا عجيبا إلى صحراء جزيرة العرب بسحرها وغموضها الأزليين.. وتلك الدلَّة الذهبية التي تتوسط سجادة بلاد فارس، ما زالت جميلة خلابة كما هي دائماً على الرغم من أني ملأتها بالقهوة آلاف المرات حتى صارت جزءاً من مركبتي الصغيرة، وجزءاً لا يتجزأ من عمري المديد. عفراء المتوحشة يا له من مجلس عاصر حقبات الزمن، هناك، بقرب تلك النافذة الواسعة الرحبة، جلست عفراء المتوحشة بثيابها البالية المصنوعة من جلود مختلفة؛ ثياب لا تكاد تغطي فخذيها السمراوين وأجزاء من صدرها، في حين تزين عنقها بأسنان حادة لوحش ما غامض المنشأ، وتألق حول جيدها النحيل خنجر كبير حاد لا أذكر أنه قد فارقها يوماً ما. مددتُ يدي بشوق نحو عدد من الألواح الخشبية المتراصة، واخترتُ منها واحداً أخذتُ أتأملَّه وعلى شفتي شبح ابتسامة تحوَّلت رويداً رويدا إلى ضحكة خفيفة من القلب. لقد كانت تحتسي القهوة بأسلوب مثير للضحك والشفقة معاً؛ فدائماً ما انسكبت محتويات القدح على أرضية المركبة وأزلتها أنا في تذمُّر.. كم أتعبتني تلك الفتاة؛ لقد أفسدت إحدى وسائدي العزيزة بخنجرها الضخم لمجرَّد العبث. لكن لا أدري لم أشتاق بحق إلى وجودها في مركبتي من وحدة قاتلة بغيضة؟ أتعلمين يا عفراء، أود لو تعودين إلى مركبتي لتفسدي وسائدي كما تشائين، تعالي وفارقي ذلك الكوكب الموحش المليء بالأدغال. لقد وددتُ ذلك، لكن قلبي لم يرض أن يحرمك من موطنك كما حُرمتُ أنا من موطني، وصرتُ أسكن في الكون ذاته، فخالق الكون وحده أدرى بمدى شوقي الشديد إلى جزيرة العرب الذي يفوق أي شوق”. يشترك خالد الجابري كمؤلِّف لهذا النص الروائي في فاعلية السرد؛ فهو راو فاعل Narrator - Agent يمتلك تأثيراً ملموساً في المواقف والأحداث، وتكاد كل التوصيفات الواردة في متن الرواية وعتباتها مُتحكَّم بها من جانبه، ولذلك نجد، في النَّص/ المقطع الذي اخترناه فوق، نجد “عين” ـه هي التي ترى: “عيناي سئمت منظر السماء، فأخذتْ تحدِّق في ذلك المجلس العربي الأصيل”. ما يعني أن الراوي هو الرائي، وعينه هي النافذة التي تزوِّد مخياله بصور الأشياء، وتشارك في بناء جسدها سردياً. لم يقدم الجابري كثيراً من اللوحات المرئية في نصه هذا عن “المجلس”؛ فمكانه الكلي شبه غائب، لكنه ركز على ثلاثة عناصر علامية هي: “الوسائد”، و”الدَّلة الذهبية”، و”السجادة الفارسية”. وإذا كانت “الوسائط” تمثل كينونة جسدية بصرية أو مرئية Visual، فإن مخيال الجابري منحنا صفة علاماتية لونية واحدة للوسائد هي “اللونية الدموية” أو “اللون الأحمر القاني”، ومن ثم ضاعف من صفات الوسائد عندما جعل لها سمة لونية أخف لم يحدِّدها، لكنه استعان بعلامة لونية أخرى هي “الزخارف المذهَّبة” التي كان لونها قد أضفى على لون الوسائد الدموي شيئاً من البهجة، وإن كانت مثيراته النفسية باعثة على التوتر بسبب هيمنة اللون الأحمر القاني، والمهم هنا هو الزُّخرف الذي بدا قيمة علاماتية مضافة على جسد الوسائد الأصل التي سيصفها الراوي في نص آخر من متن الرواية بـ “الفاخرة”. الصفة اللونية لا يتوافر النَّص/ المقطع على كثير من السمات؛ لا عن الدَّلة، ولا عن السجادة، سوى أن الصفة اللونية “الذهبية” التي كالها الراوي للدَّلة، والصفة النوعية للسجادة كونها إيرانية الصنع من دون تحديد قيمتها اللونية. من خلال النَّص التي قرأنا، تعرفنا إلى فساد إحدى الوسائد بسبب عبث فتاة اسمها “عفراء” التي قال عنه الراوي إنها “أفسدت إحدى وسائدي العزيزة بخنجرها الضخم لمجرَّد العبث”. إن الشرخ الناتج عن الإفساد هو “علامة” في جسدية الوسادة، وبالتالي في جسديَّة المجلس. وهي العلامة التي كانت تثير الأسى في نفس صاحب المركبة. لقد مارست “جسديَّة المجلس” دوراً كبيراً في استثارة حنين صاحب المركبة إلى الكوكب الأرضي، قال الراوي: “الزخارف المذهَّبة المُتقنة التي يبعث مرآها في نفسي شوق عجيب إلى صحراء جزيرة العرب بسحرها وغموضها الأزليين”. ولننتبه إلى كلمة “مرآها” الواردة في هذا النَّص؛ أي “مرأى” زخارف وسائد المجلس؛ فـ “المرأى” هنا يحيل على الجسد، جسد المجلس، ويحيل بالضرورة على السطوح المنظورة Surfaces التي هي بالطبع ليست سطوح باهتة؛ لأنها لو كانت كذلك لما أثارت في نفس صاحبنا الحنين إلى الكوكب الأرضي وهو المحلِّق عالياً في أكوان أخرى بعيداً الأرض، بل هي سطوح حيوية vital ومن جهتين؛ جهة ثرائها الدلالي في حدِّ ذاتها ككيان علامي وجسدي، وجهة علاقة صاحب المركبة بها، وهي علاقة تمتد لسنوات طويلة حتى إنه حمل وسائده معه في رحلته إلى أكوان أخرى. إلى جانب ذلك، أثارت جسديَّة المجلس المتمثلة في سطوح الوسائد والدَّلة والسجادة، أثارت في نفس صاحب المركبة الحنين إلى “عفراء” التي لم يكشف النَّص عن هويتها الشخصية كثيراً سوى أنها تقطن الكوكب الأرضي، وأنها كانت قد دخلت المركبة عندما كانت جاثمة في جانب من جوانب الأرض، وأنها عبثت بأشياء المركبة ومنها وسائد المجلس، وأحدثت شرخاً في سطح إحداها، وأنها كانت تدلق القهوة على فرش المركبة بقصد العبث. “كانت تحتسي القهوة بأسلوب مثير للضحك والشفقة معاً؛ فدائماً ما انسكبت محتويات القدح على أرضية المركبة وأزلتها أنا في تذمُّر.. كم أتعبتني تلك الفتاة؛ لقد أفسدت إحدى وسائدي العزيزة بخنجرها الضخم لمجرَّد العبث. لكن لا أدري لم أشتاق بحق إلى وجودها في مركبتي من وحدة قاتلة بغيضة؟ أتعلمين يا عفراء، أود لو تعودين إلى مركبتي لتفسدي وسائدي كما تشائين، تعالي وفارقي ذلك الكوكب الموحش المليء بالأدغال”. إن هذا الكشف عن الوجود العابث لـ “عفراء”، سبقه الكشف عن جسديَّتها الأنثوية، وهي الجسديَّة التي ظلَّ الراوي يحافظ على فضائها الغرائبي ليتواءم مع غرائبية الفضاء العام الذي يسم حكاية هذه الرواية، وبالتالي يسم الكائنات الفضائية التي يلتقي بها في رحلته إلى الأكوان غير الأرضية. قال الراوي: “جلست عفراء المتوحشة بثيابها البالية المصنوعة من جلود مختلفة؛ ثياب لا تكاد تغطي فخذيها السمراوين وأجزاء من صدرها، في حين تزين عنقها بأسنان حادة لوحش ما غامض المنشأ، وتألق حول جيدها النحيل خنجر كبير حاد لا أذكر أنه قد فارقها يوماً ما”. يمتلك هذا النَّص تشفيره الخاص به Coding؛ فهذه الفتاة هي سمراء البشرة، ولعلنا من خلال سمرتها ندلل على أنها عربية، وربما من بنات جزيرة العرب اللواتي يتمتعن ببشرة من هذا اللون، خصوصاً وأن صاحبنا الراوي المشارك في حكاية الرواية كشخصية مركزية، كثيراً ما يتذكَّر جزيرة العرب وهو المحلِّق في أكوان غير أرضية. إلا أن سمرة “عفراء” التي يدلل عليها النص من خلال اللوحة البصرية الواردة في عبارة “فخذيها السمراوين”، ألبسها الراوي رداءً جسدياً هو أقرب إلى لباس سكّان الغابات منه إلى الصحراء أو المدينة، ذلك أن ثياب “عفراء” مصنوعة من “الجلود”، وزينتها مصنوعة من “أسنان وحش”، ومن الآلات الحادة “خنجر”. ليس هذا فقط؛ إذ منحنا الراوي لوحة مرئية عن جسديَّة “عفراء” شبه الكاملة؛ أقول شبه الكاملة، بسبب غياب مرئيات الوجه والشعر والطول باستثناء “الجيد”، فقد بدت صورة هذه الفتاة السمراء كما لو كانت صورة إحدى فتيات الغابات اللواتي يغطين عوراتهن فقط، ويتزين بما تجود به بيئة الغابات من أشياء جمادية وحيوانية كحلي هدفها إحداث سمات جمالية في الجسد الأُنثوي. إذا كنا معنيين بفك شفرة Decoding توظيفات الجسد الخاص بـ “عفراء” في هذا النَّص/ المقطع، فإننا نظن أن النص أراد تعميق أنطولوجية جسد “المجلس” في روايته من خلال “الوسادة” التي شرختها أحدها “عفراء” بخنجرها، وفعل “التشريخ” غير المقصود، خلق علامة جسديَّة مضافة إلى جسديَّة الوسادة، كما أنها ـ الوسائد ـ؛ وبسبب طاقتها العلامية الهائلة، مارست دور الإحالة إلى جسديَّة “عفراء” الأنثوية من جهة، والإحالة إلى الكوكب الأرضي من جهة ثانية.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©