الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

العَجَبُ

العَجَبُ
17 سبتمبر 2008 01:00
نام المنصور ليلة -وكان في قصره في بغداد- فانتبه مرعوباً، ثم عاوده النوم فانتبه كذلك فزعاً مرعوباً، ثم راجع النوم فانتبه كذلك، ثم قال: يا ربيع! فقلت: لبيك يا أمير المؤمنين! قال: لقد رأيت في منامي عجباً، قلت: ما رأيت، جعلني الله فداك! قال: رأيت كأن آتياً أتاني، فهينم بشيء لم أفهمه؛ فانتبهت فزعاً، ثم عاودت النوم فعاودني يقول ذلك الشيء، ثم عاودني يقوله حتى فهمته وحفظته وهو: كأن بهذا القصر قد باد أهله وعري منه أهله ومنازله وصار رئيس القوم من بعد بهجة إلى جدث تبنى عليه جنادله· وما أحسبني يا ربيع إلا حانت وفاتي، وحضر أجلي، ومالي غير ربي! قم فاجعل لي غسلاً· ففعلت فاغتسل وصلى ركعتين، وقال: أنا عازم على الحج، فهيء لي آلة الحج، فخرج وخرجنا، حتى إذا انتهى إلى الكوفة، ونزل النجف أقام أياماً، ثم أمر بالرحيل، فتقدمت جنوده، وبقيت أنا وهو في القصر، فقال لي: يا ربيع، جئني بفحمة من المطبخ، وقال لي: اخرج فكن مع دابتي إلى أن أخرج، فلما خرج وركب رجعت إلى المكان كي أطلب شيئاً، وجدته قد كتب على الحائط بالفحمة: المرء يهوى أن يعيـش وطول عيش قد يضره تفنى بشاشته ويبـــقى بعد حلو العيش مره وتخونه الأيام حتى ما يرى شيئاً يسره كم شامت بي إن هلكــت وقائل: لله دره! الشاعر قال علي بن إبراهيم: كنت بداري جالساً، فإذا حجارة سقطت بالقرب مني، فبادرت هارباً، وأمرت الغلام بالصعود إلى السطح، والنظر إلى كل ناحية، من أين تأتينا الحجارة؟ فرجع إليّ وقال لي: امرأة من دار ابن الرومي الشاعر، قد تشوفت، وقالت: اتقوا الله فينا، واسقونا جزءا من ماء، وإلا هلكنا، فقد مات مَن عندنا عطشاً· فتقدمت إلى امرأة عندنا ذات عقل ومعرفة: ان تصعد إليها وتخاطبها، ففعلت وبادرت بالجرة، واتبعتها شيئاً من الطعام، ثم عادت إليّ فقالت: ذكرت المرأة أن الباب عليها مقفل منذ ثلاثة أيام بسبب تطير ابن الرومي، وذلك أنه يلبس ثيابه كل يوم ويتعوذ، ثم يصير إلى الباب والمفتاح معه، فيضع عينه على ثقب في خشب الباب، فتقع على جار له كان نزالاً بإزائه، وكان أحدب يقعد كل يوم على بابه، فإذا نظر إليه رجع، وخلع ثيابه، وقال: لا يفتح أحد الباب· فعجبت لحديثها، وبعثت بخادم لي كان يعرفه، فأمرته أن يجلس بازائه، وكانت العين تميل إليه -وتقدمت إلى بعض أعواني أن يدعو الجار الأحدب، فلما حضر عندي أرسلت وراء غلامي، لينهض إلى ابن الرومي، ويستدعيه، فإني لجالس، ومعي الأحدب، إذ وافى أبوحذيفة الطرسوسي، ومعه برذعة الموسوس، صاحب المعتضد، ودخل ابن الرومي، فلما تخطى عتبة باب الصحن عثر، فانقطع شسع نعله، فدخل مذعوراً، وكان إذا فاجأه الناظر رأى منه منظراً يدل على تغير حاله· فدخل، وهو لا يرى جاره المتطير منه، فقلت له: يا أبا الحسن، أيكون شيء في خروجك أحسن من مخاطبتك للخادم، ونظرك إلى وجهه الجميل؟ فقال: قد لحقني ما رأيت من العثرة؛ لأني فكرت أن به عاهة، وهي قطع أنثييه· قال برذعة: وشيخنا يتطير؟ قلت: نعم ويفرط، قال: ومَن هو؟ قلت: علي بن العباس، قال: الشاعر؟ قلت: نعم فأقبل عليه وأنشده: ولما رأيت الدهر يؤذن صرفــه بتفريق ما بيني وبين الحبائب رجعت إلى نفسي فوطئتها علـى ركوب جميل الصبر عند التوائب ومن صحب الدنيا على جور حكمها فأيامه محفوفة بالمصائب ودع عنك ذكر الفأل والزجر واطرح تطير جار أو تفاؤل صاحب فبقي ابن الرومي باهتاً ينظر إليه، ولم أدر أنه قد شغل قلبه يحفظ ما أنشده، ثم نهض أبوحذيفة ويرذعته معه· فحلف ابن الرومي لا يتطير أبداً من هذا ولا من غيره، وعجب من جودة الشعر ومعناه، وحسن مأتاه، فقلت له: ليتنا كتبناه، قال: اكتبه فقد حفظته وأملاه عليّ·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©