الثلاثاء 23 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

طنجة المتأمركة..

طنجة المتأمركة..
19 ابريل 2012
صدر مؤخراً ضمن منشورات وزارة الثقافة في المغرب، الكتاب الجديد للباحث والأكاديمي المغربي يحيى بن الوليد تحت عنوان: “تدمير النسق الكولونيالي/ محمد شكري والكتاب الأجانب”. يضم الكتاب مقالات، يسلط فيها المؤلف الضوء حول محمد شكري (1935 ـ 2003)، داخل نسيج طنجة، وبوصفه “علامة ثقافية” لافتة في الكتابة السردية بوجه خاص، والواقع الثقافي في “المغرب ما بعد الكولونيالي” بوجه عام، وخصوصاً من ناحية نصه الاستثنائي “الخبز الحافي” الذي كان وراء شهرته العالمية. ومحمد شكري برأي يحيى بن الوليد، في توطئة الكتاب وعلى غرار كتاب كثيرين هو ضحية “خبز الحافي” الذي لا يفي بمفرده لفهم جانب مهم من “خطابه” الذي يندرج، في تصورنا، ولا سيما من الناحية التي نعدها مدخلا جديرا بأن يدنينا من طبيعة الإسهام الثقافي الذي يمثله عمل محمد شكري. ويرى المولف أن سيرة محمد شكري “الخبز الحافي” بدورها، قابلة لأن تقرأ بالاستناد إلى هذه النظرية حتى وإن كان محمد شكري يبدو فيها مهموماً بـ”لقمة الخبز” بدلا من “أرض الوطن”؛ وهي قابلة لـ”القراءة ما بعد الاستعمارية” لا لأنها تتحدث عن مرحلة من حياة صاحبها (1935 ـ 1955) تندرج ضمن فترة الاستعمار فقط، وإنما ـ وهذا هو الأهم ـ لأنها تنطوي على العديد من خواص أو لوازم ما ينعت بـ”النص الثالث” أو “النص ما بعد الكولونيالي”. وتتمظهر هذه اللوازم على مستوى اللغة ذاتها، “اللغة (العربية) المهجنة”، وعلى مستوى “التلفظ” و”السرد” و”المسرود له” و”ألاعيب اللغة” و”الشخصيات” و”الازدواج اللغوي” و”الشفاهية” و”الشروح الهامشية”، وعلى مستوى “التمثيل” (الذاتي) لجانب مهم من “النسق الثقافي للمرحلة” الذي يتداخل مع “نسق الآخر” واعتماداً على “التعايش المحدود” و”التصادم الغالب”. جبهات عديدة ويضيف المؤلف في تمهيد الكتاب القيِّم ان محمد شكري، “كتب، وعلى مدار يقرب من أربعة عقود، في مجالات أو جبهات عديدة، لكن بما يعكس نوعا من “الوحدة” التي لا تخطئها القراءة. وكان من البديهي أن يدشن مساره الإبداعي بالقصة القصيرة التي لوَّت بالمشهد الأدبي/ الثقافي الساخن لسنوات السبعين اللاهبة بالمغرب، وهذا ما ستعكسه مجموعتاه “مجنون اللورد” ( 1979) و” الخيمة” (1985). غير أن مزاجه الحاد، أو تكوينه الشخصي النافر، سرعان ما سيقوده، وبما لا يفارق الإطار العام للمجموعتين سالفتي الذكر، إلى معشوقته الأولى “السيرة الذاتية”، وعلى وجه التحديد “السيرة الذاتية ـ الروائية”، التي تستوعب ثلاثيته: “الخبز الحافي” (في وضعيتها الإنجليزية 1973 والعربية 1983)، و”زمن الأخطاء” (1992)، و”وجوه” (2000). هذا بالإضافة إلى ولعه بالمسرح الذي سيقوده إلى نشر نصه اليتيم “السعادة” (1994)، في انتظار نشر مسرحيته “الطلقة الأخيرة” و”موت العبقري”. ثم سيرته النقدية المفتوحة ذات العنوان الشاعري “غواية الشحرور الأبيض” (1998) التي يؤرخ فيها لـ”مقروئه” في مجال الأدب العربي والعالمي، ورسائله مع الناقد والروائي المغربي محمد برادة “رماد وورد” (2000) التي لا يمكن التغافل عنها هي الأخرى في سياق رصد خطاب محمد شكري. وكل ذلك أيضا في المدار الذي لا يفارق كتاباته حول أجانب، أقاموا، وبأهداف متفاوتة، بطنجة، وبدءا من كتاب “جان جينه في طنجة” (بالإنجليزية 1973) و”تينسي وليامز في طنجة” (1983) و”بول بوولز وعزلة طنجة” (1996)؛ وجميع هذه المذكرات لا تفارق ما يمكن توصيفه بـ”تدمير النسق الكولونيالي” الذي يكشِّف عنه محمد شكري الكاتب والبطل: كاتب النص وبطله في آن واحد. وليس غريبا أن يتأطر كتابات محمد شكري، حول الأجانب، داخل هذا النص في تنوعه/ توحده. على أن هذا النص، بدوره، يتأطر ضمن التاريخ ذاته وفي إطار من العلاقة معقدة الأطراف التي تصل هذا الأخير بـ”الجغرافيا الثقافية”. ومن ثم فإن نص المذكرات ما كان سينتهي إلى الأفق الذي انتهى إليه لولا “الإقليم الثقافي” أو “الجغرافيا الثقافية” لمدينة طنجة التي استوعبت الكتاب الأجانب الثلاثة، العالميين: جان جنيه (1910 ـ 1986) وتينسي وليامز (1911 ـ 1983) وبول بولز (1910 ـ 1999). تآكل المكان في مقالته: “طنجة المتأمركة”، يصف الباحث يحيى بن الوليد مدينة طنجة التي حققت شهرة محمد شكري وحقق شهرتها أيضا، فهي مدينة استوعبت كتاباً أجانب عالميين، بل ورسامين ورحالة وموسيقيين وسينمائيين وإعلاميين... إلخ. ويصعب حصر جميع هؤلاء الذين انشدوا إلى “أسطورة طنجة” على مدار الأربعينيات والخمسينيات والستينيات، وأبدعوا فيها أو حولها. وعلى هذا المستوى فقد خلَّف هؤلاء متناً قائماً بذاته، أو تراثاً قريباً، أو نصاً يمكن الاصطلاح عليه بـ”النص الطنجي” الذي لا يفارق، وفي حال هؤلاء تعيينا، نوعا من “العالمية” التي لا تذيب المحلية أو الخصوصية. غير أن معظم هؤلاء، يقول بن الوليد، وخصوصا مع تزايد موجات “تآكل المكان” الذي سيؤول لاحقا إلى “الفضاء المعولم”، سيرحلون عن المدينة. هذا بالإضافة إلى الموت الذي غيب بعض هؤلاء دون أن يدركوا هذا الفضاء المعولم ومارافقه من إتلاف للميراث العمراني أو الهندسي للمدينة. ولذلك لن تبقى إلا القلة القليلة من هؤلاء، وفي مقدمتهم بول بوولز الذي آثر أن يواصل الحياة ما بعد الموت داخل إحدى مقابر طنجة. وهو الاختيار ذاته الذي أصر عليه جان جينه دفين مقبرة أغلب ضيوفها من الجنود الاسبان ومحاطة بسجن مركزي وثكنة عسكرية إسبانية هرمة في مدينة العرائش التي لا تبعد كثيرا عن طنجة. وكلاهما لم يكن، وسواء في المغرب أو خارجه، في حاجة إلى أن يموت لكي يولد إذا جاز أن نحور عبارة الفيلسوف الألماني الأبرز نيشته. غير أن ما يلفت النظر، ضمن لائحة الكتاب الأجانب الذين أقاموا بطنجة، كثرة الكتاب الأميركيين، مما يطرح أكثر من سؤال حول أسباب هذه الإقامة التي يلتبس فيها الشخصي بالثقافي أو “التمثيل الثقافي” بـ”الحضور الكولونيالي” بالنظر إلى الحضور الأميركي ككل في المغرب على مدار الفترة الممتدة من الحرب العالمية الثانية إلى العام 1973 الذي سيكشف عن منعرج الميل الأميركي إلى الشرق الأوسط بسبب من ارتفاع أسعار البترول. ويقول المؤلف: “إجمالا لقد جاء الأميركيون إلى مغرب “فرنسي” أفلت نسبيا من الأحداث التي روعت أوروبا منذ سبتمبر 1939 وأدت إلى انتصار ألمانيا الهتليرية”، كما ورد في مفتتح الفصل الأول من كتاب ألبير عياش “الحركة النقابية بالمغرب” الجزء الثاني وقد كان، وللتذكير، الإنزال الامريكي بالمغرب يوم 8 نوفمبر 1942. غير أنه لا ينبغي تلخيص الحضور الأمريكي بالمغرب في الإنزال العسكري فقط، ذلك أنه ثمة حضوراً من نوع آخر يمكن نعته بـ”الحضور الأميركي البحثي” وعلى ذلك النحو الذي أفضى البعض بالحديث عن نوع من “المغرب الأميركي”، وخصوصا من ناحية البحث الأنثروبولوجي الذي بموجبه يمكن الحديث عن نظريات وتيارات جعلت من المغرب، بزواياه وأسواقه وأحزابه، موضوعا للدرس النظري والبحث الميداني. وأبحاث كل من غليفورد غيرتز أو إرنست غيلنر، أو سواهما، من الباحثين والدارسين الأميركيين، وسواء في مجال البحث الأنثروبولوجي، أو السياسي أو الديني، لاتزال تفرض ذاتها على الباحث المغربي ـ المهتم بقضايا المغرب بصفة عامة ـ على الرغم من الاعتراض الذي قد يبديه على اختياراتها المتهجية أو الفكرية. أميركيون في طنجة ونجد بين الكتاب الأميركيين الذي سيقيمون بطنجة، وبالإضافة إلى الكاتبين اللذين سلفت الإشارة إليهما في نص المقدمة، وليام بروز وألان غينسبرغ وبرين غيسن وترومان كابوتي وجون هوبكنز وتيد جونس وباتريسيا هايسميث وكافن لامبرت وجين بولز زوجة بولز... إلخ. وقد وفرت طنجة لهؤلاء فضاء يصعب العثور على ما يماثله في عواصم الغرب بل وحتى في نيويورك. يقول الكاتب جون هوبكنز موضحا: “لاحظت أن هناك عدداً كبيراً من غريبي الأطوار قد شدوا الرحال إلى طنجة من كل بقاع العالم. كتاب وفنانون وسينمائيون... لو كنت أقيم في نيويورك ذاتها لما سنحت لي الفرصة بالتعرف على كل هؤلاء كما هو الحال هنا بطنجة”. ويرى المؤلف أن دائرة دراسة كتابات محمد شكري عند الكتاب الأجانب لا تكتمل إلا حين الالتفات إلى الكتاب الأول الذي افتتح به ثلاثية الكتابة عن الكتَّاب الأجانب الذين أقاموا بمدينة طنجة. وليس من شك في أننا نقصد، هنا، إلى كتابه حول الكاتب الفرنسي الأشهر والأبرز جان جينه (1910 ـ 1986) والمعنون بـ”جان جينه في طنجة” والصادر أول مرة بالانجليزية العام 1973 (ترجمة بول بولز). وليس غريبا أن يكتب شكري عن جان جنيه الذي يقع في مرجعية “جيل البيت” كما تؤكد ذلك بعض الدراسات حول هذا الجيل، ولا بأس من التذكير بما كان قد قاله وليام بورّوز لأصدقائه من جيل البيت: “أعتقد أنه ـ أي جينه ـ أعظم نأثر معاصر. كما أن جينه التقى، ومنذ أول نزول له في أميركا، في أغسطس 1968، بكل من وليام بوروز وألان غيسبرغ، وشارك في التظاهرات المضادة للحرب في فيتنام. و”كانت مسألة حظ خالص أن يكون جينه في شيكاغو سنة 1968 عندما جاء ليغطي انتخابات الحزب الديمقراطي لمجلة “أسكواير” كما قال وليام بوروز في تقديم جان جينه في طنجة”. ويهمنا أن نشير، هنا، إلى أن صاحب “مذكرات اللص” journal du voleur، وهي الترجمة التي كان يرتاح لها محمد شكري، عاش حياة التشرد، ونام تحت القناطر، وكما قال في حوار شهير مع الراحل سعد الله ونوس “ولدت في الطريق، وعشت في الطريق، وسأموت في الطريق” وكما أنه دخل السجن، عشر مرات، وأمضى فترة غير هينة من حياته فيه (سبع سنوات، تعيينا)، بل وبدأ الكتابة، وبنوع من النضج، وعن سن تزيد على ثلاثين عاما، داخل السجن. وعندما حكم عليه بالسجن مدى الحياة تجمع كبار كتاب فرنسا، في ذلك الوقت، وفي مقدمتهم جان بول سارتر، وبعثوا بعريضة إلى فنسان أوريول، رئيس الجمهورية الفرنسية وقتذاك، يطالبونه فيها بإطلاق سراح جان جينه؛ “وكان لهم ما أرادوا “ كما قال الكاتب ابراهيم العريس في مقال حول جينه ومعنى ما سلف أن جان جينه مؤهل أكثر من غيره، من الكتاب العالميين، لكي يكون “مرآة” لمحمد شكري، بل إن هناك من ينعت شكري بـ”جان جينه المغرب”. هذا بالإضافة إلى أن جينه كان “صديقا للعرب”، ولا سيما من الفلسطينيين ممن حمل معهم السلاح، وربما لمحاربة العرب قبل العدو. وقبل هؤلاء نجد الجزائريين الذي خصهم بنصه الشهير “الستائر” (1961) les Paravents أو “المسرحية الهائلة، المحطمة للتابوهات والمؤسسات التقليدية، المتمحورة حول الاستعمار الفرنسي والمقاومة الجزائرية” كما لخَّصها إدوارد سعيد (“ألف”، ص 299). ولم تقبل هذه المسرحية، في البداية، لا في فرنسا موطن الكاتب ولا في الجزائر موطن الثورة الجزائرية التي لم تسلم من نقد جنيه.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©