الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

«السِّنْيار».. قوافل الماء

«السِّنْيار».. قوافل الماء
17 أغسطس 2016 20:31
إعداد وتنسيق - محمد عبد السميع «السِّنْيارُ» مصطلح إماراتي تراثي يستخدم عند خروج سفن الغوص المتتابعة في البحر، أو عند خروج مجموعة من الناس أو القوافل في رحلة في البر. وقد اكتشف الإماراتيون قيمة الترحل والتنقل بوصفه قوة ذاتية تحميهم من الخضوع والاستسلام للظروف البيئية الصعبة، فكلما ترحلوا وتنقلوا زادت مصادر الرزق وحافظوا على وجودهم. ويعتبر مصطلح السنيار شعاراً ثقافياً لما يحمله من قيم سلوكية تمثل حال الثقافة في البيئات الإماراتية، ويجسد مظاهر الحياة اليومية للإنسان الإماراتي، حيث أدرك أبناء الإمارات هذه الخاصية الثقافية للترحال، وهو وظيفة جمالية إبداعية، تمتد من عبور البحر والبر، كبحث واكتشاف للمناطق، إلى تنقل رومانسي يثري الخيال والإبداع، وكل هذا يسير مع ضرورات المعاش، وبحثاً عن سبل حياة أفضل.. في هذا الملف يسعى «الاتحاد الثقافي» لقراءة اللفظة في حضورها الماضي والحاضر، وأثرها، ودلالاتها المختلفة في الذاكرة الإماراتية. تظلّ أنفاس ابن الإمارات تستشرف الآفاق، وتصنع عوالم لا تنتهي، وفضاءاتٍ لا يحدّها حد، وإذا كان «السنيار» اليوم محلّ استذكارٍ لتلك الأنفاس الحارّة التي ظلّت حتى عهدٍ قريبٍ تخلق عوالمها الخاصّة بها، مع أنها ظلّت تقف أمامها الظروف الصعبة وعاتيات الدهر، وقفة العاجز أمام ذلك التصميم وتلك اللهفة لأن يظلَّ الأثر حيّاً، فتتواصل الخطى لتكتب أروع الأمثلة وأعذب القصص والحكايات التي نستردُّ بها كلّ ذلك الإرث.. وإذا كان الأمر كذلك، فإنّ هُويّةً ما تزال تتأصّل لتروي حكاية هذا الإنسان الذي قدّم لنا مبررات وجوده، والتي هي مبررات وجودنا نحن. وفي السنيار فرحةً شعبيّةً، مثلما هو احتفاء رسميّ لكي تظلّ العلاقة قائمةً بين الحاضر والماضي، وثمة فضاءاتٍ كثيرةً يمكن أن يخلقها هذا المصطلح، الذي نتنافذ من خلاله على «ريادة» المكان، وتطويعه، والتأقلم معه، وربما التصالح مع معطياته، لتبقى قصّة الإنسان العربيّ الإماراتيّ واحدةً من أكثر القصص نصاعةً، بما يحمله لنا تاريخنا الشعبيّ من علاماتٍ مضيئة في هذا الموضوع أو ذاك. طقوس ومشهديّات من ناحية إبداعيّة (دراميّة) يمكن أن نغمض العيون على أحلام جميلة، وسرود تاريخيّة شائقة، فنسمع حداءً وصهيلاً ورغاءً، وتقلّب رمالٍ، أو غناءً وبكائيّاتٍ وتلاطم أمواج، فالبحر والبرّ- ثيمتان مهمّتان، لكي نحتفي بهما في عالم تشترك فيه الدولة والشعب لخلق تظاهرة فنيّة ثقافيّة ذات مشهديّاتٍ وطقوس، لا نستردّها فعلاً دراميّاً لمجرّد الاحتفاء وحَسْب، وإنّما لكي نضيف على عناصر الهويّة الإماراتيّة الضاربة في الجذور، عناصر جديدة تؤكّد القوّة والأصالة لهذه الهويّة التي هي أسلوب حياةٍ، ظلّت وما تزال تضجّ بالحركة والبقاء، وتُستنسَخ في أرواح الأجيال، فكأنّ الحياة الجديدة بمعطياتها وتقنياتها لا تنفي ذلك النَّفَسَ الأصيل الذي يظلّ يتخللنا، فلا نستغني عنه بأي حال. إنّ مفردات الغناء والقصيد والحداء، والنهمات الحزينة والحنين إلى الديار، إنما هي مفرداتٌ غايةٌ في الأهميّة، وعلينا أن نعقد لها الورش ونجعلها تتخلل الأفلام والمسرحيات و(الاسكتشات) الوثائقيّة، وربّما نحتفي بها على صعيد المناهج الدراسيّة، لأنّها تربط الأجيال بالأجيال، وترسخ هوية الزمان والمكان والروح الأصيلة التي ظلّت تنفخ الحياة في هذين العنصرين.. علاوة على أنها مفرداتٌ صارخةٌ بالجمال الذي يكاد يرشح من جنباتها، ليذوب به المهتمّون والباحثون ومتذوقو الجمال، فيمتحوا من وعائه الذي لا ينضب، لنعيش معهم فترات، لا أقول إنّها خارج سياق الحياة، بل هي الحياة ذاتها. فترات نترك فيها للذهن أن يتوقّد وللذاكرة أن تتزوّد، وللثقة أن تزداد بهذا الإنسان الذي أودع تصميمه الأجيال التي تحتفي بالهويّة اليوم. علينا أن نتخيّل هذه المفردات في عرض البحر، أو في وسط البيداء، مثلما علينا أن نسير مع جموعٍ امتطت صهوات السفر والترحال، وقالت كلمتها في مساءٍ اجتمعت فيه على قرار البقاء، فكانت الرحلة في الصباح، وكانت العزيمة التي تؤمن بما ينتظرها من أهوال ومشاق وتحديات، تحديات أشبه ما تكون بالجبال الراسيات التي لا تتزحزح، أو البيد التي يملؤها السراب، أو البحر الذي يبدو مداعباً، شديد الوله بمرتاديه، حتى إذا هبّت رياحه ثار وثارت معه الأحزان، فانطلق نَفَسُ البقاء يسخر من كلّ هذه الطوارئ التي لن تثني السواعد السمر القويّة عن ارتياد الجديد والكشف عما يرضي الطموح. سواعد قويّة تمخر عباب ذلك الهادئ الذي لا يستقرّ على حال، وعيونٌ لا تنطفئ أمام تلك الرمال التي تعمي الأبصار، خيول وجمال وطيور ونُذر موتٍ محقق في البر والبحر، وزبدٌ يكاد يتيبّس على الشفاه، قنوطٌ ورجاء، ورجاءٌ وقنوط، موتٌ وحياة، وحياةٌ وموت، وبين كلّ ذلك تكون النجاة، إذ النجاةُ هي وليدة الهمّ حين يبلغ الهمُّ مَداه، مثلما هي مستولدةٌ من أعظم الظروف قساوةً، لتستمر الحياة. هذه الفضاءات التي تزخر بما يزيد على ذلك ويفيض عنه، إنّما هي بحاجةٍ لكي نستلهمها، ونفرح لها، فنقيم المهرجانات، ونؤطّر لها المسابقات والتنافسات في الإحاطة بآثار الراحلين وقراءة مكنوناتهم، والوقوف عند كلّ مَعْلمٍ وقفوا عنده، أو كلّ كثيبٍ تجاوزوه، أو كلّ موجٍ عانقوه، أو كل هضبةٍ ارتقوها أو جبل،.. تلك الحفاوةُ تحتاج منّا تصوّراً ورؤيةً، وما أكثر ما يمكن أن نجترحه من وسائل وأساليب لتعظيم ذلك الأثر. أعتقد أنّ الوعي بجماليّة (السنيار) وفضاءاته الإبداعيّة الجماليّة وقصص الحب والتحدي والبطولة ومعاندة الظرف والتصميم على البقاء، إنّما يؤسس أيضاً للوعي الاجتماعيّ بما يمدّنا به هذا السنيار من دروس اجتماعيّة وإرادة صلبة لأجيال كوّنت سلوكها وطريقة حياتها بالظرف الجديد الذي صبغ الإمارات بكلّ هذا التنوّع الثري، فما بين الساحل والبادية والمدينة والجبل، خيطٌ رفيعٌ يصل مجموع التنقلات لتتحقق الفائدة وتتعظّم الإنجازات. وإذا كنّا نستشفّ من تصميم الإنسان الإماراتي كلّ تلك الدروس، في حلّه وترحاله، فإننا نجد أنّ هذه الدروس ماثلة اليوم في تصميم الدولة بقيادتها وحكومتها وشعبها، على أن تتبوّأ أفضل المكانة، وترسّخ وسائل جديدة للاعتماد على الذّات وتقوية الاقتصاد بمواطن جديدة للرزق، من خلال البحث عن وسائل إضافيّة تمد العنصر الاقتصاديّ الرئيس في الإمارات بأسباب القوة والمنعة، وربّما تحلّ محلّه في يومٍ ما، وهنا تكمن الحكمة من قراءة «السِّنْيارُ» بفهم حديث تستفيد منه الدولة بكلّ مكوناتها وجغرافيّتها ليستمر البقاء، بل ليكون هذا البقاء مميزاً على الدوام. علامة ثقافيّة ومن جانبٍ آخر، فإنّ وحدة الدولة وسعي أبنائها للحفاظ عليها هو هدفٌ مهم، يمكن أن نقرأه من خلال السنيار، الذي هو محاولة لحثّ الجهود على مواصلة العمل والاعتماد على الذات، وتوسيع رقعة العمل والبحث عن آفاق جديدة للبقاء، لذلك فإنّ علينا الاستناد إلى فكرة السنيار في تأكيد أفكار حديثة تهمّ الدولة على أكثر من صعيد. أعتقد أنّ «السِّنْيارُ» علامة ثقافيّة أو شعار يمكن أن نحتفي به من خلال تأمّله وإعادة إنتاج مضامينه، والعمل على فلسفة هذا المصطلح لكي يكون بالفعل عنوان هويّة أو نشيداً في طابور الصباح المدرسي، أو منهاجاً مدرسيّاً، أو موضوعاً مهمّاً، تتسابق إليه المجلات وألسنة الشعراء لتأكيده بطريقة غير مباشرة تحمل هدفه، فهو أشبه ما يكون بملحمة إنسانيّة يجب أن يعمل مثقفو الإمارات والعرب على الاستناد إليه فعلاً روائيّاً أو قصصياً أو مسلسلاً دراميّاً يرسم التصميم في مواجهة التحديات. ومن الجميل أن تكون الدولة صاحبة خيالٍ رومانسي وحلم قابل للتحقيق، وأعتقد أنّ جذوة الحلم لا تموت إن هي وجدت النيّة المخلصة والآليّة المناسبة لتحقيقها، مثلما وجد أولئك الرعيل الذين صنعوا ظروفهم وتركوا بصماتهم وعززوا مكانتهم وأرسوا دعائم من جاء بعدهم، ليضيف على ما أنجزوه، وليؤكّد ما أبدعته تلك الأيادي من إنجاز. التراث المحسوس السنيار يدخل في باب التراث المحسوس كفكرة، وإذا قمنا برصد طقوسه وقراءتها وتحليل مضامينها، فإننا نكون قد اشتغلنا على هويتنا التي هي تراثنا في نهاية المطاف، وإذا كانت منظمة عالمية كبيرة بحجم اليونسكو قد أقرّت يوماً عالمياً للتراث، فإنّ السنيار هو فكرة رائدة تشتمل عوالم من الغنى والثراء، يجب أن نفطن إليها بالبحث والتأليف والمعالجات الدراميّة والحلقات البحثيّة والإشهار العالمي لهذه المنطقة الغنيّة بالحياة. ملحمة إنسانية السنيار شعار وطني يمكن تجسيده بعمل (لوغو) خاص بمهرجان يحمل اسمه، أو تسمية مجلات تراثية بمسماه، لتظلّ المفردة قريبةً من القلب، واسماً يتردد على مسامع الجميع، خاصة الناشئة والشباب، لأن في حماية التراث وصونه فائدةً كبيرةً، لكي لا ينساب أبناؤنا في غفلة الحياة واختراق الثقافات. وإذا كنّا نطالب بذلك، فإننا نضع بين أيدي المهتمين والمتخصصين وصنّاع القرار ما يؤيّد هذا المطلب، مطلب الاحتفاء بسيرة الزمان والمكان، وأقول في هذا المجال إنّ (السيرة الهلاليّة) أصبحت سمةً بعد أن آمنت بها الجهات المختصّة ذات العلاقة، ولولا ذلك لما ترسخت في أذهان الناس ووجدانهم، وفي قصائد الحكواتي والقصائد الطوال التي صاغها الشعراء بأنفاسهم، وعرّفتنا بكلّ ذلك النسيج الاجتماعي الأدبيّ، مثلما ترسّخت لدينا قصص الزير سالم وكليب بن ربيعة وجسّاس وقصص الزناتي خليفة وحسن ودياب بن غانم وحسن بن سرحان ويحيى ومرعي ويونس والأميرة خضرة، وسواهم من الشخصيات التراثيّة التي أخذت بعداً أسطوريّاً وتغنّت بها الشعوب وردّتها إلى مكان انطلاقها وترحالها.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©