السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الفكر الملغوم...

الفكر الملغوم...
19 ابريل 2012
إشكالية العرض المسرحي “مريم وتعود الحكاية” لفرقة نورس السعودية، الذي تابعناه ضمن عروض مهرجان المسرح العربي الرابع خارج المسابقة الرسمية أن مضمونه الخطير قد لا يفهم على النحو الذي يرجوه له كاتبه ياسر آل حسن، ومخرجه عقيل خميس، فقد يعتقد الجمهور العادي أن “ثيمة” النّص تقص حكاية مجتمع الغوص على اللؤلؤ في منطقة الخليج من خلال حكاية الفتاة الصغيرة مريم التي راحت ضحية للتقاليد البالية، لتفتح هذه الحكاية التي تم سردها في اطار مسرحي تجريبي استدعاء المزيد من حمولات ثقافة هذا المجتمع الذي كانت تقوم حياته على مهنة الغوص التي تلقت ضربة قاضية بظهور اللؤلؤ الصناعي، لتصبح هذه المهنة واصحابها وبخاصة “الطوّاشين” تجار اللؤلؤ على هامش التحولات الاقتصادية التي شهدتها المنطقة بعد إكتشاف النفط. نص “مريم وتعود الحكاية” الذي عرض على مسرح الحسين الثقافي برعاية الجمعية العربية السعودية، يحمل فكرا (ملغوما)، فهو يحذرنا نحن أبناء العولمة الجديدة من الوقوع في الفخ الذي وقع فيه أبطال العرض، إنه يقول لنا برمزية عالية (إنتبهوا وإحذروا) وهو بذلك يتقاطع بقوة مع نص “شمشون ودليلة” للكاتب والشاعر الفلسطيني معين بسيسو، الذي نجح في عمله على إشعال وجدان الأمة العربية، فكما كان شمشون رمزا للقوة العسكرية أو الغاصب الذي اغتصب الأرض وشرّد دليلة، كان كبير الطواشين غاصبا ومتسلطا حينما انتهز ظروف الجوع والمرض والفقر الذي تعاني منه أسرة مريم وغيرها من أسر البحارة لكي يتزوج منها وهي الفتاة القاصر التي لا حول لها ولا قوة، ومن المفارقات أن يكون مهر العروس الصغيرة ثلاثة صاعات من التمر، وهو ثمن باهظ لعروس تجبر على الزواج من رجل بعمر جدّها. وكما يبدو فإن القيمة الفكرية العالية للمسرحية، قد جعلت منها نموذجا مميزا لمسرح الشباب السعودي، ولعل ذلك ما حقق لها جائزة أفضل عرض مسرحي ونص وإخراج في مهرجان الفرق المسرحية الأهلية الاول في مدينة الرياض السعودية، ولهذا في تقديري أسبابه أولها أن العرض بمجمله ينحو بإتجاه تناول الراهن السعودي ليسقط من خلاله على الشأن العربي ممثلا بحالة الحراك الشعبي. إنه يتحدث عن الشارع بجرأة عالية لم نكن نتوقعها بناء على الخلفية الاجتماعية والسياسية التي تنطلق منها بيئة النص التي تبحث من خلال مريم عن العدالة المستحيلة، وعن الحلم. ولعل الثيمات الصغيرة التي وردت في ثنايا العرض تؤشر الى (عصرنة) واضحة للطرح الدرامي، ومن ذلك إثارة فكرة (العطش) في أحد المشاهد، حيث يتقاتل البحارة من أجل قطرة ماء، كما جاء مشهد (الزّار) وما يشي به من خرافة وشعوذة، وثقافة اجتماعية متخلفة، ليفضي كل ذلك الى دلالات وايحاءات تؤكد على مسالة التبعية، وهذا المضمون الذي أقيم على لغة قوية تجمع بين العامية القريبة الى حد كبير من الفصيحة، تجسدت في عدة مستويات من الأداء بالمونولوج والديالوج، والصوت الخارجي، والمؤثرات الصوتية الصادرة عن الممثلين، والموسيقى الحية التي صممها وعزفها كل من محمد الصفار (جيتار) وعلي غالب (إيقاع) وبندر خرندا (أيقاع)، حققت للعرض إيقاعا متوترا ولاهثا نحو المشهدية التي تشكلت من ديكور كان في تقديري أحد اهم الشخصيات في هذا العرض ذات الملامح التجريبية، ونفحات من تعبيرية الجسد والاسلوبية الاخراجية. هل يعقل أن تكون قطعة قماش بيضاء بمساحة خشبة المسرح بطلة لعرض مسرحي؟ هذا حدث وبطريقة ربما لم تتحقق كثيرا على مستوى المسرح الخليجي على الأقل، فقد أمكن للمخرج من تحويل هذه القطعة السحرية الى ممكنات ومهمات فنية فتارة هي سفينة تمخر في عباب البحر وتتعرض لعاصفة تقضي على بحارتها وعلى أحلامهم، وتارة تصبح خيمة، وقبرا، وعمودا، وسجنا، حتى اصبحت مع الوقت لازمة مسرحية لا يمكن الفصل بينها وبين الممثلين والحالة النفسية، كما أنها ساعدت المخرج الشاب على تكوين صورة مسرحية مبتكرة، وكان توفيقا من المخرج أن صنع لنا مشهدا مسرحيا مركبا كان الممثلون في الغالب خلفيته، وبذلك اصبح الممثل وجسدة في الفضاء هو العنصر الاهم في هذا العرض المتناغم والمحسوب بدقة من حيث توزيع الحركة، وبناء المشاهد الهندسية الهرمية بالممثلين، حيث لعب مثل هذا التكوين دورا مهما في إبراز قيمة أفكار النص. لا شك أن قيمة هذا العرض وفنياته وجمالياته قد تحققت ايضا من خلال الاستخدام البديع للموروث البحري في المتشكل في المنطقة، وقد بدا واضحا في استخدام العديد من العناصر الموحية مثل غناء (النهام) وهو شاعر سفينة الغوص الذي كان يحث بحارتها في الغناء على الصبر والمكابدة في مصارعة مخاطر أمواج البحر، وكان بارعا في أن يكون معظم تقطيعات تلك الاغنيات على لسان الصغيرة مريم، بؤرة الحدث ومحتوى الرمزية في العرض، هذا بالاضافة الى إستعراض بديع للعلاقة الاجتماعية التي كانت تربط الطواشين بالبحارة، حيث شكلت هذه العلاقة نموذج للهيمنة الذي يعكس إسقاطا على هيمنة رعاة العولمة والنظام العالمي الجديد، وما رشح عنه من اصطلاحات تدميرية معادية، بل وتسعى الى تهميش حضارة الشعوب وهويتهم، وبالتالي كان تحذير الكاتب منطقيا ونابعا من أحداث حية تدور على الساحة وعلينا أن لا ننجرف صوب هذا العالم المجنون بسياسته وخفاياه. ربما يكون أجمل ما في إسترتيجية المخرج هو إقامة عرضه كاملا في فضاء مسرحي مفتوح، معتمدا في تنفيذ رؤيته على تشكيل الممثلين ولهذا كانت مهمته في غاية الصعوبة، لكن حساسيته وخياله الواسع قد فتحا له الطريق نحو ادوات المسرح التجريبي بكل عناصره واهمها جسد الممثل الذي كان يتسجد في الفضاء بكل ليونة وانسيابية وسرعة تتوازن مع النقلات السريعة للحالة المسرحية، وبخاصة حينما يكون المشهد معتمدا بصورة رئيسية على حرفيات الاضاءة التي صممها بعناية فائقة محمد السبع، الذي كان أكثر من محترف وهو يضع بصماته من خلال تلك الجمل والدوائر التي تحققت في مستويات عديدة ما بين البقع الضوئية، والاضاءة الماسحة التي كانت تنظف الطريق امام حركة الممثلين الذين توزعوا بشكل هندسي دقيق الى درجة ان المدرك البصري للمتفرج قد تحققت له أعلى درجات المتعة البصرية، فقد جاءت الاضاءة مكثفة مركزة مقتصدة في ألوانها المشبعة بما يوحي للمتفرج بأننا في الواقع المشهدي، على الرغم من الوضوح التجريبي على مستوى التحريك والتكوين والشغل المسرحي بما فيه الماكياج والاكسسوارات المتناسقة مع موسيقى كانت في بعض المواقف اقرب الى تلك الجنائزية المحفوفة بثيمات فلكلورية تقرب الحالة من المحلية السعودية وهي بيئة النص الاصلية موسيقى مؤثرة بجمعها بين اللحن التراثي والغربي، وقد حقق هذا الدمج البارع للموسيقى قوة اضافية للعرض الذي كشف بالتوازي وفن التقابل بين ما يحدث للبحارة من مؤامرات يحيكها الطواشون ضدهم، وما بين ما يمكن أن نفهمه من بين السطور عن المؤامرات الخارجية التي تحاك لنا في الخارج بهدف اخضاع المنطقة، والسيطرة على ثرواتها. كنا في الواقع أمام دراما تراثية تجمع عناصر معادلة الاصالة والمعاصرة، والمتكئة في الأساس على المرحلة التاريخية التي إنكسرت فيها تجارة اللؤلؤ في قالب فني حديث ومبتكر، كما أن المضمون لم يخل من إرتباط ببيئة الخليج، ما حقق له هوية واضحة، فتراث هذه المنطقة ما زال محفورا في ذاكرة الاجيال وقد إنعكس على معظم النتاجات الأدبية من رواية وقصة، وعلى معظم الانتاج الدرامي وبخاصة فن المسرح، وكان مهما ولافتا أن يركز العرض على (سنة الطبعة) والتي وقعت في المنطقة عام 1925، وهي سنة المرض والخوف والجوع والفقر والثقافة، ولعل ذلك مؤشر منبه ومحذر أن التاريخ دائما يعود الى الحاضر حينما لا نكون في وعي كامل لهويتنا وشخصيتنا وتراثنا وعمقن الحضاري العربي والاسلامي، وأن وقع معظم شخصيات العرض ضحية لقوة المال ممثلة في تجار اللؤلؤ يمثل إسقاطا واضحا لوقوعنا في فخ القوة الخارجية. يقودنا كل هذا الى عنصر التمثيل في المسرحية وبخاصة ما قامت بأدائه الطفلة رحمة ناصر لدوري مريم الطفلة ومريم الأم، وكانت بهما تشمخ بالقيم الاصيلة والمبادئ والبحث عن الحرية والخلاص، وقد وفقت الى حد كبير من خلال نبرات صوتية قريبة من درجة السوبرانو في إيصال فكرة التحدي ببراعة وتلقائية، إذ أنها كانت المحور الأصيل في تركيبة التمثيل في مواجهة التحولات والمتغيرات والعادات والتقاليد البالية التي تقف حجر عثرة في مسيرة التقدم واللحاق بقطار العصر. وبالتوازي كان أداء كلا من حسين يوسف وحسن العلي ومرتجى حميدي ومحمد شويخات مقنعا الى حد كبير، أداء بسيط وعفوي أشبه بالارتجال الذي يحقق للحالة المسرحية قوة وجمالا وبهاء يتخطى حدود التمثيل والاداء التقليدي. الذي يحسب لمخرج العرض في النهاية أنه وفق تماما في إختيار ممثليه وتكوين مشهدياته القائمة على أدوات بسيطة ضمن مفهوم المسرح الفقير، فلا غرابة ولا تغريب، ولا بهلوانية في مثل هذه العروض التي تجمع بين الواقع والخيال وبين الحقيقة والمجاز وبين الرمز والمعنى، بين الحلم والواقع المرير، وقد اضاف من خلال هذه المعاني لمسات جمالية فنية في غاية الروعة، دون صخب، فقدم لنا عرضا هادئا وعميقا، وهو يستعيد معنا بشفافية عالية خطورة الاقطاعي المحنك ممثلا في تاجر اللؤلؤ بتصرفاته وسلوكه الذي يخلو تماما من الأخلاقية، واذا كانت قطعة القماش البيضاء وهي الملمح الديكوري الوحيد هي مايسترو هذا العرض فقد كان مخرجه عقيل خميس بكل ثقافته وحماسته ومنطقيته قائد هذه السيمفونية التي عزفتها فرقة نورس المسرحية لجمهور عمّان الذي صفق لها طويلا طويلا.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©