الخميس 18 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الأدب يخلق الأساطير.. ويدمّرها

الأدب يخلق الأساطير.. ويدمّرها
22 ابريل 2015 21:57
نعرف الحضور الكبير للأسطورة في أعمال الراحل غونتر غراس الروائيّة. ففي رواية «طبل الصفيح» التي أتاحت له شهرة عالمية واسعة في الستينيات من القرن الماضي، والتي حولها المخرج فولكر شلوندورف إلى فيلم بديع، نحن نجد أنفسنا أمام قزم يذكرنا بالشخصيات المشوهة في أساطير أوروبا الشمالية. وتحضر الأسطورة أيضاً في رواية «سمك التّرس» الصادرة عام 1977، وفي رواية «الفأرة» الصادرة عام 1988. أما في رواية «سنوات الكلب»، فإن غونتر غراس يستعين بالإنجيل ليعالج التاريخ الألماني. في نص حمل عنوان «الأدب والأسطورة»، يقدم غونتر غراس رؤيته للأسطورة، ولتأثيراتها في مجمل أعماله الروائية، حيث كتب يقولك: إن موضوع «الأدب والأسطورة» يغرقني في شيء من الحيرة والارتباك ذلك أنه يتضمن التأكيدات، والعقيدة المفهوميّة للباحث في العلوم الأدبية. أما أنا فلا تأكيدات لي ولا يقين، أما بالنسبة للمفاهيم المتداولة، فإن أفضل استعمال لها هو دفنها. ريبة وشك ثم إن التجارب في مجال الحقل الدلالي للأسطورة، وللأساطير، وللأسطوري، جعلتني مرتاباً ومتشككاً. بالإضافة إلى هذا كله، نحن نتحمل دائماً في ألمانيا، نتائج سياسيىة معيّنة أرادت أن تصنع أسطورة غير أنها أفضت إلى «الهولوكوست». إن مثل هذه التجارب اللاعقلانية ولافرازاتها، التي لا تزال تؤلمنا إلى يوم الناس هذا، أشاعتا فينا العقيدة في العقل، وهي عقيدة تتجاوز ما هو محتمل. ولكلّ معجزة نحن نقوم بجرد التكاليف. وللإشارة إلى الفوضى، جاءتنا فكرة التجزئة. في كل غبش، يلمع ضوء القنديل الزيتي للتحقيق الإحصائي. ونحن نستعمل العقل كمضاد للسم. ونحن نتشممه، ونستنشقه. ولبعضنا البعض، نضخّ حقّنا في العقل. بعد ذلك، نحن نعتقد أننا أصبحنا محصنين ضد الإغواءات الجديدة التي نقذف بها أيضاً في أعماق مفهوم كيس المهملات غير محدد الجوانب، اللاعقلانية، وكلمات مثل الأسطورة، والأساطير والأسطوري. وها نحن نعاني اليوم النتائج. فتحت غطاء اللغة التي تعقلن، خلق مفهوم العقل الذي يزداد ضموراً يوماً بعد آخر مبعدا كل ما يمكن أن يهدده، لاعقلانية تشهد تصاعداً مع تصاعد أسطورة التقدم. ومنذئذ أصبحنا نستعمل مختلف الأساطير التي كبرت شتلاتها في براثن هذه الايديولوجيا أو تلك لتغذية اللاعقلانية التي شبعت من العقل حتى أن نجاحها (مع الأساطير المتعاقبة والناجعة) أصبح يهمّ في نفس الوقت المجتمعات التي تزعم أنها بلا طبقات، والمجتمعات التي تعتقد أنها متعددة، وحيث الأساطير تستعمل كمفهوم أعلى. والعقل نفسه لا يريد أن يقرّ بذنبه. ومنذ أن جعلت منه الثورة الفرنسية البداية والنهاية للأنوار الأوروبية، ومنذ أن أقيمت له المعابد الصغيرة والكبيرة خلال الثورة، وبات أسطورة تماماً مثلما هو الحال بالنسبة للتقدم، تسامي العقل، واليوم هو يمارس الاستبطان الحزين. وبما أنه لا يحتمل مثل هذه الحالة، فإنه يطالب بحبات إنعاش. المفارقات دمرت. والذي كنّا نعتقد أنه فصل بطريقة نظيفة، وبات جيدا على المستوى الأيديولوجي (من ناحية العقل الذي يفسّر ويضيء، وبالتالي يعجل بالتقدم، ومن ناحية أخرى اللاعقل المتهم مفهوميا بأنه لاعقلانية). وكل هذا أصبح مختلطا بشكل مأساوي. ونحن نهتز، ونطلق الوسائط الروحيّة. وبما أننا أصبحنا عاجزين عن القيام بأيّ فعل، فإننا سلمنا انفسنا إلى عّرافي العصور الحديثة، أعني بذلك أجهزة الكمبيوتر. ولم يعد يعبّرعن الحقيقة على الأقل إلّا من خلال الحكايات والأساطير في حين أن الضغوطات الموضوعية لعصرنا ممتزجة ببعضها البعض بطريقة لاعقلانية للغاية، تحرمنا من كلّ اكتشاف معاش.ان الرؤيا مبرمجة بالنسبة إلينا بدقة تقنية عالية، أي من دون التباس أو ألغاز أو إبهام (...). الأدب، الابن السيء التربية للانوار، ألا يكون مهيئاً بصفة خاصة لاستحضار اللحظات الأولى لتطور حداثتنا؟ ألا تساعدنا رسائل مونتاني على تحرير العقل من ضيقه الطهراني، وعلى تحريره من مجادلاته، مجادلات عجوز عابس؟ ألا يستطيع رجال الأدب أن يعلموا العقل الذي لا يفهم إلاّ عقلانيّا أن القصص والأساطير والخرافات لم تولد خارج الواقع، واقعنا، وإذا هي لا تسكن في مكان ما من الهامش، وهي واقعيّة، وبالتالي ليست مطالبة باستحضار العتمات الرجعيّة؟ وهي عكس ذلك، ظلّت جزءاً من واقعنا، وهي لا تزال تتمتع بما يكفي من القوة لكي تمثلنا بشكل واضح (حتى لو تمّ ذلك بتعبيرات مفرطة ومبالغ فيها) في قلقنا واضطرابنا الوجودي؟ وهي تمثلنا بشكل أفضل من الشكل الذي يمثلنا به العقل الذي أصبح بخيلا في تعابيره، والذي لا يتكلم إلاّ بكلام المختصين. هكذا أفهم الأسطورة بعد نهاية الحرب الكونية الثانية، عندما كنت شاباً جاهلاً غير أن فضولي كان بلا حدود، مثل أغلب أبناء جيلي، انجذبت إلى الوجوديّة، والى تقليعاتها. وقد قرأت للمرة الأولى «أسطورة سيزيف» لألبير كامو من دون أن أفهم ما الذي كان يفتنني فيها. واليوم، بعد أن اكتسبت تجارب، وبها امتحنت، وبعد أن وسمت بالعمل السياسي المتمثل في دفع الصخرة إلى قمة الجبل، أصبح كامو قريبا جدا بالنسبة لي. وهو يمسّني بأسطورته، أسطورة الصخرة التي ندفع بها دائما وأبدا نحو القمة، غير أنها لا تريد أن تصعد ودائما ترتدّ إلى الوراء. وأنا أستحضر العبثية البطولية لسيزيف الذي يسخر من الآلهة، ويقبل بالصخرة. وهذه العبثية تزداد تأكدا يوما بعد آخر. إن الإنسان الذي يسعد بدفع الصخرة نحو القمة، هذه الصورة التي تلخص الأسطورة في بضع كلمات، تعبّر بشكل أكثر تعقيداً، أو أكثر حسيّة فوق ذلك عن كلّ ما يقوم به هذا الخليط الغريب العجيب من وسائل الإعلام، ومن الإنتاج الاجتماعي المفرط. ومن جديد لا تكفّ الجديّة القديمة، وتعقيدات الأسطورة المكثفة حدّ البساطة، عن أن تمسك بنا لتجمعنا مرة أخرى، وتتيح التعرف علينا نحن الذين أصبح يغرينا الذوبان والتلاشي في كمية هائلة ومروعة من الجزئيات الإحصائية. وبنفس الطريقة نحن نتعرف على أنفسنا في الحكاية، ونسمو بأنفسنا في الأساطير أينما عادت بنا الذاكرة الإنسانية إلى الوراء. ونحن نمنح ثلاث أمنيات. الخبز والنبيذ يعنيان أكثر مما يعنيه الشراب والأكل. ونحن نبحث عن «فونتين جوفنس» الذي يعدنا به الإعلان التلفزيوني. وكل جوليات يكون على يقين بأنه سيعثر على داوود. وكل واحد منّا هو: أن يصيد ذات يوم السمكة التي سوف تتحدث إلينا. كل هذه الأمثلة التي هي بمثابة طرق يمكن اتباعها، يمكن أن تفهم القراء أن عملي ككاتب، وعلى الأقل هو تحديدا، لا يمكن أن يتحقق من دون القوة الإبداعية لأسلوب الحكاية، وهي القوة التي تشكل الأسلوب. وهي تفتح رؤية في واقع آخر، أعني بذلك واقعاً يوسّع الوجود الإنساني. ذلك أني بهذه الطريقة أفهم الحكايات والأساطير. أفهمها كجزء، أو بالأحرى كخلفية مضاعفة لواقعنا. إن الأمل (ليس الطفولي فقط) في التحليق والطيران، وفي البقاء صغيراً، وفي أن نكون لامرئيين، بل وحتى في امتلاك القدرة على توليد الخير، أو على التسبب في الأذى من بعيد، من خلال قوة أمنية ما، أو من خلال صوت (مثلا أن نتمنى تهشيم بلور نافذة عندما نطلق أصواتنا بالغناء)، وأيضاً حتمية القضاء على الزمن، وأن نكون حاضرين في كل لحظة من الماضي والمستقبل. كل هذه التمنيات التي تبدو مغاليا فيها، ليست مع ذلك واقعية، أو خارج الواقع. إنها تحدّد واقعنا في أحلامنا في اليقظة وفي المنام، وأيضاً في لغتنا اليومية التي عادة ما تكون عفوية. من عقب أخيل إلى عقدة اوديب، ومن بلاد «كوكاني» إلى الجنة فوق ألأرض، ومن الثالوث حتى الشياطين السبعة، نحن نعثر مجدداً على أجوبة لعالم من الصور، ومن الدلالات، ومن المعاني التي علينا أن نتقبلها عوض أن ننكرها وننفر منها زاعمين أنها لاعقلانية. إن الأدب يتغذّى ويحيا من الأسطورة. وهو يبتكر أساطير، ويدمر أساطير أخرى. وفي كل مرة، هو يروي الحقيقة بطريقة أخرى. وذاكرته تمتلئ بكل ما علينا أن نتذكره، وربما ذات يوم نتمكن، وأتمنى أن يكون هذا اليوم غير بعيد، من أن نفكر من جديد بالصور والدلالات ذلك أننا نسمح لعقلنا بأن يعتقد في الحكاية، وبأن يلعب لعبة المهرّج مع الأرقام والمعاني، وأن يطلق الحرية للخيال، وأن يعترف بأننا إذا ما نحن بقينا أحياء، فإن ذلك يعود إلى قوة الأساطير حتى لو تمّ ذلك بمساعدة الأدب!
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©