الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

وصف الشعر

وصف الشعر
18 سبتمبر 2008 00:28
أعيد صحبة درويش ''أثر الفراشة'' أرى فيه لعبة بالغة الذكاء والاتقان للتمييز الإبداعي بين الشعر والنثر، يضم سطورًا محسوبة من كليهما، لكنه يشتمل أيضًا على قطع عجيبة تكشف أسرار هذه العلاقة الملتبسة لدى كثير من شباب اليوم، في قطعة منها كتب بعنوان ''خيالي·· كلب صيد وفيّ'' يقول: ''على الطريق إلى لا هدف، يبلّلني رزاذ ناعم، سقطت عليّ من الغيم تفاحة لا تشبه تفاحة نيوتن، مددت لألتقطها فلم تجدها يدي ولم ترها عيناي، حدّقت إلى الغيوم فرأيت نتفًا من القطن تسوقها الريح شمالاً، بعيدًا عن خزانات الماء الرابضة على سطوح البنايات· وتدفن الضوء الصافي على إسفلت يتسع ويضحك من قلة المشاة والسيارات، ربما من خطواتي الزائغة· تساءلت: أين التفاحة التي سقطت عليّ، لعلّ خيالي الذي استقلّ عني هو الذي اختطفها وهرب· قلت: أتبعه إلى البيت الذي نسكنه معًا في غرفتين متجاورتين، هناك وجدت على الطاولة ورقة كتب عليها بحبر أخضر سطر واحد: ''تفاحة سقطت عليّ من الغيوم'' فعلمت أن خيالي كلب صيد وفيّ''· الوصف في حقيقته لابد أن يكون عملاً نثريًا يتبع المنطق ويحكي قصة الأشياء مازجًا بين الأفعال والألوان والكلمات، أما الشعر فهو صيد الخيال الثمين، يقتنصه ويمسك به ليضعه بصمت أمامك نابضًا بالحياة المتعيّنة· في السطور الأولى يقول درويش نثرًا ''سقطت علي من الغيم تفاحة'' ثم يأخذ في تحديدها بالسلب اعتمادًا على المعلومات المدرسية، فهي لا تشبه تفاحة نيوتن، ويحكي كيف مدّ يده فلم يجدها ولم يرها بحواسه المباشرة، يسوق حينئذ بعض ما رآه بمنظوره المعتاد، خزانات المياه على سطوح البنايات، تدفّق الضوء على الأسفلت، يلاعب هذه الشوارع مجازيًّا فيجعلها تضحك وتتسع، لكنه لا يقوم بتشعيرها تمامًا، ثم يعود ليتساءل بشكل معقول عن مصير التفاحة التي سقطت عليه، عندئذ يبتكر حكاية طريفة عن دنيا الشعراء وتصوراتهم الشارحة لرؤيتهم، يرجع إلى البيت ليجد خياله قد سبقه وسجل شعرًا ما رآه، سجله بحبر أخضر مختلف، بكلمات أعيد ترتيبها في نسق تركيبي وموسيقى مغاير ''تفاحة سقطت عليّ من الغيوم''· تأمل كيف تحولت العبارة الأولى حتى صارت شعرًا، تقدمت التفاحة لتحتل مكان الصدارة ولتظفر بإمكانات التأويل اللامتناهية، فإذا كانت تفاحة نيوتن هي التي ألهمته قانون الجاذبية، فإن تفاحة درويش هي التي تلهمه قانون الشعرية، تأخر الفعل ليستقيم الوزن وتخف الحركة، ثم صار الغيم غيومًا ليكتمل الحضور، وانتفى كل ماعدا ذلك من حكايات الشوارع والطرق والأسفلت ومطاردة الخيال، تكثفت العبارة وسقيت بماء الموسيقى، الذي يضاهي في ثقله الماء الذري، لتفجر الطاقة الكامنة في اللغة، ثم أحيطت العبارة بسياج من الصمت لتحتمي من الثرثرة والأعشاب الضارة والتفاصيل الزائدة، أصبحت قطعة فنية في إطار من الصمت الجليل الذي يحيط بها ولا ينتهك حرمة محيطها الدلالي، هل يقدم لنا درويش في هذه القطعة نموذجًا مجسدًا لكيفية اقتناصه لصيد الشعر وكيفية إلغائه لحقول النثر المحيطة به حتى يستوفي وجوده الفني الأخلاقي؟
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©