الخميس 18 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الميناء.. وسادة البحر

الميناء.. وسادة البحر
22 ابريل 2015 21:56
لا يشبه الأمكنة، لكنه يختصرها جميعاً. يجمع الشخوص مرة ويفرقهم مرات، وأحياناً يكون الفراق إلى الأبد. بين أنفاسه شذرات من البحر وقطرات من لقاء الأرض مع السماء. مفتوح على فضاءات الكون ضمن صورة إطارها منفي عمداً. مرمي على مسارب الأزمنة حتى ظننا أنه لا يعترف بها أصلاً... هو الميناء، وسادة البحر، مرساه وملاذه، المحطة الأزلية للسفر بوجوهه الراحلة دوماً نحو مساحات مائية ساحرة ومرعبة، وبتلك القادمة إلى بر الأمان، محملةً بغموض بلاد تصلح لقصّ آلاف الروايات والحكايا. أما الإماراتي منه، الراسخ في شواطئ الخليج العربي، ففي سفنه روح البلد، ثقافتها، هويتها وأشياء كثيرة غيرها. بين الإماراتيين والميناء علاقة لا يمكن لأحد أن يفهمها أو يفك رموزها إلا هم أنفسهم. ليس لأنها معقدة أو «عويصة»، إنما لكونها حميمية إلى درجة التآلف الروحي والفكري. فكم من وجه صار مرسى بحد ذاته في حين تحولت بقية الوجوه إلى خرائط للرحلات، حفرت الأمواج بين طياتها وتجاعيدها، طرقاً للرحيل وأخرى للعودة. وعلى هذه الأبواب الافتراضية للبحر، وقفت أجيال، استنشقت هواء ثقافات البلاد البعيدة، وتنفست هوى الوطن المعجون برمال صفراء تفترش مشهداً طويلاً يقف وراء مشهدنا الحاضر بألوانه المختلطة، الأزرق، الأبيض، الأسود، وكثير من البني حيث الخشب المصطف بتشكيلات متعددة هي السفن. ومنه، ذهب «الاتحاد الثقافي» إلى قراءة خصوصية هذا المكان بعيون أهله من ذوي الكلمة. هي محاولة لتقصّي حضور الميناء في عوالمهم الإبداعية وحكاياهم المقتطعة من الذاكرة، وهي محطة أولى تليها محطات أخرى... أبحث عن.. مرسى علي أبو الريش هذه الحياة كثقب إبرة، ينسل منها العمر والمراسي بعيدة، كبحار شقي تقطعت أوصال أشرعته، المركب مخضوض بين شفتي موجة عارمة، أسأل الموجة عن مرسى، عن خطوة على الرمل، من دون بلل التعب، فلا شيء سوى العرق الهطول، وطائر القلب نورس حطت نجماته رحالها، على الجناح المهرول باتجاه مراحل ما بعد الفراغ، المراسي كلها مزدحمة بالضجيج، أصبو إلى مكان يأخذني تحت جنح عزلته، يأخذني إلى حيث يغرق المعري في صمته، ومحبس اللغة الغارقة في كثيب الاحتمالات، والصحوة المؤجلة، أحلم بشفة بوذية ترتل آيات التأمل، لترسو الروح عند ميناء أشبه بالمقبرة، لا صوت فيها إلا أنين الموتى وحنين الطير إلى قدرة فائقة، تعيد الغافين تحت الرمل إلى موانئ الأحلام البعيدة. مرسى، يضع قدمه عند شفة الموجة، ويطلق للروح أشرعة البداهة من دون وعي مزيف، من دون فلسفة مدعاة، من دون قداسة بمخمل الدين، وكتان السيف المضمخ بدماء الأبرياء. مرسى، يسرد للآثمين من بعدي، قصة القميص الذي مزقته كذبة امرأة، وقدسية الجسد، مرسى يجيء بي إلى حيث يتشاجر عصفوران على حبة قمح، بينما تغط الأرض على سفوح ثرية بالادعاء، غنية بالنفاق. مرسى والأشياء، محاطة بمضائق العبارات المحكمة، والجملة المفيدة تحصد لهاث المراهقين والذين لم يبلغوا سن الحلم، مرسى جديد غير كل المراسي، والأشرعة أجنحة طير، يخفق ويتدفق ويصفق للحياة، للفرح، ولا يعتني كثيراً بما تبديه، عوادم النفوس، ونفايات التخلف.. مرسى، مثل نقطة البدء عند رابعة العدوية، وهي تلهج قائلة: «من كثر حبي لله، لم يبق في قلبي مكاناً لكره الشيطان».. مرسى، مثل نفرة جان جاك روسو، قائلاً: «الأفكار المسبقة مفسدة للعقل». مرسى، يحدق في وجهي بانشراح، كما فعل ذلك الكاهن العظيم، عندما ملأ كأس الشاي حتى فاض فصاح مريده.. لقد فاض الكأس.. فاض الكأس.. فأجاب مبتسماً، إنني لا أملأ الجزء الملآن.. بل أملأ الجزء الفاضي.. ثم استطرد قائلاً: «إذا كان العقل مستبداً، فالصحوة مستحيلة». مرسى، يعيدني إلى ضفة أشجارها قصائد تنثر الوجد طفولياً، وأعشابها سرد يطلق (الجملة)، كما هو الطير عندما يعتق من يد سجانه.. مرسى، يأخذني إلى بدايات الأبجدية، لتنحصر المعاني من جديد ويزهر بستان القلب، بعبارة نسي بوحها ابن الفارض في ساعة هذيانه الجميل.. مرسى، يملأني، بانثيالات موجة، خبأت الزعانف في معطف ابن عربي قبل أن يفترسه ظلم الأقربين.. مرسى يمضي بسفن الحياة إلى أسئلة، سقوفها عالية، واحتمالات اصطدامها بغيمة معتمة، ضئيلة ضآلة المدعين عندما ينافسون الشمس في سطوعها.. مرسى، يتقصى حبات العرق، ويحصي أنفاس اللاهثين عندما لا يبدو في الأفق حلم، مثل أحلام النخلة الغافية عند فيض الماء.. مرسى، لا تغرق فيه السفن ولا تطفو الموجة، ولا ينز الرمل بالحثالة ونخالة الموائد. نافذة الماء حارب الظاهري الموانئ نافذة المدن المائية المطلة على القلب بصفاء مائها وسحر نقاءها.. لها قراءة أولى لذاكرة المدى وفضاء التأمل.. لها مسافة للتجلي والهدوء.. نوافذ تغزل الحروف المتشظية ما بين الإبداع والخيال.. نوافذ تشبه رؤية الحياة المتجسدة بعين تتسع لروح الكتابة المتوازية مع الصدى المتردد في شواطئ النفس.. نوافذ مائية متموجة بالذكريات وبحنين شواطئ الزمن المسترخية تلك التي تقابل مواعيد توأمها - الشروق.. حديثها استيقاظ الفكرة من ثباتها.. ولادتها متحررة من خوفها.. لها جمالية وصولجان من زهو يباري تيارات خفية على مداها يتشكل الإبداع. على نوافذ البحر تبدأ الصورة يجاريها صفاء الماء مثل حكاية التأمل والكتابة أو مثل صفاء الوجد.. تلامسها سحرية رذاذه.. حبره يبلل بدء جمالية الطبيعة ومكونها بل نسيجها العبقري الذي يشير إلى التجلي إلى جانب نبع الفكر المتدفق.. موانئ الماء كثيراً ما ترمز لنسيج الفضاء أمام الحلم حين يتسع نحو معجزة الماء في جغرافيا المدى، فالكون مطليا بذاكرة عنوانها فلسفة الرؤى وجمالية الأمكنة المائية لذا كل شيء يظهر مداه أمام الماء.. موانئ تستحق أن تروي الحياة في انتمائها لكل الأطياف الحياتية.. تروي نوافذ المدن لتحيلها إلى سلام يزهر حكايات ومناسبات ويزهر مفردات قادمة من المطلق.. من زرقة الكائن الخفي الذي يشبه السراب.. فالموانئ تراود المدن الجميلة لتخضعها لفيض من التسامح والسمو.. وحدها مدن الموانئ مائية في انتمائها الحرّ.. في عمقها رسالة ممزوجة برائحة منفردة النماء.. بعطر الحياة. موانئ للإقامة إيمان محمد سمعتُ صوت باخرة من ناحية الميناء، أطلقت ثلاث صفارات متتالية.. فكرت ربما هي الباخرة الأولى التي تدخل الميناء منذ انتقالي للسكن هنا قرب الميناء قبل ثلاث سنوات، اندفعتُ إلى الشرفة ولكن لم استطع تبين ملامح أي سفينة أو باخرة أو حتى مركب صغير في الميناء الذي لاح من بعيد بأرصفته المضاءة ومياهه الغارقة في الظلمة. كنت أظن أن السكن قرب الميناء سيكون مختلفًا، حيويًا وصاخبًا مثل موانئ قديمة عرفتها، وتمنيت أن اسكن قربها، لكن هذا الميناء الحديث مسور وبواباته مُؤمَّنة، ولا يمكن الدخول إليه من دون تصريح، كنت اكتفي أحيانا بتأمل السقالات الكبيرة على طرفه، والواقفة مثل زرافات ضخمة تنقل بهدوء مكعبات من البضائع التي تبدو مثل قطع الليجو الملونة.. ميناء هادئ ومعزول ومنظم، كل شيء فيه مصفوف بترتيب.. مئات السيارات المشحونة والمحضرة للبيع في السوق المحلي، حاويات ملونة لا أعرف ما بداخلها.. كلها مرتبة بدقة، ميناء لا يشبه أياً من الموانئ التي كانت تجلب الحياة إلى المدينة.. ثمة موانئ تعيش في الروح، تتوسدها مثل حكاية .. في الذاكرة ميناء عجمان المهجور والبعيد في الطفولة، والذي تحول إلى موقع مفضل لصيادي السمك، وبعض العشاق الجريئين، والطلبة الهاربين من مدارسهم، ومرصد لبداية العام حيث تنطلق الألعاب النارية وتضج المدينة بصافرات البواخر في استقبال العام الجديد.. ومكاني المفضل لأتأمل تحولات المدينة، والغياب الذي أصبحتُ أُمعن فيه.. ميناء خالد في الشارقة، عندما كانت القوارب الخشبية تصطف قبالة السوق القديم، وبضائعها على الرصيف، سمك، فحم، بهارات، بلاستيك، أواني مطبخ، ديزل، براميل التمر المكدوس، الليمون المجفف، الأقمشة، الخشب الأفريقي الأسمر، مواشي.. وبشر! ...لغات مختلطة، عرق، وحمالون شكل البحر بقسوته ملامحهم، وأحنت اليابسة كواهلهم، هؤلاء هم المكدودون الذين يجلبون لنا الحياة في مشهد لا يهدأ، مشهد لا يضاهيه في البهاء والتناقض إلا ميناء دبي على الخور، حيث كنت أتسلل إليه فجراً في بعض الأحيان، لأرقب الحياة تنبعث في شرايين المدينة من هنا.. العمال بملامحهم الجادة يندفعون إلى الأرصفة وينتقلون بخفة بين السفن واليابسة، أصحاب المراكب الأكثر جدية يشرفون على الحمولات، التجار أو مندوبوهم يتفقدون البضائع، موظفو الجمارك في تفتيشهم المحموم على الممنوعات، قابضو الرسوم، سندات القبض الممهورة بالأختام والتواقيع، بائعات السمك، والهنود الجوالون يبيعون الفول السوداني المحمص.. وسواعد قوية تحمل وتنزل.. سواعد لم تعد قوية في الميناء القريب من المنزل، ميناء تعمل فيه الآلات بدل أصحاب البنية القوية، آلات يحركها عمال هزيلون، ولا تسمع فيه صفارات البواخر!. باب الحلم فاطمة حمد المزروعي الميناء… هو بدايات القصص أو منتهاها، هو قصيدة غير مكتملة، وقصة لا يراد لها أن تنتهي. هو مكان للمتضادات: للقاء وللفراق، للفرح والحزن. مكان يعجّ بالحياة، وأنفاسها وروائحها. وهذا طبيعي باعتبار الميناء مكانا للرحيل أو الوصول، لكن ما يخفيه الإنسان من مشاعر يقهرها، أو يكتمها، أو ما يبديه من فرح وجزع، يجعله مكانا ملتبسا بأحداث حقيقية أو متخيلة تولد داخل الإنسان لآلاف المرات، لجمل تمنى لو أنه قالها، أو أفعال ودّ لو أنه عملها، فلربما تغيرت بعدها حياته إلى الأفضل. الميناء هو قلب المدينة الاقتصادي، وإيقاعها السريع من خلال حركة تصدير البضائع واستيرادها، تبادل للبضائع وانتقال للبشر والأفكار. وهو أحد طرق الانفتاح على الآخر المختلف، وتقبله دون شروط كثيرة أو تساؤل، فأهل الميناء أكثر مرونة وتسامحا، وتقبلا للتغيير من غيرهم، بحكم اختلاطهم بعدد كبير من البشر، مختلفين في لغاتهم وجنسياتهم وأفكارهم، ومن ثم اطلاعهم على كل جديد بصورة مستمرة. الميناء بما فيه من حركة سريعة قد يولد أسئلة كثيرة تطرح، دون أن يكلف أحد نفسه عناء الإجابة عنها، وربما من الحكمة أن تطرح الأسئلة الذكية المدهشة، فوحدها قد تدل على الطريق أو الحلّ، لأن من ينتظرون لها إجابة هم قلّة. الميناء مدينة داخل المدينة، لكنها مدينة لا تنام، بفعل الحركة المتواصلة ليل نهار، ومواعيد الناس ومواقيتهم مرتبطة به، فهو الحياة المتغيرة السريعة حين تتمثل في مكان، ويصبح لها عنوان. لا يمكن أن أتخيل الميناء دون صافرة الرحيل، كأنها عويل طويل، أو زغرودة فرح تبشر بالقادمين. وتكتمل الصورة عندي بالأيادي المودعة أو المشيرة للقادمين. لطالما تخيلت البحارة مغامرين، سريعي الغضب وحازمين في اتخاذ القرار، لكنهم حكّاءون من طراز فريد، في جعبتهم حكايا كثيرة، فيها الحكمة والفطنة. في الإمارات ارتبط الميناء عندي بحوادث لم أعشها، لكنها مرسومة من صور وأغانٍ قديمة، لصور البحارة الذين يبحثون عن اللؤلؤ، وبليالهم الطويلة وبصوت النهام، وشوقهم للأحباب. وبالنساء المعلقة أعينهن بالشاطئ خوفا من المجهول، وشوقا للغائبين، وبالشعراء مثل السياب ومحمد الفايز. وقد تذهب مخليتي إلى أبعد من ذلك، إلى عصر ما قبل ظهور الإسلام، لأتذكر بعض الموانئ القديمة في الخليج العربي، ومنها ميناء دبا، الذي كان يأتيه التجار من الصين والسند، وميناء جلفار الذي كانوا يسافرون منه إلى فارس وغيرها. وميناء دارين، في البحرين الذي عُرف بتبادل البضائع، وأشهرها المسك المجلوب من الهند. وهو ميناء يكاد يكون شعريا أكثر من كونه ميناء حقيقيا، لكثرة وروده في الشعر، حيث ذكره الشعراء في وصفهم للؤلؤ، غير أنه ارتبط عندي بالحلم الذي يهفو إليه الإنسان، ليبقى حلما عصيا على النسيان. مثل وصف الأعشى لغواص دارين الذي يبحث عن لؤلؤته: كأنها دُرة زهراء أخرجها غواص دارين يخشى دونها الغرقا قد رامها حججا مذ طر شاربه حتى تسعسع يرجوها وقد خفقا لا النفس تؤيسه منها فيتركها وقد رأى الرغب رأي العين فاحترقا ومارد من غواة الجن يحرسها ذو نيقة مستعد دونها ترقا تلك هي اللؤلؤة الحلم، وفي داخل كل واحد منا حلم، فأين الميناء؟! استراحة المحارب وفاء أحمد الموانئ هي البداية نحو رحلة العودة أو اللاعودة. وبين الضفة والأخرى تبحر أحلامنا... مشاعرنا... وأرواحنا... أحيانا ندرك مسبقا ما خلف هذه الصفة أو تلك.. وأحيانا أخرى تأخذنا المغامرة نحو المجهول.. الميناء بالنسبة لي.. استراحة محارب لأخذ نفس والتحليق بسفينة أحلامي نحو ما رسمت من مستقبل... تحوم حولي النوارس بشموخها لتذكرني باللاعودة وتنبهني بعزتها إذا ضعفت عزتي.. مهما اختلفت الأزمنة يبقى الميناء بأسلوبه القديم أو الحداثي والعصري هو المرسى حين تعجز المدن عن احتضان أحلامنا. فأينما تكون المياه يخفق قلب الشاعر والأديب... نستثمر الأدب ونشيد تجارة الحب والسلام... جواز سفر في الموانئ قصيدة حب تطفو على سفن الصمت... وخطوات نحو الحلم نجمع شغفنا بقضايانا الإنسانية ونرميها في حضن الميناء.. هو البوابة العملاقة لمن يريد الهروب من الدمار اليومي الذي تخلفه المدينة في ذواتنا... هو التاريخ لمن أراد أن يخط تاريخه بنضال البحار لمن يبحث عم أمل خلف الضفاف فبين الضفة والأخرى نوزع قطعا من أرواحنا بحجم الكون بحجم الأمل. «أن تبقى بالضفة وتنتظر الأسوأ أفضل أو تنتقل إلى الجهة الأخرى هل نؤمن بالفرص الثانية بالحياة الجديدة خلف الموانئ أم أن العمر واحد ويجب أن نعلق في زمانه ومكانه وحدوده رغم تعاستنا...» وإن عبثت الريح صالح كرامة العامري في ثنايا المرسى أنا.. المرسى الذي تُقيَّد فيه السفن.. تلتف حول رقابها حباله.. فيما الريح تتلاعب بها.. ثابت هو المرسى، فيما كل ما حوله يسافر؟ لماذا تم استحداث المرسى لكي يظل في المكان نفسه، فيما السفن الطائرة التي تنتقل عبر كل الفضاءات هي التي تعبر المحيط بثقلها الموجود.. أنا لست من اللذين يراقبون البحر من أعلى.. لست أطلّ عليه من بعيد.. أنا أخوض البحر دوماً.. أنا بحار أقود المحيط من روحه، أسحبه من طرفه الأبعد، لكي يأتي إليَّ، وإلى المكان نفسه. وإن كانت الريح هي التي تحمل كل ما يدور في مكانه.. وإن عبثت بالسفينة ريح الغياب والغيبوبة.. تظل السفنية أهم وأكثر بهاء بوجودها بعيداً عن المرسى. في كثير من الاحيان يصبح المرسى قيداً لتُراقِصَ السفن مكانها.. المكان الذي يصرّ، بكثير من المبالغة، على أن السفن هي التي تأتي إليه.. في ادعائه هذا، يصبح المرسى محاولة لترتيب السفر.. طريقة ما، لحظة ما، شيئاً من ترتيب مسبق للعودة.. أعني عودة السفن.. في العودة المرتبة مسبقاً تصبح السفن هي مقصد الهواء.. الهواء مقياس يرتب عودة السفن.. السفن ترسو من تلقاء نفسها في حضن الميناء.. تدخل القيد بقدميها عن سابق «تعب وخوف».. تعباً من الحنين ربما، وخوفاً من تقلبات روح الطبيعة التي لا تقف على حال.. تزمجر الطبيعة فتخاف السفن، تتلوى يمنة ويسرة، تنقلب حالها، يرتجف قلبها هلعاً، فتسرع إلى ملاذها/ ميناءها. المرسى في نصي المسرحي: «عيناها» كان الملاذ الذي يلوذ إلية ممثليَّ بعد الضياع عندما تصرخ البطلة: ـ شوك : هيا بنا نذهب إلى الميناء نستقل سفينة يقودها بحار تائه وأعمى . وفي نصي المسرحي: «مزيد من الكلام» يشم المتفرج/ القارئ عبق البحر، بكل أنوائه المدوّخة.. بضجيجه، بتقلباته، بسحنات المسافرين وصراخهم.. فيه تذكير بكثرة سفن المسافرين... بكثرة ما يدفع المرء للسفر أيضاً... الموانئ في رأسي، هناك ... تهدر بكل شوقها وتوقها.. ومنارتها الواقفة في الليل مثل علامة سؤال حائرة... الميناء، بقول مختصر جداً، الحياة إن كانت كما هي...
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©