الثلاثاء 23 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الوسطية السياسية... درس تاتشر الأول

19 ابريل 2013 23:17
ويليام ماكينزي كاتب ومحلل سياسي أميركي باعتباري من السياسيين المعتدلين كنت أجد دائماً صعوبة في قبول ما فعلته تاتشر في بريطانيا لإعادة البلد إلى جادة الصواب، وتغيير وجهته اقتصادياً وحتى اجتماعياً. لكن أول درس تعلمته وأنا أراقب تاتشر من بعيد هو أنه على المجتمعات أحياناً المرور بأوقات صعبة ومريرة لبلوغ مكان أفضل والخروج من الأزمة. ففي أواسط سنوات السبعينيات، عندما زرت بريطانيا كانت البلاد في أزمة حقيقية، ومع أني كنت متخرجاً حديثاً من الجامعة، ولا يمكنني ادعاء الخبرة الاقتصادية، إلا أن التدهور كان واضحاً والركود بادياً للجميع. وفي خضم هذه الأجواء المتأزمة جاءت تاتشر في عام 1979 لتبدأ رئيسة الوزراء الجديدة أجندتها الإصلاحية القائمة على خصخصة الصناعات، والتصدي لدولة الرفاه والامتيازات الاجتماعية والإعلاء من قيمة المبادرة الخاصة والسوق الحرة. وبالنظر إلى المناخ العام الذي كانت تعيشه بريطانيا كانت الإصلاحات التي أقرتها تاتشر معقولة وضرورية، وذلك رغم الضجة والمقاومة التي أثارتها تلك الإصلاحات بسبب فترة التحول الصعبة التي كان على المجتمع البريطاني قطعها ليغدو مجتمعاً حيوياً ومتحركاً. وبحلول الثمانينيات كانت بريطانيا قد تغيرت بالكامل ليتبدى ذلك في مشهد البريطانيين، وهم يرتدون بدلات العمل ويذرعون شوارع لندن جيئة وذهاباً، أو وهم يتحدثون في الهاتف، ويعقدون الصفقات في أجواء طغى عليها اقتصاد السوق والفرص الجديدة التي جاءت بها تاتشر. وطيلة الفترة التي كانت فيها رئيسة الوزراء تقود بريطانيا نحو التحول الكبير، كنت أعمل مع منظمة معتدلة سياسياً تابعة للحزب الجمهوري في العاصمة واشنطن، ولسنوات عديدة كنا نعقد في منظمتنا مؤتمرات ولقاءات دورية مع سياسيين ينتمون للجناح المعتدل داخل حزب المحافظين البريطاني. وبقدر ما كان هؤلاء السياسيون من وسط حزب المحافظين يمثلون سياسات معتدلة وليبرالية داخل بريطانيا، كنا نحن أيضاً نمثل الجناح المعتدل والليبرالي في صفوف الحزب الجمهوري الأميركي، ورغم القلق الذي كان ينتاب البريطانيين في حزب المحافظين نفسه حول نطاق الإصلاحات واحتمال خروجها عن السيطرة، إلا أنهم جميعاً كانوا يكنون تقديراً واحتراماً كبيرين للمرأة الحديدية. ومع مرور الوقت أصبحت بدوري أحترم تاتشر لقيادتها الصارمة ولإصلاحاتها الشاملة التي أخرجت بريطانيا من أزمتها، لاسيما بعدما تأكد أن بريطانيا دون هذه الإصلاحات ربما كانت قد انزلقت إلى مستويات أدنى في الأداء الاقتصادي. وحتى لو لم تكن تاتشر موجودة لكان على بريطانيا الانخراط في السياسة نفسها، لأنها ضرورية ولا محيد عنها. وذلك ما يجرني إلى الدرس الثاني الذي تعلمته وأنا أراقب سنوات حكم تاتشر، ودفعني للتمسك أكثر بسياسة الاعتدال، أو ما يعرف بسياسة الوسط، فنحن لا نريد للمجتمعات أن تسرف في سياسات معينة، مهما كانت ليبرالية، أو اجتماعية، حتى تصل إلى نقطة يتعين معها التغيير القاسي والصعب، بل نحن مع السياسات المعتدلة منذ البداية التي تبقي توازناً مطلوباً بين الليبرالية والسياسات الاجتماعية وتغني المجتمع عن الهزات القوية والمريرة، فعلى سبيل المثال لو أن مجتمعاً راهن على دولة الرف_اه وأفرط في تقديم الامتيازات الاجتماعية، فإن ذلك سيكون على حساب تشجيع العمل الجاد والمبادرة الخاصة، كما أنه لن يكون مستداماً من الناحية الماليـة، وهو بالضبط ما حصل في بريطانيا. وبالمثـل، إذا ما تجاهـل مجتمـع ما احتياجات وحقوق شعبه، كما فعلت الولايات المتحدة مع مواطنيها من أصول أفريقية خلال حقبة معينة من تاريخها، فإن الناس ستنزل عن حق إلى الشارع مطالبة بحقوقها المشروعة. وإذا ما استحدث القادة نظاماً لا يهتم باحتياجات مواطنيهم، فإن ذلك الإهمال سينعكس على المجتمع بأكمله من خلال المدارس التي تعجز عن تدريس أبناء الفئات الفقيرة، والأمراض التي تنتشر لانعدام الرعاية الصحية، والبضائع التي لا تصل لتدهور البنية التحتية. وهنا يكتسي الاعتدال السياسي أهمية كبيرة، لأنه يحفظ للمجتمع توازنه ويمنعه من الانحراف يميناً أو يساراً. وهذا الاعتدال وتلك الوسطية هما تحديداً ما تحتاجه الولايات المتحدة حالياً، فوضعها سيكون أسوأ بكثير لو لم تتعامل بجدية وحزم مع ملف برامج الاستحقاق الاجتماعي، ومشكلة المعاشات التي تزيد من الإنفاق الفيدرالي، وتعمق حالة العجز في ميزانية الدولة. لكن في نفس الوقت نحن في أمس الحاجة اليوم إلى إصلاح قانون الهجرة بما يراعي إنسانية المهاجر ولا يضر بها مثل الإبقاء على حق المهاجر، وإدخال أبنائه إلى المدارس حتى لو كان غير شرعي. ولو أن بريطانيا انتهجت سياسة معتدلة ووسطية منذ البداية، ولم تسرف في الديمقراطية الاجتماعية التي اعتمدتها، لما كانت في حاجة إلى سياسة تاتشر القاسية، لكنها لم تستطع ضبط نفسها واستمرت في سياسات ثبت أنها غير قابلة للاستدامة، الأمر الذي حتم مجيء تاتشر التي أعادت الأمور إلى نصابها بكلفة مجتمعية عالية. ومع أن تاتشر نجحت بالفعل في نفض الغبار عن الاقتصاد البريطاني المتعثر، وإعادة بريطانيا كقوة اقتصادية كبرى، إلا أن الدرس الأهم هو أن بريطانيا ما كان يجب أن تسمح لنفسها بالانجرار وراء سياسات خاطئة أجبرتها على تجرع كأس التاتشرية المرة. ينشر بترتيب خاص مع خدمة «إم. سي. تي. إنترناشونال»
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©