السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

حائرة بين أبي وزوجي

حائرة بين أبي وزوجي
18 ابريل 2013 20:05
نورا محمد (القاهرة) - رغم أنه غير متخصص في الحسابات، ولم يدرس الرياضيات، فإن كل شيء عند أبي يخضع للأرقام ويحسب الخطوات والكلمات والحركات، لكن الأهم عنده الحسابات المالية، في كافة تفاصيل الحياة، وهو واضح معنا ومع نفسه، وإن كان لا يحب أن يعرف غيرنا ذلك ولا يود أن نذكره أمام الآخرين، فقد ذاق في حياته الأمرين وكافح كثيراً وعانى إلى أن استطاع أن يتزوج ويمتلك شقة وقد قام بتربيتنا بطريقته على أسلوب حياته وبطريقة حساباته. فلسفته ألا ينفق إلا للضرورة، والضرورات عنده متفاوتة حسب الظروف، لا يخفي مخاوفه من الفقر ومن العودة إلى الماضي الذي عاش فيه وكله عوز واحتياج، أكمل تعليمه معتمداً على نفسه، وخرج إلى العمل منذ نعومة أظفاره، لم يعش طفولته يوماً، كل الإجازات عنده ملغاة، فإما في الدراسة والمدرسة أو في العمل، ليس عملاً محدداً، وإنما مارس عشرات الأنواع من الأعمال الحرفية والدنيا، لذلك فهو يفهم ويتقن كل الأعمال التي يتطلبها المنزل من سباكة، وكهرباء، ونجارة، وحتى الحياكة، والطلاء، بخلاف درايته بعالم السيارات وخبرته في المطاعم وأعمال البناء، اعتدناه في البيت يصلح كل الأجهزة والأدوات بكل أنواعها لتوفير المال وبسبب خبرته. وقد كان يبادر بعمليات الإصلاح من تلقاء نفسه بمجرد أن تذكر أمي موضع الخلل أو التعطل حتى لا تشكو أو تتهور وتحضر الفني المختص للإصلاح ويتحمل هو التكاليف، ومع أن حالة أبي المالية لم تعد على ما كانت عليه في أيام شبابه وصباه، فإنه ما زال عند مخاوفه، وهو يملك رصيداً في البنك، وشركة تجارية صغيرة ومحدودة، لكنها تدر ربحاً لا بأس به بجانب راتبه من وظيفته، وقد استطعنا بضغوطنا الشديدة أنا وإخوتي أن نمنعه من العمل الحرفي الذي لا يليق به ولا بوضعه الوظيفي وقد توقف وهو يهددنا ويحذرنا من أن ذلك سوف يؤثر على مستوى معيشتنا، وهذا ما جعلنا جميعاً نضحك ملء أفواهنا، فأين هي معيشتنا التي ستتأثر، وهو قبل أن يشتري دجاجة يعيد حساباته ألف مرة، وإذا ضاقت بنا الشقة وأردنا أن نخرج لنتنفس الهواء يواجهنا بقائمة من الشروط، أهمها عدم تناول أي مشروبات أو مأكولات في الخارج بحجة أنها ملوثة، ثم يكشف عن نيته بأنها باهظة الثمن ومن الأفضل لنا أن نتناول الطعام المنزلي الذي تعده أمي، وهنا يسرف في كيل المديح لها ولفنونها في الطهو وأنها تفوق أفضل طهاة الفنادق. وعندما تبكي أختي الصغيرة من الجوع ويتعبها السير على الأقدام وتريد زجاجة ماء، يطلب منا أن نعود إلى المنزل ويقطع علينا لحظات التنزه، بدلاً من أن يشتري لها الماء أو الطعام من أرخص الأنواع، وقد اعتدنا هذه السيناريوهات كل مرة وحفظناها عن ظهر قلب ونتندر عليها، مع أننا لا نخرج إلا مرة كل شهرين أو ثلاثة لأن حجج أبي في الرفض دائماً جاهزة كأنها على طرف لسانه، فإما أنه مشغول في العمل، وإما يتحجج بأننا يجب أن نذاكر لأن الامتحانات على الأبواب ولم يبق إلا ثلاثة أشهر عليها، كأننا سندخل الامتحانات غداً أو بعد غد، وإذا أخطأ مرة ووافق على التغيير وأن نتناول وجبة جاهزة، فإنه أولاً يغير رأيه ويشترط أن نتناولها في البيت ولا نخرج، لأن حساباته تؤكد أن ذلك أكثر توفيراً، فهذا يعني أننا سنتناول ما يطلبه فقط ولن نزيد عنه، ثانياً يكون في أضيق الحدود، ويمكن أن تصنع أمي بعض الأشياء الخفيفة التي تساعد على إكمال الوجبة، وليت الأمر ينتهي عند هذا الحد فقبل أن نسمي الله ونمد أيدينا يذكرنا بثمن الوجبة وما دفعه فيها، ثم يؤنبنا على فعلتنا وهو يحسب ويتساءل ماذا لو اشترينا بهذا المبلغ دجاجة أو حتى كيلو من اللحم؟ ثم يجيب لنفسه، بالطبع الطعام سيكون أشهى وأكثر أماناً وأفضل مذاقاً، والأهم أنها أرخص بالثلث، ويتكرر ذلك عدة مرات بعد أن ننتهي من تناول الطعام ويرددها كلما تذكرها في اليوم نفسه أو بعده. تصرفات أبي لم تصل إلى مرحلة البخل ولا يمكن أن نصفه بذلك، ولكنها نوع من الإمساك والحرص، تأثراً بما عاشه من حياته من قبل، ونحن نشفق عليه مما عانى، وكثيراً ما يذكرنا به ليكون عبرة لنا في الحياة، وكذلك ليبرر تصرفاته ويؤكد أنه يريدنا أن نعيش في أحسن حال، ولكن بالعقل والحكمة وعدم الإسراف وأن نضع المال دائماً في موضعه الصحيح وألا ننساق وراء رغبة البطن، فبعد الشبع يتساوى من يتناول الشواء مع الذي يتناول الخبز الجاف، رغم أن هذه المبررات بها بعض المغالطات، لكننا نتقبلها، خاصة وهو يؤكد أنه يفعل كل ذلك من أجلنا ومن أجل ألا نعود إلى الماضي وقسوته والظروف التي مر بها ويحاول أن يجعلنا نتجنبها. ولا أكابر وأريد أن أعترف أنه لولا حرص أبي وعدم إسرافه ما كان لنا أن نتعلم أو أن نقتني سيارة من ماركة معقولة ولا أن نقيم بشقة في منطقة متميزة نسبياً، وكل ما كنا نأمل فيه أن يفك بعض أصابعه ويخفف من الإمساك الذي يجعلنا دائماً نعيش في إحساس بالنقص. أصدقاؤنا وزملاؤنا هم الذين ينقلون إلينا هذا الإحساس وربما الغضب من طريقة أبي في الحياة، فهؤلاء يحدثوننا كل يوم عن الخروج إلى حديقة كذا أو قضاء يوم في مدينة ساحلية شتاء أو أسبوع صيفاً أو تناول العشاء في أحد المطاعم الفاخرة، أو مشاهدة مسرحية جديدة، وبالمناسبة فإن أسرتي كلها لم تدخل أي مسرح طوال حياتنا، المهم أن أبي يستطيع أن يسوف ويؤجل ويؤخر أي مطالب لنا إلى أن يفوت وقتها، مثل ملابس الصيف والشتاء وغيرها، وعندما يخطئ أحدنا أمامه ويذكر ما فعله غيرنا يكون جزاؤه درساً غاية في القسوة. وبصفتي كبرى أخوتي وأخواتي، فقد انتهيت من دراستي وجاء من يخطبني، شاب يعمل في وظيفة جيدة ودخله متميز ومن أسرة طيبة، ووافقت عليه مبدئياً من المواصفات التي نقلوها إليَّ وما رأيته منه في بداية أيام الخطبة، ثم ما استبان بعد ذلك ونحن نعد عش الزوجية، وقد كان أكثر ما أسعدني وأخذ عقلي، وهو يدعوني كلما خرجنا إلى تناول طعامنا في مطعم مشهور أو مكان معروف، ونجلس على «كافيه» نتناول المشروبات والعصائر الطازجة، ونتبادل الأحاديث، ونتعارف أكثر على بعضنا، تماماً على عكس ما يفعل أبي وما يضايقنا منه، وكانت تلك ملاحظة لجميع أفراد أسرتي إذ أنه كثيراً ما يدعونا جميعاً لتلك الوجبات الجاهزة أو التنزه، وكانت المرة الأولى التي نعرف فيها طريق المسرح عندما دعانا جميعاً بمناسبة قرب زواجنا، ولم يسلم خطيبي من انتقادات أبي الذي اتهمه بالإسراف وعدم تحمل المسؤولية وعدم تقدير الأمور ووضعها في نصابها، مهدداً بأن ذلك سيكون له عواقب وخيمة على حياتي أنا وزوجي، بما يمكن أن يصل إلى حد الفقر. لم اهتم كثيراً بما قاله أبي ولم ألق له بالاً، بل رفضته جملة وتفصيلاً بتجاهله وعدم التعليق عليه، لأن خطيبي يشبع رغبتي فيما حرمني منه أبي، ولا أصف هذا بأنه تبذير، فأنا أعرف أن كل الشباب يظهرون كرماً مصطنعاً ومبالغاً فيه في فترة الخطوبة، ثم يعودون لما كانوا عليه وإلى طبيعتهم بعد الزواج، فليس كثيراً عليَّ أن أعيش حياتي أو بعضاً منها في هذه الفترة القصيرة التي لا تزيد على بضعة أشهر، والمؤكد أن هذه الأيام ستكون من أجمل وأحلى الذكريات ولن تعود مرة أخرى ولا أريد أن أحولها إلى معاناة وتفكير في مصروفات ونفقات الزواج كما يفعل الكثيرون. في الأشهر الثلاثة الأولى من زواجنا كان زوجي على حاله فلا يمر يوم أو اثنان إلا ويتصل بي هاتفياً كي أستعد للنزول معه لنتناول غداءنا خارج البيت، ويأتي بسيارته ليصطحبني وفي الطريق يخيرني بين عدد من المطاعم الفاخرة والمعروفة وبعد مداولات نختار أحدها، وبعد أن نتناول وجبة شهية نتوجه إلى أحد الأماكن العامة لنتناول العصير أو الشاي أو كليهما إذا طال بقاؤنا وهذا في الغالب هو ما يحدث، فقد لا نعود إلى بيتنا إلا عند منتصف الليل. لم أحصل على فرصة عمل وزوجي غير مهتم ويفضل أن أظل بلا عمل وأن أهتم بشؤون البيت وأن أتفرغ لحياتنا، ثم لأولادنا في المستقبل وحتى لا يشغلني العمل عن واجباتي المنزلية، لكن بعد ذلك بدأت حياتنا تتأثر ولا يكفي راتب زوجي حتى منتصف الشهر وليس لنا أي دخل آخر، وزوجي لا يريد أن يغير أسلوب حياته، صحيح أنه غير مسرف في الحقيقة لأن ما يفعله طبيعي، لكن مقارنة بدخلنا هو غاية التبذير والإسراف معاً، على العكس تماماً من أسلوب أبي، فزوجي لا يعرف كيف يدبر شؤون البيت ولا كيف يوازن بين الدخل والمطلوب، وطالما بين يديه أموال، فإنه لا يتحكم في نفسه، وقد يشتري أشياء لا قيمة لها، بينما في النصف الثاني من الشهر نضطر للاستدانة واللجوء إلى البنوك. لم أوافق على أسلوب زوجي وواجهته ونصحته بضرورة أن يكون وسطياً معتدلاً وأن يسير الأمور حسب دخله، أو أن يترك لي هذا الأمر، فرفض وحذرني من فتح هذا الموضوع مرة أخرى وأن هذه مسؤوليته وهو يتحملها وحده، وصل ذلك إلى حد الخلاف بيننا، حتى أنني في كثير من المرات أرفض النزول له عندما يدعوني إلى الغداء كعادته ويسبب ذلك الكثير من المشاكل بيننا لا أعرف كيف أتحاشاها، وإذا كانت الأحوال بدأت تضيق بنا الآن، فكيف بنا إذا رزقنا بطفل أو اثنين؟ إنني أخشى من استمرار زوجي على هذا النهج، فلا يمكن أن نواصل حياتنا بالديون والاقتراض. في النهاية أجدني حائرة بين بخل أبي وإسراف زوجي، وكلاهما مرفوض.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©