الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

حكايات التاريخ وهمم الرجال

حكايات التاريخ وهمم الرجال
19 ابريل 2012
عندما يمزج الباحث بين مشاهداته وانطباعاته الشخصية لما يرى ويسمع، فإنه قد عاش لحظة توهج إنسانية تحيله إلى بهجة استثنائية بما شاهد وقرأ. تستدعي المشاهدة عيناً مبصرة بعمق وبصدق النوايا وبرهافة النظرة الثاقبة، كما تستدعي الانطباعات فكراً متوقداً وبصيرة في التأمل الحقيقي، ولمحة لمّاحة، فما بالنا لو جمعنا المشاهدة والانطباع، الأولى تتحكم بها عينان صادقتا الرؤية، والثانية يتحكم بها شعور فائق البصيرة. من خلال هذا المفهوم المبسط لتلاقح المشاهدة والانطباع نقرأ كتاب “أبوظبي.. تصالح العقل والثروة.. مشاهدات وانطباعات شخصية” للباحث العراقي رشيد الخيون والذي صدر عن دار مدارك للنشر. يقيم رشيد الخيون علاقة جدلية بين العقل والثروة، تفترض منذ العنوان بتصالحهما في “أبوظبي”، حيث ارتفع العقل إلى مصاف لا يرقى إليه أي عقل، أما الثروة فقد وجدت لها منطقاً وطريقاً في التعبير عن نفسها، ذلك هو الطريق الذي سلكه العقل إلى اكتشاف روح العصر. هنا تصالح العقل الذي كان يسمو بأفكاره ورؤاه مع الثروة التي كانت ترتقي بيدين سخيتين إلى درجة الرفعة، تصالحا باتجاه المستقبل فكان السلام والتحضر غايتهما، وكان تعميق الشعور بإنسانية الفرد مأربهما وكان اختيار لحظة الانطلاق الحقيقية نحو آفاق التحضر ومجاورة العالم المتمدن طموحهما.. وكل ذلك حقاً اجتمع في أبوظبي. يقول رشيد الخيون “تقدمت أبوظبي، والإمارات بعامة، في العمائر والرقي، وأنت تقطع الطريق بين أبوظبي ودبي أو العين، كأنك تقطع الطريق ما بين باريس ولندن”. مفهوم الجمال تلك العبارة هي اختصار كلي لمفهوم الجمال، المشابهة بين مدن عريقة أوروبية، وبين مدن ناهضة، لها جذور ضاربة في التاريخ، استطاع هذا التصالح بين العقل والثروة أن يجعلها تشبه ما في الغرب من حضارة بالرغم من ان الجذور لاتزال تنبض بعرق الماضي. يقول الخيون: “سألت عن ماء الشرب، فقيل لي: إنه من البحر”. ولأن رشيد الخيون ابن الماء العذب الذي بدأ يجف في التسعينيات، فمات حيوانه ونباته النادر في الدنيا، أخذه العجب أن الإنسان هنا يحيي الموات بينما هناك يميت الحي، إنسان “الهنا” يعيش مع روح الأرض، يحاورها، يتكلم معها يبثها شجونه، يعرف أنها مثله تعطش فتريد ماءً، تسقى عذوبه فتزيد غلتها بهاء. يقيم رشيد الخيون مشابهة بين أبوظبي والبصرة فيقول: “طوال مشاهداتي في جغرافيا أبوظبي لم أكف عن تذكر البصرة، وكيف تكون لو تفرغت العقول لعمرانها، وتنزهت النفوس عن الاستئثار بكل شيء”. ويقول الخيون: “تحدثت عن أبوظبي، في تاريخها القديم المستمر، مع تبدل المكان كلية، وهو ليس أكثر من 250 عاماً فالبداية كانت باكتشاف بئر للماء العذب 1761، وجاء الاسم كنية “أبوظبي”، لكن الكتابة عن أبوظبي تبقى ناقصة بل أجدها غير منصفة، إذا لم يكن لمؤسسها، كمدينة وعاصمة تضاهي العواصم الأُخر حضور فيها، فالرجل أسس وتبع خلفاؤه الخطوات”. لؤلؤة الجزيرة كان المغفور له بإذن الله الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان رحمه الله المؤسس والباني، تصالح العقل والثروة عنده فكانت نتاجها عاصمة جميلة هي “أبوظبي” درة الخليج ولؤلؤة الجزيرة العربية، وتبعه صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان رئيس الدولة وولي عهده الفريق اول سمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، في خطواتهما نحو مستقبل شعب بين شعوب العالم لم يتجاور العقل والثروة في أبوظبي فقط، بل تجاورت المساجد والكنائس، ولا أظن أن أرضاً يسودها العمران تبقى جافة من روح التآخي ـ كما يقول الخيون ـ وما أكثر سامعي الآذان وما أكثر سامعي الناقوس أيضاً. ويعرج رشيد الخيون إلى مجالس أبوظبي، مجالس العلم والمعرفة، وطرح الأفكار والتزود بالجديد من اكتشافات العقول فيقول: “كنت قد تشرفت بإحياء ندوة في مجلس ولي العهد “سمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة” وجعلت لها عنوان “التراث المحجوب” فكان علي وأنا أكتب عن أبوظبي أن يكون لهذا المجلس وتلك الندوة مكان في المشاهدات”. ويعيش رشيد الخيون أجمل ساعات بحثه المعرفي وهو يدخل في رحاب مجلس محمد بن زايد حيث يقول: لم يخطر على البال يوماً من الأيام بأنني سأتحدث في مجلس سلطة عليا، مثل مجلس ولي عهد إمارة أبوظبي، أو أي موقع يماثله”. وينتاب رشيد الخيون الهواجس حول الموضوع الذي سيتناوله في هذا المجلس العريق وكيف يشبهه في استهلاله بالحديث فيه، فكان أن طرأت له مشابهة وهو العراقي الذي عرفت بلده منذ العصر العباسي مجالس الخلفاء والملوك فكان تشبيهه لمجلس محمد بن زايد بليغاً حيث قال فيه: “هنا تذكرت الخليفة عبدالله المأمون (ت 218هـ)”. ويصف رشيد الخيون مجلس محمد بن زايد: أخذ المدعوون يتوافدون إلى قاعة الندوة، ولاحظت الحضور يقفون ويستمرون واقفين لأشخاص معينين حتى يأخذوا أماكنهم في المجلس، ومعنى هذا أن أشخاصاً مهمين في الدولة، ومن أعالي القوم، يحضرون، وكنت أسمع همساً من الصف الذي في خلفي، بأسماء الداخلين، منهم الشيخ سرور آل نهيان، والشيخ هزاع بن زايد، ووزير الخارجية الشيخ عبدالله بن زايد، وأسماء أُخر لا أتذكرها”. وينتقل رشيد الخيون من بدء تحيته للحضور بالمجلس بعد تشريف سمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ووصوله إلى قاعة المحاضرة إلى ما يريد أن يفصح من فكرة عنوان محاضرته “التراث المحجوب” فيستحضر سؤاله للمنظمين للندوة حين سألهم: هل لي قول ما شئت تحت عنوان الكلام “التراث المحجوب”، والمجلس مجلس سلطة، وأنا نشأت وتغرّبت وتمرّنت على مخاصمة السلطة؟ فقالوا لي: صاحب المجلس لا يكمم الأفواه! تلك هي أبوظبي وذلك هو العقل، الذي روّض الثروة فأحالها إلى معرفة وثقافة وبناء. الجلال والتواضع يصف رشيد الخيون دخول محمد بن زايد إلى قاعة المجلس الذي امتلأ بالحضور، يصف الجلال والرفعة والتواضع والإلفة، يصف مسرة العيون الشاخصة وقلق المتحدث “المحاضر” في الوقت نفسه. وينقل رشيد الخيون وصفاً دقيقاً عن محمد بن زايد فيقول: “وجدت محمد بن زايد شاباً طموحاً ممتلئاً بالحيوية والنشاط ومستمعاً جيداً لا يقاطع المتحدث معه، مع تواضع جم يشعرك أنه يتعلم منك، وعلى ما يبدو كان موازناً بين حياته العسكرية بما فيها من الشدة، وهو الآن فريق أول ويُعد قائداً للجيش، ووظيفته المدنية”. ويختتم رشيد الخيون وصفه لمحاضرته في مجلس الشيخ محمد بن زايد فيقول: “بعد الانتهاء لا ينهض أحد قبل نهوض صاحب المجلس فتقدم نحوي مصافحاً، ثم خاطب الحضور: القاعة لا تسعنا للصلاة، لذا لابد من التوزع بين القاعة والمسجد، كان يعني صلاة العشاء”. ويضيف رشيد الخيون: “بالفعل عشت في تلك اللحظات ما قرأته عن مجالس المناظرات في العصر العباسي، وكيف كان الخليفة عبدالله المأمون هو المحور، وكيف يجري التناظر في حضرته”. أفتيان الخليج ينتقل رشيد الخيون إلى عالم آخر من أبوظبي، عالم التماهي بين الماضي والحاضر مستشهداً ببيت للجواهري من قصيدته “أفتيان الخليج” أبوظبي 1979 التي يقول فيها: فقلت وفي البداوة ما يُزين البداةَ وفي الحضارة ما يُشيدُ ويقول الخيون: “بينما أبوظبي تؤسس للحضارة من دون الاتكاء على حجرة أو فكرة من الماضي أو جغرافيا مساعدة، من ماء وخصوبة أرض، وكي تبقى عاضة بنواجذها على ما شيّدته وترنو إلى ما هو أكثر، لابد من المحافظة على تلازم مقبول بين ماضيها وحاضرها، لا عودة، ولا غرور وتعالي بما يُعبر عنه بثوران الحداثة”. أيام التأسيس ويسترسل الخيون مقلباً صفحات أيام التأسيس التي ارتبطت بالمغفور له الشيخ زايد رحمه الله: كان حكيماً، يفكر بتأنٍ، ومسالماً جداً، لا يحب إيذاء أحد وضالته هي العمران. ويضيف: كان ينزل إلى الأفلاج ليحول الماء، مع مزارعي النخيل من مزرعة لأخرى. هنا نجد الباحث ينقل مشاهداته “اليوم” ويكتب عما قرأه بالأمس، يقلب صفحة تاريخ إمارة أبوظبي وهو يتحدث عن الحاضر، يبحث في تاريخ المدرسة النهيانية (1958 ـ 1959) في العين كونها أول مدرسة حديثة. يقرأ هذا الفكر الذي أنتجه عقل زايد حين كان يدفع المال من أجل المعرفة بل من أجل شجرة حرّم قلعها ومن أجل طير حرّم اصطياده. ويقول الخيون: “من حظ أبوظبي أن عاش لها مؤسسها نحو أربعة عقود حاكماً لها، فواضع حجرة التمدن الأولى أكثر حرصاً ودراية على صعود البناء في الأفق”. ويضيف “صارت التجربة التي وضع حجرها الشيخ زايد آل نهيان، في الفطنة والحكمة والإخلاص، مثار الجدل والإعجاب في الوقت نفسه ومحاولة الاقتفاء أو الاقتداء بها”. ماء السماء وينتقل رشيد الخيون إلى قراءة ما رآه من عجائب أفلاج العين تحت عنوان “سواقٍ تحت الأرض”. ويستشهد في كتاب “معجم البلدان” لياقوت الحموي (ت 626هـ) حيث قال: “كان أهل الصحارى يكيفون البيئة ويتفننون في حفظ ماء السماء الهاطل في المواسم”. والأفلاج هي ممرات مائية تجري تحت الأرض شيّدت قديماً كأنفاق يمر عبرها الماء من منابعه الجبلية وهنا “الفلج الأم” حيث يجتمع الماء من مجريين يلتقيان فيه ويقول: وقفت على فلجين التقيا فيما يسمى بـ “الثقبة” ويعني التقاطع. ويضيف: يأتي أهل أبوظبي إلى العين وينزلون بين النخيل لقضاء ردح من أشهر الصيف الحارقة. ويسترسل رشيد الخيون في وصف النخيل وأطوالها، فالطويل منها يسمونه “العوانه”، التي يتسلقونها “بالحبول” وهو ما يسمى لدى جنوب العراق “بالفرود” أو “التبلية”. أما النخلة الصغيرة فتسمى “بالصرمة” وما يطلق عليها جنوب العراق “بالنشوة”. ويضيف: قالوا: هناك عقوبة على من يقطع عوانة وهي حبس ثلاثة أشهر وغرامة. عقّب أحدهم: أصدر ذلك ولي العهد محمد بن زايد آل نهيان. وبعد وصول الشيخ زايد حاكماً على العين العام 1948 حفر ما عرف بفلج الصاروج. ومن الشعر في الأفلاج قال الشاعر امرؤ القيس الكندي: بعيني ظُعن الحيَّ لما تحملوا على جانب الأفلاج من بطن تيمرا وينتقل رشيد الخيون إلى صير بني ياس ويرى البلبل الغريب ويذكره بالجنوب البعيد وبمرابع الصبا حيث يجول البلبل آتيا الى الخير ويطلع على اكتشاف دير.. يستشهد الخيون بما قال الشاعر الشيخ علي الشرقي واصفاً البلبل: بلبلي هل رغبت في الربطة السوداء أم تلك شارةُ المحزون تقرأ على الطريق إلى صير بني ياس أسماء: المرفأ، الأريام، طريف، أو الأبيض، جبل الظنّة، الجمانيات، الحلوة، ليوا “مزيرعة”.. ومما دفعه إلى زيارة صير بني ياس هو ذلك الأثر التاريخي المهم الذي اصبح علامة من علامات تجذير هذه الارض في التاريخ الانساني ألا وهو “كنيسة صير بني ياس” التابعة للكنيسة الشرقية بدلالة الصلبان المكتشفة حيث يقول: بعد مسافة أكثر من كيلومترين تجد آثار كنيسة وتبدو أنها كانت ديراً، اكتشفت العام 1992. يعود تاريخ البناء إلى العام 600 ميلادية أي قبل الهجرة النبوية باثنين وعشرين عاماً، وقبل ظهور الإسلام ونزول القرآن. ويضيف: يأخذك العجب العُجاب، وتقول في نفسك: من أوصل الرهبان إلى هذا المكان القصي وكيف؟ هكذا يستمر رشيد الخيون في مشاهداته وانطباعاته، حيث فيها ما هو اعتراف بحماسة للعمران في أبوظبي وهو يتعجب من صيد عينيه لدرر على الأرض، إذ ما كتبه إنما هو سكب ما رأته العين وسمعته الأذن على ورق لابد أن يذكر صفحات مجد يراه ويتمثله لرجال تعاضد لديهم العقل والثروة فترافعا.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©