الثلاثاء 23 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

صالحة غابش.. تستنطق المرايا

صالحة غابش.. تستنطق المرايا
30 يونيو 2010 21:57
أقلام نسائية إماراتية (1) تحتل الكتابة النسوية الإماراتية مكانة استثنائية في المشهد الثقافي الإماراتي. فهي غنية بأقلامها وأسمائها، مبادرة في موضوعاتها، غزيرة في إنتاجها، متنوعة في إبداعاتها ما بين الشعر والقصة والرواية والريشة. هنا إطلالات على “نصف” المشهد الثقافي الإماراتي، لا تدعي الكمال والدقة، ولكنها ضرورية كمدخل للاسترجاع والقراءة المتجددة. تجمع الكاتبة الإماراتية صالحة عبيد غابش ما بين الإبداع الشعري والروائي، وما بين العمل الاجتماعي كمستشارة للمجلس الأعلى لشؤون الأسرة، وتوَج هذا العمل عام 2008 بحصولها على جائزة المرأة العربية في المجال الثقافي في دورتها الخامسة، والتي ينظمها مركز دراسات مشاركة المرأة العربية ومقرها العاصمة الفرنسية باريس. ما يميز صالحة غابش هو دورها في الحراك الثقافي الموجه نحو دعم الكاتبات من خلال إشرافها لسنوات طويلة على رابطة أديبات الإمارات في الشارقة، والتي أصدرت لنا واحدة من أهم المجلات الثقافية بعنوان “أشرعة” والتي استجابت لها العديد من أقلام الكاتبات العربية كونها متخصصة في نتاج المرأة أينما كانت، مما حقق لها صدى واسعا على المستوى العربي. زجاج هش صالحة غابش ذات منجز إبداعي موصول بمنجز جيل الرواد في قصيدة النثر الإماراتية وتجربة شعرية يؤرخ لها بديوانين الأول بعنوان “بانتظار الشمس”، والثاني حمل عنوان “المرايا ليست هي”، وتتكشف من خلال قصائده عورة الروح، وتتوارى الذات خلف زجاج هشَ تتبدى على سطحه الخارجي انكسارات العقل العربي، بينما المرايا كاذبة تعكس تضخم الذات، بينما هي تنطوي على خراب وخواء على مستويات عدة. في مقالة له بعنوان “صالحه غابش إماراتية تكتب عطب الروح وشموخها” يقول الناقد ناصر أبو عون: “ثمة ملاحظة جديرة بالاهتمام في شعرية صالحه غابش هي كثافة عناوين قصائدها، وهذا العنوان ليس مجرد اسم يحدد الهوية والانتماء، إنه عنصر دال من عناصر النص، بل إنه تسرب إلى مفاصل البناء النصي واندمج معه في علاقة بالغة التعقيد، وهذا ما دعا جاك دريدا فيلسوف ورائد التفكيكية أن يصفه بـ “نص ثريا النص” التي لا يسمح تعدد أضلاعها بالعد أو الاختزال.. وعند بورخيس ما سمي بـ “بهو النص” الذي إن لم ندخل من خلاله عالم المبدع أصبحت مقاربة النص معوَقة أو بلا أجنحة”. تقول الشاعرة في قصيدتها “وحدة”: يد الريح التي تهز مقبض الباب معزوفة صمت موحش تمنح الشرارة المتحركة في الذات فرصة سانحة للاشتعال. وما يهمنا هنا في تجربة غابش هو تلك الرؤيا المميزة في استخدام المعنى والمكان وبعضا من الموروث لتكوين قصيدة واعية لرسالتها وهدفها، فلطالما كان التراث جزءا مهما من استخدامات الشعراء في بناء وترتيب قصيدة مرتبطة إلى حد كبير بالجذور. عودة إلى مسيرة صالحة غابش نشير إلى أنها حائزة شهادة بكالوريوس آداب قسم الدراسات الإسلامية واللغة العربية من جامعة الإمارات العربية المتحدة بمدينة العين عام 1987، ودرجة الماجستير من كلية دار العلوم بجامعة القاهرة عام 1999. كتبت أيضا في مجال التأليف المسرحي فصدر لها: نداء من هناك، رحلة بثينة، الملكة، المرأة والسلطة. أول خطواتها مع رحلة الشعر كانت بقصيدة بعنوان “أحلام”. أما في مجال الرواية فتعتبر رواية “رائحة الزنجبيل” الصادرة عن دائرة الثقافة والإعلام في الشارقة من أهم أعمالها، فمن خلالها تنقل للقارئ روح الحياة الشعبية. وتقول صالحة غابش عن روايتها: “تعبر عن التوق إلى ذلك الدفء الإنساني المفقود في حياتنا والذي يبحث عنه الجميع، هي مجموعة تراكمات حياتية ومشاهد حية. أما الزنجبيل في التراث الإماراتي بوجه خاص وفي التراث العربي بوجه عام فله علاقة بما نشربه، فهذا المشروب الجميل المخلوط بالحليب خاصة في فصل الشتاء يساعد على تحقيق الدفء ومقاومة البرودة، لذا اخترته لما فيه من إحالة لتلك المشاعر الإنسانية، وله علاقة أيضا ببطلة الرواية “علياء” وارتباطها الوثيق بوالدتها، فهي لا تجد في أمها وهي تقبل يد والدتها إلا رائحة الحنان والحب والعاطفة النبيلة، خاصة وهي تحمل والدتها إلى المستشفى، فالرمز هنا يرتبط بمشاعر توشك البطلة أن تفقدها، وتجد نفسها فيما بعد وحيدة إلا في ذاكرة “الزنجبيل” والإحالة هنا أيضا إلى فكرة البحث عن الأمان والذي تفقده بطلة الرواية بالتدريج. عليا تعيش في هذا العصر وتبحث عما يبحث عنه كل إنسان وهو الشعور بالأمان والذي لا تجده إلا في تلك الرائحة ـ رائحة الزنجبيل”. في سياق ثان كتب الدكتور رسول محمد رسول تحليلا نقديا للرواية تحت عنوان: “قراءة في تمثلات المرأة الإماراتية ـ رواية رائحة الزنجبيل نموذجا”. ويقول: “ثمة بناء روائي محكم ولغة بيضاء لا تخلو من شعرية أسلوبية، وإدراك حقيقي لحراك الواقع الاجتماعي والتاريخي الإماراتي الذي كانت تنتمي إليه شخصيات روايتها ـ رائحة الزنجبيل”. كلما تتوغل صالحة غابش في نسج سردية الرواية، كلما تقدم لنا تمثيلات أخرى عن شخصية الدكتوره علياء، لكنها تستعين بشخصيات نسوية وذكورية أخرى في رسم الملامح الذاتية والنفسية والمزاجية والوجودية لشخصية البطلة، فقد كان والدها يقول لها: “أنت دون أخوانك قادرة على إبقاء اسمي مضيئا في السوق بعد وفاتي” وهذا يعني أن غابش قدمت لنا شخصية قوية، مفاوضة أو تجارية أو اقتصادية في حين تلجأ الروائية إلى تمثيل شخصية أخرى هي شخصية “عذيبة”، المرأة الريفية الجبلية التي تسكن بعيدا عن المدن المركزية في الإمارات والتي تهتم بالقراءة كثيرا والتي ترسم صورة أخرى لبطلة الرواية. لكن من المهم الإشارة إلى أن هذه الرواية ليست تقليدية في نسج بنائها، بل هي قائمة على ذاكرة امرأة بما تشتمله من مخزون الأحداث الاجتماعية والمعايشات الذاتية في إطار يستفيد من لغة المسرح والفن الدرامي. لقد استفادت صالحة غابش من عنصر المكان كثيراً في روايتها “رائحة الزنجبيل”. فالمكان في الرواية يحمل بيئة وهوية الإمارات وبخاصة إمارة الشارقة حيث تعيش الكاتبة، وحيث تكون تحصيلها العلمي والثقافي. وتقول في ذلك: “أحببت أن أتوغل في ثقافة المكان بحيث لا أتأثر في كتاباتي بالمدينة وحسب، فذهبت إلى المناطق الشرقية: خورفكان ووادي الحلو، وهناك مشهد في روايتي لليلة قضيتها في وادي الحلو في حقبة السبعينات من القرن الماضي، وربطت بين تعلق البطلة علياء بهذه المنطقة واستمرار بقاء المكان في الذاكرة، على الرغم من كل هذه السنوات والتي تعود إلى مرحلة المراهقة حيث تتذكرها البطلة وهي على مشارف سن الأربعين، وهنا حاولت تصوير المشاعر الإنسانية العائدة من الذاكرة من خلال طابع تاريخي ثقافي، كما تطرقت إلى منطقة “الرولة” وقارنت بين ماضيها وما أصبحت عليه الآن، والى خور فكان حيث الدفء الأسري والتكاتف الاجتماعي وسط غمرة ضغوط العولمة والتقدم المتسارع الذي نشهده على المستويات كافة. يذكر أن أول قصة كتبتها صالحة غابش كانت بعنوان “وهدأت العاصفة” ونشرتها في صحيفة الحائط المدرسية، أما ثاني عمل روائي أو قصصي لها فقد استنبطت فكرته من فكرة الفيلم الكويتي “بس يا بحر” وتدور أحداثه حول العلاقات الأسرية. صوت بثينة مجموعتها الشعرية الصادرة عن منشورات دائرة الثقافة والإعلام في الشارقة بعنوان “بمن يا بثين تلوذين” واحدة من أبرز أعمالها، وتضم المجموعة ست عشرة قصيدة. أما لوحة غلاف المجموعة فهي للفنانة الدكتورة نجاة مكي. أما “بثينة” موضوع هذه القصائد فهي “بثينة بنت المعتمد بن عباد” الأميرة الأندلسية ابنة ملك إشبيلية الذي نكب في ملكه وأسر، ثم نفي وأسرته إلى مدينة “أغمات” المغربية. وجدت بثينة نفسها فجأة جارية بعد أن اشتراها تاجر إشبيلي ظانَاً أنها واحدة من الجواري، ودفع بها كهدية إلى ابنه، لكنها امتنعت عنه، وأظهرت له نسبها الحقيقي كابنة ملك، وأخبرته بأنها لن تحلَ له إلا بعقد زواج شرعي إن رضي بذلك. وبموافقة الشاب ووالده على طلبها يتجلى حضور بثينة الشاعرة التي علمت بقوة انتماء وعشق والدها للشعر، فكتبت له قصيدة تحكي فيها ما أصابها وآلت إليه منذ أن سقطت من حسابات النفي في “أغمات” فكان مما قالته في قصيدتها لأبيها: لا تنكروا أنني سبيت وأنني بنت لملك من عباد ملك عظيم قد تولى عصره وكذا الزمان يؤول للإفساد لما أراد الله فرق شملنا وأذاقنا طعم الأسى من زاد ولما وصلت القصيدة من الشاعرة بثينة لأبيها الملك، اطمأن الأب المعتمد وارتاحت الأم وانتصرت بثينة لحقها في الحرية والحياة ونيل أبسط حقوقها من خلال كبريائها وإصرارها. بالمجمل العام يمكننا القول إنه تختلط أنماط الشعر المتعددة في قصيدة صالحة غابش، كما تتجاوز الشعريات المختلفة في قصائدها، وتمتد المسافة من عمود التقليد إلى التفعيلة الغنائية الملتبسة بالصور الدرامية، وصولاً إلى القصيدة المتحررة من الأوزان والقوافي والمتحررة كذلك من النماذج السائدة في قصيدة النثر العربية، وقد تجتمع العناصر الثلاثة في نص واحد من دون أن يظهر أي منها على وجه الخصوص، فما من مسطرة تقيس الشاعرة شعرها عليها، باستثناء مسطرة الدفقة الشعرية المحملة بروح الفكر والهاجس والحلم ونظرة الأفق نحو عالم جديد: هذا زمن لا يعرف كيف يحب فامتشقي قامة أخرى تخرج بك من زجاجة القصيدة الخانقة وفي موقع آخر تقول: خاو هذا العالم يا صديقي لا مكان فيه لشاعر يملأ حقائبه بالقصائد ويطارد سحابة بيضاء. في ديوانها “المرايا ليست هي” الصادر عن اتحاد أدباء وكتاب الإمارات، عوده مهمة إلى الجذور، واستخدام الموروث بصورة تحمل الكثير من الدلالات، فعلي سبيل المثال لا الحصر، نجد في قصيدتها “إليك قهوتي” الاستحضار الرائع لشخصية (الحادي) الذي يقود الإبل في رحلتها الصحراوية المضنية، وكيف يحث قافلة الإبل على السير واجتياز الكثبان الرمية وهو يغني لها، مستعيرة من ثقافة البادية الكثير من المضامين والمعاني. هذا الموروث تستعيده غباش وتعيد توظيفه للتعبير عن مفهوم التواصل في التجذر في القيم العربية الأصيلة والقهوة وهو عنصر ثابت وبمثابة الخيط الرفيع الرابط بين الماضي والحاضر، فتبدو الشاعرة مشدودة إلى الجذور، تحيا الحرية بشكل رومانسي، من عشق القمر إلى أجواء البادية وذلك السكون الجميل الذي قد لا تجده في المدينة وضوضائها المشحون بالحركة الزائدة: من أين جئت كيف مزقت يداك خيمتي كيف صار العشب من حولي شاطئا من ياسمين كيف قلبت صفحات اللغات كلها ثم اقتحمت أبجديتي ترمي بأحجار المفاجأة وحدتي المعلقة بين انحناءات النخيل تكسر الربابة الحزينة وتبعث الحداء في عباءة الضغينة ما زالت يا رفيق امرأة تعشق في الصحراء بسمة القمر صالحة غابش ومزج قصائدها بالموسيقى والتشكيل اعتاد الوسط الثقافي والجمهور في الإمارات على لقاء الشاعرة والقاصة صالحه غابش من خلال الأمسيات الأدبية التي تقيمها هنا وهناك، ومن ذلك تلك الأمسية الجميلة التي أقيمت في قاعة المؤتمرات في إكسبو الشارقة على هامش الدورة الأخيرة من معرض الشارقة الدولي للكتاب، وفيها قرأت غباش مجموعة مختارة من قصائدها التي استلهمت فيها بعضاً من التراث الصوفي والتجربة الذاتية في أجواء اختلطت فيها الموسيقى والتشكيل والشعر. نتذكر ما روته بصوتها في قصيدة مميزة بعنوان “فرح”: للمطر الذي أطل برأسه من شباكي أتزين أمام المرآة واختار لقميصي عطرا تشاكسه رائحة الطين للمطر وحده أتزين ومن قصيدة “مارية” قرأت صالحة غباش ما أتحف الجمهور ونقتطف منها: مارية حبة زيتون صغيرة جدا تبحث عن شجرتها في صحراء لا تنجب زيتونا تفتح فمها الصغير جدا حين تضل قطرة ندى طريقها فتسكنها أخضرها البري مارية فتاة ستأتي من النهار وامرأة سيأتي بها الليل يضج بها العالم الآن من ضحكتها ويقول لها: يا مارية زيدي وصلي وترنا المقطوع.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©