الخميس 18 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الكعبي ومانديلا ومكر العبقرية

الكعبي ومانديلا ومكر العبقرية
30 يونيو 2010 21:53
علي سعيد الكعبي، كان من المعلقين على المباراة الافتتاحية بكأس العالم في دورته الحالية. ودائماً هذا المعلق الإماراتي الذي يمتاز بلغة جيدة في التعليق وبثقافة رياضية عالية يفاجئك بمعارف أخرى غير الرياضة، فهو بإمكانه حين يعلق على مباراة للأرجنتين مثلاً أن يتذكر بورخيس، وفي المباراة الافتتاحية التي أذكرها هنا، والتي جرت بين جنوب أفريقيا (مستضيفة البطولة) والمكسيك، وجد الكعبي المناسبة سانحة كي يتحدث عن نيلسون مانديلا، عن نضاله وعن السنوات الطويلة التي قضاها في السجن. كان الكثيرون يمنون النفس بمشاهدة مانديلا وهو يفتتح أكبر بطولة عالمية لكرة القدم، تستضيفها ولأول مرة دولة أفريقية، فهذه الشخصية الكبيرة والاستثنائية كان بحضورها ذاك، ستؤكد أحقية قارة قديمة وعظيمة كأفريقيا لأن يكون لها كل الحضور في مختلف تجليات المشهد في العالم. لكن مانديلا الذي تجاوز التسعين، والكهل جداً من السجن، لكن كذلك من العشق، من السياسة لكن من الحياة أيضاً، حدث وإن ماتت ابنة أحد أحفاده، أو هكذا قالوا في الأخبار، وقبل يوم من الافتتاح. العجوز والصبية وأياً كانت عظمة المونديال، فإن موت صبية صغيرة في حادث سيارة حدث مأساوي يطغى على كل عظمة. وفي كثير من لحظات المباراة كان المعلق الكعبي يتذكر مانديلا، فلو فازت جنوب أفريقيا اليوم لفرحت كما فرحت حين أطلق نيلسون من السجن، ولو حدث وكانت هدفاً تلك الكرة الجنوب أفريقية والتي صدتها العارضة، لأحب الناس هناك، على الأقل لليلة واحدة، لاعبها كما يحبون نيلسون، بل إن المعلق، والذي يصف مانديلا بالزعيم الروحي لجمهورية جنوب أفريقيا الكبيرة والشائكة، يذكر، على الهواء مباشرة، ما قاله له أحدهم بأنه، لا سمح الله، لو مات مانديلا، فلا يعرف ذلك المتحدث ما الذي بالإمكان أن يحدث في بلاده، إذ يكفي، كما قال ذلك الجنوب أفريقي، أن يخرج مانديلا ويقول كلمتين حتى ينصت له الناس، كل الناس، ويسمعون كلامه. زعيم كاريزمي كهذا نادر، هكذا كان غاندي مثلاً أو عبد الناصر، وبالتأكيد لم تُصب الكاريزمية بعد بالعقر، ولكنها على ظني، ليست كذلك ولودة بما يكفي. وغير مداخلات المعلق الكعبي “الثقافية”، إذا ما صحت التسمية، فإن الرجل ذو حس نقدي، على الأقل في حقله الرياضي، ولعله قد تعرض في حياته إلى الكثير من النتائج السلبية لمثل هذا الحس في مجتمعاتنا التي لا تزال قدورها تغلي على حجرتي المدح والهجاء، وفي تعليقه على تلك المباراة، وكإجابة على سؤال سأله لنفسه: متى بإمكان العرب أن يفوزوا بكأس العالم؟ قال: إن ذلك الحلم بعيد جداً، وأنه يتمنى فحسب أن تكون إحدى الفرق العربية طرفاً في مباراة افتتاحية كما هي جنوب أفريقيا الآن وأن يفوز ذلك الفريق بتلك المباراة. قد يبدو الكعبي هنا مروجاً لملف قطر التي تسعى لاستضافة هذه البطولة الكبرى في العقود التالية، إلا أمر فوزها بالمباراة الافتتاحية أقرب ما يمكن أن نقول عنه إنه من مشاغل ملائكة “القضاء والقدر”. كما أن الكعبي يعرف وقبل غيره بأن هنالك فرقاً عربية عدة فازت في مباريات “بالمونديالات” السابقة، ومنها من تخطى الدور الأول، إلا أنه أراد على ما يبدو القول إن حتى حلماً صغيراً هكذا يبدو صعباً الآن، وان تحقيقه، كما استطرد، بحاجة إلى عمل وجهد كبيرين، ولكن أول خطوة، في رأيه، ينبغي أن تحدث، هي أن يكون المخططون لشؤون الكرة من أهل المهنة، وليس من خارجها. فالذين يفكرون بمستقبل الكرة عندنا، هم، على حسبه، أبعد ما يكونون عن الكرة، والأقل معرفة فيها، وبعالمها، وأسرارها وآفاقها. لكن ذلك الحال أيها الأستاذ الكعبي لا يقتصر على شؤون الكرة، فالقائمون على الثقافة هم كذلك أبعد ما يكونون عنها، وكذلك الصحة والتعليم والاقتصاد، والمجالات كافة. فالمسؤول في منطقنا لا يصبح مسؤولاً نظير معرفته وخبرته، وإنما لقربه من المسؤول الأكبر، وهذا القرب متعدد فهو إما عائلي أو قبلي أو أيديولوجي أو نفعي مصلحي. وإذا ما قال أحدنا إن الديمقراطية هي العلاج الأنجع لورم سرطاني من هذا النوع يفتك بأجساد مجتمعاتنا، فإنه حتى الديمقراطيات عندما افتقدت للقيادي الذي يعرفها، وتحولت المجتمعات المدنية إلى صوت مسخ لا يسنده دافع تطويري خلاق ينبعث من داخل هذه المجتمعات، و”قُبلت” من (القبيلة) الديمقراطيات و”تعيلت” (من العائلة)، وتمذهبت وتعسكرت وأوريت كما تدار الدابة في الدرس، وألقيت في الجيب العلوي لقميص السلطة كما تُلقى السمكة المشوية. عالم محبط لم يكن سيؤمن نيلسون مانديلا جماعته بإحباطه بالتأكيد، وإلا لما اعتبرهم العالم، كل العالم، اليوم مناضلين استثنائيين أخرجوا جنوب أفريقيا من ظلمات “العنصرية”، وها هي ملاعبها مضاءة، وتستقبل أكبر تظاهرة رياضية في العالم. هذه التظاهرة، ولأنها تقع في جنوب أفريقيا المحررة سلطت الضوء بالطبع على زعيم هذا التحرير. وتتبعت حتى الجوانب الاجتماعية لهذا “المناضل الأسطوري”، والذي “يكن العالم أجمع احتراماً كبيراً” له و “يعتبره رمزاً للسلطة الأخلاقية”، ولكن، كما جاء في مقالة نشرتها “ذي ديلي تلجراف”، لا يعلم معظم القراء الجوانب الخفية من حياته، فهو كما يقول كاتب سيرته (ويدعى ديفيد جيمس) “رجلاً ثورياً في جميع الأمور، ولكن ليس كزوج أو والد”. والعجوز مانديلا ظهر بعد ذلك في جنازة حفيدته زيناني (وهي واحدة من أبناء أحفاد مانديلا التسعة) متكئاً على أحد مساعديه، ولقد ألقت السنوات التسعين أو يزيد على كواهله بثقلها الجليدي. وإذا ما اعتبرت وفاة زيناني فاجعة، فإن حياة مانديلا كانت في الحقيقة سلسلة من الفواجع، والفراقات والانفصال. فغير سنوات السجن الطويلة، فإن مانديلا فقد أكبر أبنائه وهو لا يزال رضيعاً، بينما تكفل الإيدز بالقضاء على ابنه الثالث عام 2005. الزعيم والنساء هذا من جانب، أما من جانب آخر فلقد كانت حياة مانديلا سلسلة من الزيجات والعشيقات. وكانت أولهن ايفلين الممرضة التي تزوجها حين كان قانونياً ومحامياً شاباً. تقول ايفلين: “... أحببته من أول مرة رأيته فيها”. غير ايفلين كانت هناك روث ممباتي، والتي كانت تعمل مع مانديلا في أول مكتب أنشأه للمحاماة في جنوب أفريقيا، والتي يقال إنه “كان لها الضلع الأكبر فيما بعد في انهيار زيجته الأولى”، وتواصل صحيفة “ذي ديلي تلجراف” سرد قائمة عشيقاته، فـ “أيضاً هناك نساء أخريات، فخلال إحدى جلسات حزب المؤتمر الأفريقي الوطني عام 1953”، والذي تزعمه مانديلا كما هو معروف، “كانت هناك ناشطة جميلة اسمها ماليبو، اتهمها أعضاء الحزب بأنها لم تعد تساند مانديلا، لكنها وقفت لتقول للمجتمعين: ـ إن الرئيس كان في منزلي... وأضافت: ـ ليس ذلك فقط، وإنما البرهان هو أنه نسي قبعته هناك. وتقول أمينة كاشاليا، إحدى صديقات مانديلا: ـ إنه مغرم بالنساء وكثيراً ما يختار أجملهن. ويقول الآخرون إن مانديلا كان معجباً بكاشاليا نفسها، وإن ظلت صداقتهما تقف عند حد الإعجاب، فهي جميلة أيضاً ونشطة سياسياً ومتزوجة من أحد زملائه المقربين. ويبدو أن دولي داتبي، فتاة الغلاف التي تظهر بالبكيني في مجلة “وورم”، وهي المجلة التي تظهّر الثقافة والسياسة السوداء منذ خمسينات القرن الماضي، ارتبطت بعلاقة مع مانديلا، إلا أن تلك العلاقة كانت من الأمور المسكوت عنها في جنوب أفريقيا. أيضاً كانت هناك الفتاة دولي، المغنية والممثلة التي عاصرت المغنية الجنوب أفريقية الراحلة مريام ماكيبا”. ممرضة وقانونية وناشطة سياسية وفتاة غلاف ومغنية من مجموعة زوجات وعشيقات ذلك الزعيم الأفريقي التي تواصل “ذي ديلي تلجراف” عدّهن، إلا أنني سأتوقف عن هذا هنا، على الرغم من شغفي برواية الحكايات وتفاصيلها، أو ما يمكن تسميته بالنميمة على الحياة والتاريخ. أتوقف عن هذا وأنا أقارن بين صورتين لمانديلا نشرت مع هذه المواد الصحافية، الأولى وهو يرتدي المعطف الأسود في تناقض صارخ مع شعره الأشيب (لطالما أحب مانديلا الظهور بقمصانه الملونة) وهو يتكئ من جهة على عصا، ومن جهة أخرى على يد أحد مساعديه، ويتقدم خافضاً الرأس إلى حيث ستشيع جنازة حفيدته. أما في الصورة الأخرى فيبدو مانديلا شاباً مع عروسه ويني (أضحت بعد ذلك طليقته، وهي بالمناسبة جدة زيناني، الحفيدة المتوفاة، وحضرت مع ابنتها الأم الجنازة). في هذه الصورة، وبوجهه المملوء والمستدير، يتمتع مانديلا بوسامة أفريقية واضحة، تزيد من عمقها ابتسامة دفينة، وعين يُمنى شبه مغمضة تصطاد الأسرار من أكثر المياه دكنة واضطراباً، عين تشي بالمكر واللعب واتساع أفق الحيلة. تناقضات الشخصية العبقرية، كيف يمكن قراءتها؟ بالتأكيد الروزنامة الأخلاقية تطبيقاتها غير قادرة على استيعاب ما يحدث هنا، ولا تلك التصنيفات الطبقية أو العرقية أو النفسية التي نضع جداولها كي نرتاح؟ إذن، كيف نقرأ الشخصية العبقرية؟ هل بروايتها من جديد كما يفعل الأوروبيون مع شكسبير أو نابليون ـ مثلاً ـ حين يصدرون أكثر من كتاب عن حياته أو أعماله، وفي كل عام؟ رواية الشخصية العبقرية كل مرة من جديد، لربما هذه الإجابة وحدها تبدو المعقولة أمام الالتباسات والمكر والألغاز التي تطرحها دوماً هذه الشخصية. إذ لا يكفي أن نردد ثلاثة أبيات للمتنبي ونقول إنه عبقري، وأنه ينتهك أرواحنا طوال هذه القرون. علينا جيلاً بعد جيل أن نقدم قراءة حول ما يحدث لنا حين نصادف المتنبي، ونتداخل معه، أثناء حياتنا الآن. علينا كل مرة أن نروي المتنبي لأننا بذلك نروي أنفسنا. وبرواية أنفسنا نكون. a.thani@live.com
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©