الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

ملاحة الشعر

ملاحة الشعر
26 نوفمبر 2009 00:17
يُصرّ الرواة على ربط فلذات مختارة من شعر بشار بوقائع محددة في حياته، وربما كانت هذه الأشعار لشدة حيويتها وحرارة نبضها تغريهم باختراع هذه الأخبار أو تصورها؛ لأن ذروة الإتقان في الفن هي تمثيل الحياة بأكمل وأجمل ما تكون. والغريب في أشعار بشار أنها مسرفة في حسيتها، متكئة على بصيرة تضاعف قوة الإبصار، ومادية تجسد شفافية الروح في الآن ذاته، مما يجعلها مفعمة بمفارقات التصوير اللافت، ومترعة بتقنيات التعبير الممتع. من هذه الروابط ما يرويه صاحب الأغاني من أن بشار كان يهوى امرأة من أهل البصرة، فراسلها يسأل زيارته، فوعدته بذلك ثم أخلفته، وجعل ينتظرها ليلته حتى أصبح، فلما لم تأته أرسل إليها يعاتبها، فاعتذرت بمرض أصابها (قصة مكرورة، لكن دلالتها بالغة على أن الحياة في عصر بشار، وفي عصر صاحب الأغاني كانت طبيعية في التواصل والحب والمواعيد بين الجنسين) فكتب إليها يقول: يا ليلتي تزداد نُكْرَا من حبّ من أحببت بكرا حوراء إن نظرت إليك سقتك بالعينين خمرا وكأن رجع حديثها قطع الرياض كُسين زهرا وكأن تحت لسانها هاروت ينفث فيه سحرا وتخال ما جمعت عليه ثيابها ذهبا.. وعطرا وكأنها برد الشراب صفا ووافق منك فِطرا جنيّة إنسيَّة، أو بين ذاك أجلّ أمرا فالراوي يعطي لنفسه حق معرفة أسرار علاقات الشاعر الحميمة، وغزلياته ومواعيده، وما تعرض له من نكث بالعهد، وما تلقاه من إجابة على العتاب، قبل أن يسطر لها هذه الأبيات التي أصبحت من أملح وأبدع غزليات الشعر العربي. ومع أن طه حسين لم يكن شديد الإعجاب ببشار غير أنه أخذ عنه استخدامه لكلمة “نُكر” الواردة في صدر هذه الأبيات، باعتبارها وصفا للمكروه المستنكر. ولعل سر الإبداع في هذه الأبيات يكمن في طريقة توظيفها لتراسل الحواس في تشكيل الصورة الشعرية، إلى جانب سلاسة التعبير وتدفقه وقدرته على الإدهاش، بما يمتلكه من شجاعة في اختراق المألوف والانحراف في التخييل، فأن تسقيك العين خمرا فيه مزج بين حاستي الذوق والنظر، وأن تسمع في أصداء حديثها ما يشبه جمال زهر الرياض البهيج فمعنى ذلك أن تحيل فتنة العين إلى الأذن، وأن يكمن الساحر القرآني العجيب تحت لسان المعشوقة فهذا خلط للحواس كلها في سبيكة واحدة مدهشة. أما أن يكون جسدها معجونا بالعطر المذوب فيه الذهب فهذا يجعلها ذروة في الإبهار والقيمة، بحيث تقع في نفس المحب في أعذب وأصفى موقع يصادفك فى الشراب البارد لحظة الفطر. كل هذا يجعلها فاتنة تكاد تكون جنية دون أن تفارق إنسيتها المحببة، أو هي تجمع بين ميزات العالمين لتبلغ مالم تبلغه امرأة سواها، بحيث يصل الشعر الذي يصفها ويجسد ملاحتها إلى أرقى وأقوى مالم يصله شعر الغزل من قبل.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©