الثلاثاء 16 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

أوروبا وعِبر ميونيخ

أوروبا وعِبر ميونيخ
16 سبتمبر 2008 02:14
قبل سبعين عاما في ''ميونيخ''، وفي 30 سبتمبر 1938 وقع رئيس الوزراء البريطاني ''نيفيل تشامبرلين'' وثيقة تسمح لألمانيا بالسيطرة على ''سوديتنلاند''، وهي منطقة غرب تشيكوسلوفاكيا تقطنها أغلبية ألمانية العرق؛ اعتُبر هذا العمل خيانة كبيرة لتشيكوسلوفاكيا، التي وصفها ''تشامبرلين'' بـ''البلد البعيد''؛ والواقع أن اعتقاد رئيس الوزراء بأن بريطانيا ليست مستعدة بعد للذهاب إلى الحرب مع ألمانيا النازية، وأن الدبلوماسية والتوافق خيارا أمن، كان يقتسمها في الواقع الكثير من الأوروبيين، الذين عرفوا انطلاقا من تجاربهم الشخصية الأخيرة العواقب الفظيعة للحرب؛ غير أنه نظرا للأحداث التي أعقبت ذلك، فإن التاريخ يتذكر ''تشامبرلين'' كسياسي جبان، كما أن ''تهدئته'' مع ''أدولف هيتلر'' تُحمل في كثير من الأحيان مسؤولية الحملة التي أطلقها النازيون بعد ذلك لغزو بقية أوروبا· وبالنظر إلى السبعين عاما الماضية يمكن القول إن ''تشامبرلين'' كان مخطئا على الأرجح حين وقع الوثيقة، لأن بريطانيا وفرنسا كان يمكنهما أن يوقفا ألمانيا؛ فقد كانت ''ميونيخ'' 1938 واحدة من المناسبات النادرة في تاريخ الديمقراطيات التي كانت فيها الدبلوماسيةُ الحذرة خطأ؛ حيث اتضح لاحقا أن ما كان يلزم حينها هو بطل يرغب في المجازفة بمصير بلده عبر مواصلة الحرب ''مهما كان الثمن''، مثلما قال ''وينستون تشرشل'' لاحقا حين أصبح رئيسا للوزراء· قال لنا الفيلسوف ''جورج سانتايانا'': ''أولئك الذين لا يستطيعون التعلم من التاريخ مكتوب عليهم أن يكرروه''؛ غير أن التاريخ يعلمنا دروسا كثيرة، بعضها ينطوي على التناقض، ثم إنه لا يكرِّر أبدا بنفس الطريقة؛ فما الذي تعلمه العالم بالضبط من ''ميونيخ'' ،1938 وهل ما تعلمه هو الدرس الصحيح؟ خلص الأوروبيون الغربيون بعد الحرب العالمية الثانية إلى خلاصات كانت أقرب من طريقة تفكير ''تشامبرلين'' في 1938 منها من طريقة تفكير ''تشرشل''؛ فبعد حربين كارثيتين، قرر الأوروبيون إنشاء مؤسسات تجعل النزاع العسكري مستبعدا؛ ومنذ ذلك الحين أصبحت الدبلوماسية والتوافق والسيادة المشتركة هي القاعدة، بينما أصبحت الوطنية الرومانسية المبنية على القوة العسكرية شيئا من الماضي؛ ومن رماد وأنقاض الحرب صعدت أوروبا جديدة، مثلما كان الحال بالنسبة ليابان جديد -اعتمد دستورا مسالما كتبه أميركيون، ولكنــه حظي بقبول معظم اليابانيين-؛ وتوارت الوطنية -ما عدا في ملاعب كرة القدم- بعد أن تم إيجاد حل أكثر تحضرا وأكثر دبلوماسية وأكثر سلمية للنزاع الإنساني· بالطبع، تم الحفاظ على السلام فقط، لأنه كان مضمونا من قبل دولة -الولايات المتحدة- كانت ما تزال ملتزمة بمفهومي الأمن الوطني والدولي لمرحلة ما قبل الحرب العالمية الثانية؛ ولكن الأوروبيين، أو الكثير منهم على الأقل، تجاهلوا ذلك على نحو يخدم مصلحتهم؛ في هذه الأثناء، كان لـ''ميونيخ'' صدى مختلف جديد في الولايات المتحدة حيث غذت ''ميونيخ'' توهمات تشرشلية لدى رجال يتطلعون إلى أن يحفظ التاريخ أسماءهم باعتبارهم الأبطال الذين دافعوا عن الحرية في مواجهة الطغيان؛ وتمت الإشارة إلى ''ميونيخ'' مرات ومرات لتفسير لماذا كان علينا أن نوقف الشيوعية، وأن نوقف صدام حسين، ولماذا علينا أن نوقف إيران و''الإرهاب''· غير أن هذه الأبعاد المختلفة تسببت في توترات غريبة بين الولايات المتحدة وحلفائها الديمقراطيين؛ إذ كثيرا ما يشتكي الأوروبيون واليابانيون من الطريقة التي تختار الولايات المتحدة أن تستعمل بها قوتها، في الوقت نفسه الذي يعتمدون فيه على القوة العسكرية الأميركية من أجل أمنهم؛ كمراهقين دائمين، يريد الأوروبيون واليابانيون أمن الأب الأميركي العظيم، ولكنهم يستاؤون منه في الوقت نفسه· مما لا شك فيه أن الولايات المتحدة، وعلى غرار كل القوى العظمى، خاضت حروبا مجنونة وتصرفت بعربدة، وبخاصة تجاه دول تقع في منطقتها؛ ولكن حتى بدون الإشارة إلى ذكريات ''ميونيخ''، فمن الواضح أن ثمة مناسبات حيث القوة العسكرية هي الطريقة الوحيدة للتعاطي مع حاكم مستبد؛ فقد كان الأوروبيون غير راغبين في الوقوف في وجه مرتكبي الإبادة الجماعية الصرب؛ وكان على الأميركيين -مع بعض التردد في البداية- أن يقوموا بالعمل القذر؛ وعندما قررت الولايات المتحدة إخراج القتلة الذين بعثهم صدام حسين من الكويت، صاح المحتجون الألمان بأنهم لن ''يريقوا (أبدا) الدم من أجل النفط''· وبالمقابل، هناك أيضا شك في أن الدبلوماسية الأوروبية حققـــت بعض النجاحــات اللافتة؛ فقد قوى أفق الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي ديمقراطيات وسط وشرق أوروبا، وتركيا أيضا؛ وانضم بعض هذه الديمقراطيــات إلى الناتو، في حين مازالت أخرى تنشد ذلك بقوة· غير أن الناتو، وخلافـــا للاتحاد الأوروبي، منظمة عسكرية؛ وهنا تحديدا تكمن مشكلة ''تشامبرلين'' القديمة، هل الأوروبيون مستعدون لخوض حروب نيابة عن زملائهم الأعضاء؟ ولئن كان الأوروبيون قد اعتمدوا إبان الحرب الباردة على الناتو و''عهد القوة الأميركية'' من أجل حمايتهم في حالة اعتداء سوفييتي، فإن جورجيا وأوكرانيا ترغبان اليوم في الانضمام إلى هذه المنظمة، متوقعتين أن الأوروبيين والأميركيين سيريقون دماء للدفاع عنهما ضد روسيا؛ ولكن الاختيار بسيط، إذا كان الأوروبيون مستعدين للقتال من أجل جورجيا أو أوكرانيا، فيجب أن ينضم هذان البلدان إلى الناتو، أما إذا لم يكونوا مستعدين، فينبغي ألا ينضما؛ ولكن بدلا من القيام بهذا الاختيار، تحمست البلدان الأوروبية الكبرى، مثل ألمانيا، فلوحت في البداية بعضوية الناتو كجزرة، ولكنها بعد التفكير مرة ثانية قامت بسحب العرض، لتترك الأميركيين ينخرطون في خطاب بطولي· كل ما تقدم ذكره يجعل التحالف الغربي يبدو غير منسجم، وذلك رغم الثروة الكبيرة إضافة إلى القوة العسكرية الأميركية، العاجزة على نحو غريب؛ ولكن حان الأوان كي تتخذ الديمقراطيات الأوروبية قرارها؛ فهي تستطيع أن تبقى معتمدة على الحماية التي توفرها الولايات المتحدة والكف عن التشكي، أو تستطيع تطوير القدرة لحماية أوروبا بنفسها؛ الخيار الأول قد لا يكون عمليا لوقت طويل، على اعتبار أننا بتنا في خريف عصر القوة الأميركية، في حين أن الثاني سيكون مكلفا وخطرا· وبالنظر إلى الانقسامات الكثيرة داخل الاتحاد الأوروبي، سيكتفي الأوروبيون ربما بالمضي، كيفما اتفق إلى أن ترغمهم إحدى الأزمات الخطيرة على التحرك، ولكن الوقت قد يكون قد فات حينها· آيان بوروما أستاذ حقوق الإنسان في جامعة بارد كوليدج ينشر بترتيب خاص مع خدمة لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©