الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

السويدي.. حراثة في السَّديم

السويدي.. حراثة في السَّديم
22 ابريل 2015 21:25
مقاطع من رواية الديزل ثاني السويدي إنه في صبيحة أحد الأيام، في مطلع شوال، زف إلى والدي خبر ولادتي، كان عائداً في ثيابه المحترقة بالبحر... كان ثوب الصياد الجميل يعبر عن فرحته، أخذ والدي يتدحرج ويصرخ بصوت عال: إن القدم الحافية هي التي يعطيها الله كل شيء تتمناه. *** ها هي الشمس تحمل قوالب النهار، وتخفيها تحت إبطها الأحمر، وصلا لحظتها إلى منطقة اصفّر النخيل فيها، وتحولت يبوسة النبع إلى تراب مجمّد، صرنا نزحف فوقه كي نصل خاتمة النهار بأطرافنا، ونلتقي بكل من ولد حركة للتقوّس، وشالا أسمر يظلّل الليل، لكنه طالما يحاول ألا يوقظه. استقبلوني بفرح الماء حين يتدفق مثرثرا ببراءة، لقد أحسست وسطهم بصداقتي العظيمة للحياة، أحسستها بأفضل من كل التوجهات التي لقيتها في عرس بنت الوالي، كانوا صادقين معي في فرحهم لأنهم يعرفون أنني قوت هذا الفن، وحصاره الذي يمتد حتى آخر أنفاس هذا الحصار الذي طالما يلعبون ويرقصون به كنوارس الصحراء، ويغيّبون آمالهم تحت ظلال الشغف مستلقين بأجسادهم كزهور الأوصياء والعباقرة منفتحين بثغورهم على غموض الحياة، مفرغين خطاهم في حراثة الرمل، لا يعبأون بقافلة الديزل، إنما برائحة الديزل حين تمرّ على عبقهم، فتشطرهم جزءا واحدا، يفكّكون منه آمالهم، ويتقبّلون هدايا السماء بلعنة يساومون بها الأرض بشقائهم، ويلعنون مراكض الأعشاب فوق جبال المعصية. لابد أن يكون لهذا النهار ضوء مختلف، يُسقط الشمس في متاهات الوجع، هذه الشمس التي ما زالت ومنذ الأزل تبكي ضوءا، ونحن نرى ونتدفأ ببكائها، معتقدين أنها ضاحكة، مبتسمة، تنام كما ننام، ولا أحد يتساءل أيّ منا ينام قبلا، نحن أم الشمس، فقد تكون الشمس عند غروبها تتمدد على السرير، وهذا الاحمرار منها هو إشارة إلى عشيقها الذي يسكن الأرض ليصعد فوق آخر شعاع لها، ينام معها ثم ينزل عند الصباح مع أول شعاع، ساحبا معه لون الجبال والأشجار الناعسة. *** ها نحن بعيدا عن الطاولات التي ترتديها المنازل والقصور، نجلس بعيدا عن خشب الموسيقى المعتاد، نفتح جسد الظلام بمحاولات بسيطة من أعيننا لكي نرى ما وراء الضوء حيث ينتحر مشتعلا ببريق الجسد، لقد بدأوا بنبش التراب ورسم طاولات رملية وضعوا عليها أوراق أجسادهم وكراسي صغيرة من الأحجار كي لا تقسوا أردافهم على هذه الأرض، ثم قام واحد منهم ووزع على كل فرد غصن شجرة وطبلا، وعلى كل واحد منّا أن يدقّ الطبل مرة واحدة ثم يرمي بالغصن تحت قدم الشخص الذي يريده رئيسا، لم تمرّ لحظة واحدة إلا والأغصان قد تجمّعت تحت قدميّ، أما غصني فلقد رميته إلى السماء منتخبا إيّاها. وقتها عرفت أنّي الرئيس المختار، وأنه لا مفرّ من أن أرحم هذه الأمة من بؤس الجدران المتناثر في القرى. ها أنا أحمل معصية جديدة، وقلبا جديدا، أحمل تدفقات الدخان في لوحات النار، ها أنا أستيقظ مرة أخرى، والطاولات لا ترفضني، بل أرفعها وقتما أشاء، وتشاء النجمة التي تسكن رأسي، ها هي الشمس تمزّق أذن الليل بدقّاتها المعتادة، ترى لم لا تستغني الشمس عن لونها الأصفر المملّ هذا؟ وتعطينا بدل اللون رائحة تصنع من صباحنا بديلا للقهوة، وتعطي لطرقنا ابتسامة جديدة، عندها أعدك بأنني أول من سيمشي فوق الرائحة ولا يسقط، لأن للرائحة همّا أعمى يرانا ولا نراه. البلدة كانت تنتظرني، تنتظر أن يأتي مساؤها يغربل الليل بشمعدانه، وأذكر أنك لحظتها كنت تمشي تحت سدرة، وكانت أشواكها تتصارع مع الأوراق بينما أنت واقف تكذّب على القرية وتوهمها بأن لسانك نسيته في البحر، وأن البحر لم يعد إلى الآن، كنت أحد البحّارة الذي سرق موجة وخبأها في بيته، تعتقد أن السفن التي تنظفها كخادم لابد أن تغرق، عندها يكون بإمكانك الغوص في البحر، تسرق لسان بحّار ثرثار تعوض به عن ذاكرتك السابقة. ... ... آه لو تعرف يا صديقي من أنا؟ أعرف جيدا أنني أتعبت أذنك هذه الليلة كثيرا، لم يعد باستطاعتي الحديث، هيّا، هيّا يا صديقي الأبكم قد اقترب الفجر قم.. قم وأذّن! إبراهيم الملا أصدر الشاعر ثاني السويدي مؤلفه العصي على التصنيف: (الديزل) في العام 1994 في وقت كان فيه هاجس الكتابة يصطدم مع كل تأطير ضيق ومغلق وإقصائي، كتابة كانت أشبه بالحراثة في السديم، والافتتان بالمغامرة اللغوية حتى تخومها الغامضة، ظهرت أصوات شعرية عديدة في تلك الفترة استطاعت أن تخترق تابوهات السائد الثقافي، وتنحاز إلى التجريب واللعب على أكثر من وتر إبداعي لجمع الأضداد الأدبية المتنافرة سلفا، وتذويبها في نسق تعبيري متدفق، يشتمل على روافد ورؤى وانبعاثات حارّة وحرّة ومحيّرة للذهنية الكلاسيكية وقتها. في ذلك المناخ الفائض بالتنوع والاختلاف خرجت رواية (الديزل) مثل «شمس تمزّق أذن الليل» محتفية بتداعيات منسابة على ضفاف الشعر والرواية والهذيان المروّض والأناقة المتوحشة، وجاءت أشبه بالنفّس الإنشادي في فضاء اعتاد الصمت والتصحّر، كي تذهب بعيدا مع إيقاعها البصري المنهمر في أودية خيالات تمزج بين ذاكرة الذات وذاكرة المكان. يرتفع صوت الغناء والعويل والعواء في هذا المشهد الكابوسي المرهق في حياة «الديزل» وسط فضاءات اجتماعية شائكة واعترافات ذاتية صادمة، تتصاعد فوق خرائب الماضي عبر مونولوج طويل تقودنا فيه شخصية: «الديزل» إلى مسالك واختبارات وعرة، تجتمع فيها الأطياف السوريالية مع الواقعية الخشنة لتروي لنا سيرة حياة ضارية لعائلة صغيرة تكبر فيها جرثومة المأساة، لتتحول إلى لعنة مقيمة، وإلى تمزقات هائلة بين ماض ملوث ببراءته، وبين راهن أعرج يتهادى بين مدن النفط وقرى الغبار وسواحل الأسطورة. بدا مخطوط «الديزل» في حجمه المكثف ونسقه التعبيري الشاسع، أقل من رواية، وأكثر من شعر، ورغم الضجة أو الصدمة التي أثارها هذا المخطوط وقت صدوره، إلا أنه يظل إحدى المحاولات القليلة والجادة والمتمردة بالفعل على الوعي المتكلس والكتابة الإنشائية والتعبير التقليدي الدائري الذي لم يتجاوز قشرته السميكة المسورة بأدب ماضوي مطمئن لخطابه العتيق، ويمتد أفقياً، مثل جسد محنّط، بعيداً عن توتر الزمن وقلق الذاكرة، وتوهج الحياة المشتعلة دوما بالأسئلة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©