الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

خلوة الكاتب النبيل

خلوة الكاتب النبيل
19 ابريل 2012
في السابع من يناير هذا العام غادرنا الكاتب والقاص المبدع إبراهيم أصلان، وفاجأ رحيله الجميع كما فوجئوا بأن اصلان كان عجوزا يقترب من الثمانين ولم يتصور أحد ذلك لأن روحه كانت شابة، وكتاباته طازجة ومفعمة بالأمل والحياة.. وقد عكف الباحث والناقد شعبان يوسف بدأبه المعروف وبحثه في الجذور على إنتاج إبراهيم أصلان وعثر على مجموعة من النصوص الاولى له، لم ينشرها في كتبه، ربما سهوا أو لأسباب أخرى، وجمعها في كتاب “خلوة الكاتب النبيل” لا يضم الكتاب نصوصا لاصلان فقط، بل بعض مقالات نقدية عنه كتبها نقاد كبار في مراحل مختلفة، فضلا عن مجموعة من الشهادات لرفاق رحلة أصلان. هو كتاب لأصلان وعنه في الوقت ذاته وقدم له شعبان بدراسة قصيرة، مهمة. يضع يده فيها على اهم ملامح أصلان في الكتابة واهم ما يميز تجربته، وهو ان أصلان كان كلما نال اعتراف النقاد وتقديرهم لما يكتب زاده ذلك قلقا وإحساسا بالمسؤولية فيصير أكثر تركيزا في عمله وتدقيقا فيما يكتب، وهو عموما كان مقلا في انتاجه. ويلاحظ شعبان ان البعض حين ينال اعتراف النقاد وتفتح أمامه أبواب الشهرة، يندفع في الكتابة وغزارة الإنتاج على حساب الجودة والمضمون. لكن أصلان كان على النقيض من ذلك، ولعل هذا ما يجعلنا نميل الى ان أصلان تعمد عدم نشر إنتاجه الاول في كتب، مثل قصة “الدرب والعالم” التي نشرها أصلان في مجلة “الثقافة” عام 1964 وهي قصة قصيرة لكنها قياسا على كتاباته الاخرى تعد طويلة وبها الكثير من التفاصيل البسيطة والدقيقة. وفي هذه القصة نجد روح اصلان المدركة للواقع المصري بعمق شديد وبساطة إنسانية مؤلمة، ولنقرأ معا رؤيته للنيل في القرية المصرية أو رؤية الناس في هذه القرية للنيل وبمعنى أدق كيف يصبح النيل في هذه القرية.. يقول أصلان “وجلس على الشاطىء وفي وقت الظهيرة هذا تكون النساء والصبايا قد انطلقن من الدرب متوجهات الى النيل يفرغن صفائح المياه القذرة بجوار المصلى ويشمرن عن سيقانهن ويغسلن الحصر والأواني ووجوههن والطبالي” ثم يقول “.. والنيل في هذا المكان يفقد معنى قدمه وألوهيته وشاعريته فهو ليس إلا شيئا موجودا وخطرا على الأبناء وبالوعة كبيرة وعائقا وشاطئا عفنا، ومراكب آتية من الصعيد محملة بالجرار والقلل القناوي وغلمان وشبان عرايا يتعلقون بجوانبها ويعتلونها ويقفزون منها”. هذه صورة نادرة في الأدب، واقعية جدا ومؤلمة ايضا، لكنها صادقة تماما، لن تجدها فيما كتب ويكتب عن النيل باستمرار ولا حتى في الأدب، انها الوجه الآخر والمؤلم للنيل في مصر وبين المصريين ورغم انها مؤلمة يحاول ان يجعل منها لوحة جميلة ويقدم المشهد الذي يحوله الصبية الى مشهد مبهج حين ينزلون الى النيل ويجعلون من المراكب لعبة يتقافزون منها بعد ان يعتلوها عرايا، لوحة ربما تبدو الآن معظم جوانبها فلم تعد المراكب تجوب النيل ذهابا من القاهرة بالبضائع القادمة من دمياط ومن الاسكندرية ولا عائدة من الصعيد الى القاهرة محملة بالجرار والقلل القناوي، فقد قضت الثلاجات الحديثة والجراكن البلاستيك على الجرار والقلل تماما وحلت مكانها زجاجات المياه المعدنية.. ولم يعد النيل شريان نقل ومواصلات بين اقاليم مصر.. تجوبه الآن البواخر السياحية أو ما يسمى الفنادق العائمة فقط، من قبل كانت العوامات ترسو في النيل امام امبابة والكيت كات في مواجهة الزمالك، وقد انقرضت هذه العوامات ايضا، لم يعد هناك غير واحدة فقط، مازالت رابضة وشاهدة على زمن مضى وانقضى. نفس المشهد اللذيذ كتبه اصلان ونشر عام 1964 وهو أيضا مشهد وحالة لم يعد لها وجود الآن، وهو مشهدا لابن حين يحصل على الشهادة الابتدائية وكانت هذه الشهادة حدثا كبيرا، يجعل هذا الابن مميزا بين اخوته وفي محيطه العائلي وينال بعض الامتيازات في الاهتمام، وفي المصروف ايضا، انه يصبح أمل العائلة، وكان أصلان شجاعا، فيذكر ان “سعيد” بعد ان نال الابتدائية ذهب الى مدرسة الصنائع وهي مدرسة نموذجية ذات مبنى متميز وخدمة تعليمية عالية ولا يتردد في السؤال عن ان المدرسة قامت ببذل من أميرة ملكية سابقة وانها أوقفت عليها بعض الأراضي للإنفاق عليها وهذا ما جعل المدرسة تستمر نموذجية وقد قال ذلك في ظل الاشتراكية الناصرية وكان كثيرون يترددون في ذكر مثل هذه الحقائق. وفي عام 1974 وقعت أزمة مجلة “الكاتب” وأثارها وزير الثقافة المصري آنذاك يوسف السباعي.. رجل السادات القوي، وطالب السباعي المثقفين بأن يفكروا في حدود “المواثيق الثورية” مثل الميثاق وبيان 30 مارس وغيرها. ويرد عليه اصلان، ذلك الهادىء المعروف بالعزوف عن المنتديات العامة بالقول ان “المسألة كما نعرف جميعا، تتعلق بتلك النظرة الدونية الجهولة التي تحكم العمل الثقافي في مصر خلال هذه الأيام”. ويرد مباشرة على كلام السباعي بالقول “أنا مثلا لا أضع هذه المواثيق في اعتباري مطلقا سواء كنت بسبيلي الى التفكير في شيء أو كنت متوقفا تماما عن التفكير وان كنت مثل كثيرين غيري من أبناء مصر أعرف ان اللغط يدور كثيرا حول اوراق لها مثل هذه الأسماء”. ويتساءل ابراهيم أصلان تساؤلا مازال مطروحا بقوة اليوم علينا جميعا: “هل نتكلم ونفكر بوصفنا رجالا أحرارا ام كمستبدين؟ وبعبارة اخرى هل يمكن لنا ان نعيش ونفكر ونموت بوصفنا رجالا ونساء نملك عقولنا وأرواحنا، لا بوصفنا كتبه لا فضيلة لهم إلا الخضوع؟ ثم يقول “الجواب الاستبدادي على مثل هذا السؤال هو: لا يسمح للناس ان يفكروا أو يتخيلوا مطلقا، بل يجب معاونتهم بإرغامهم على ان يفكروا ويتخيلوا ويكتبوا ما هو صالح لهم. وعندما تتولى السلطة ذلك فهو الطريق الى الإطاحة بعقول الناس وأرواحهم، وهو الطريق الى السجون وغرفة التحقيق.. “خلوة الكاتب النبيل” تحفة أدبية رفيعة ووثيقة ثقافية لا تتعلق بإبراهيم أصلان فقط، لكن بمرحلة كاملة من الكتابة والتفكير والهموم لم نغادرها بعد، بل تزداد ضراوة وقسوة هذه الأيام. وقد صدر الكتاب عن الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©