الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

حمد الغافري: آن الأوان لمواجهة الوباء دون «دفن الرؤوس في الرمال»!

حمد الغافري: آن الأوان لمواجهة الوباء دون «دفن الرؤوس في الرمال»!
25 يونيو 2010 21:46
أقل ما يوصف به أنه “وباء .. وبلاء” مدمر يفسد ويلتهم كل شيء.. .. لكن ما هو البلاء الذي يدمر صحة وعقل .. ودين .. وعرض.. ومال .. ونفس الإنسان.. وأهله وعمله ودنياه ..؟ .. ما هو الوباء القاتل الذي نضل إليه بإرادتنا- عن غفلة أو جهل أو بحثاً عن متعة زائفة، أو حباً في الاستطلاع دون إدراك، ونكتشف فجأة أننا سقطنا إلى الأبد في براثنه مسلوبي الإرادة، ويستحيل أن ننجو منه دون مساعدة ؟ .. ما هو الشيء الذي يقودنا إلى النهاية الحتمية أو “الموت المذل” إن استسلمنا لإنكار حاجتنا إلى العلاج ؟ .. أصحابه الذين سقطوا في شراكه، وابتلوا بويلاته وأمراضه، ومصائبه وأوحاله، وصفوه بأنه “بداية النهاية”! .. من يؤجل قرار التوقف الفوري والعلاج منه لا تنتظره سوى نهاية حتمية واحدة من بين اثنتين لا ثالثة لهما “الانتحار..أو الموت”! إنها ليست “فزورة”.. بل هي “حقيقة بالغة المرارة” بكل تأكيد. كثيراً ما نسمع ونقرأ ما يحصده إدمان المخدرات أو العقاقير- باختلاف أصنافها وأنواعها- من أرواح كل يوم بل كل ساعة، وكثيراً ما تتعالى أصوات وصيحات وصرخات الاستغاثة والحذر والتخويف والنصح والإرشاد والموعظة دون جدوى، وفي المقابل تحتل أخبار “مافيا” وعصابات تهريب وترويج وتجارة المخدرات ومحاولات التصدي لها المساحات الأوسع في صدر الأخبار المحلية والإقليمية والدولية، وفي نفس الأثناء تتزايد وتتضاعف أعداد متعاطي ومدمني المخدرات من كافة الأعمار والأجناس، ويتضاعف معها أعداد الذين يلقون حتفهم انتحاراً أو موتاً. كيف نستوعب هذه المعادلة المعضلة ؟ تساؤلات حملناها إلى الدكتور حمد بن عبد الله الغافري، مدير عام المركز الوطني للتأهيل في أبوظبي، في “اليوم العالمي لمكافحة المخدرات والإدمان عليها”، ليوضح جوانب من هذه التساؤلات في هذا الحوار الذي نستكمله بلقاءات الفريق العلاجي في المركز، في الصفحات التالية من هذا الملف. يؤكد الدكتور الغافري أن الإدمان مرض مزمن له تداعياته النفسية والاجتماعية الخطيرة على صعيد الفرد والأسرة والمجتمع، لكن لا يعني ذلك أن يتخلى المريض عن مسؤوليته في التعاطي والإدمان وعدم التردد في طلب العلاج، لأنه يصل إلى أن يكون فيها عاجزاً تماماً عن اتخاذ مثل هذا القرار بمفرده، وإن واقع الحال يؤكد أن الانتكاسة المرضية والعودة إلى التعاطي أمر محتمل ومتكرر، بل ومتوقع، ويتعامل معها الفريق العلاجي في أي مكان على أنها جزء من طبيعة الإدمان. ومن ثم على المريض ألا ييأس، وعلى المحيطين به ألا يفقدوا الأمل في العلاج، بل يستلزم الأمر دعماً أسرياً واجتماعياًً استثنائياً ومهماً حتى يستمر المريض في مقاومة ضغوط الانتكاسة والعودة إلى الإدمان. ما هو الإدمان؟ يشير الدكتور الغافري إلى ظاهرة تعاطي المخدرات والإدمان عليها قائلاً: “انتشرت ظاهرة تعاطي المخدرات والإدمان عليها في المجتمعات البشرية عموماً على مر الزمن والعصور، حتى أصبحت مشكلة علمية معقدة ذات تأثيرات سلبية مدمرة ومتعددة، ولا يمكن قصر هذه التأثيرات على الشخص المدمن فقط، بل إنها تشمل الأسرة والمجتمع بأسره، وهناك اتفاق بين الأوساط الصحية العالمية منذ العام 1973 على أن إدمان المخدرات حالة من الاعتماد النفسي والعضوي تنتج عن تفاعل العقار في جسم المتعاطي بحيث تولد لديه حاجة ورغبة ملحة في تعاطي العقار بصورة متصلة أو دورية للشعور بآثاره النفسية ولتجنب الآثار والأعراض الجسدية المزعجة التي تنتج عن عدم التعاطي، وهذا من شأنه أن يسبب حالة طبية يطلق عليها “درجة أو عتبة التحمل” يضطر المدمن بعدها لزيادة الجرعة بصورة متزايدة لتعود جسمه على العقار. وقد يدمن الشخص أكثر من مادة واحدة في وقت واحد. ويلاحظ أن الاعتماد النفسي، حالة تنتج من تعاطي المادة وتسبب الشعور بالارتياح والإشباع وتولد الدافع النفسي لتغيير المزاج وتناول العقار بصورة متصلة أو دورية لتحقيق اللذة أو لتجنب الشعور بالقلق. أما الاعتماد العضوي، فهي حالة تكيف وتعود الجسم على المادة بحيث تظهر على المتعاطي اضطرابات نفسية وعضوية شديدة عند امتناعه عن تناول العقار فجأة. وهذه الاضطرابات أو حالة الامتناع تظهر على صورة أنماط من الظواهر والأعراض النفسية والجسمية المميزة لكل فئة من العقاقير”، ويجدر التأكيد على أن الشخص المدمن يصبح تعاطيه للمخدر أو العقار كاستجابة “قهرية” تفقده السيطرة تماماً على قدرته على تقليل الجرعة أو تأجيلها أو التوقف التام دون مساعدة فريق علاجي متخصص. الأسباب والدوافع يوضح الدكتور الغافري أسباب ودوافع الإدمان على المخدرات بالقول: “هناك نظريات عديدة تناولت الإدمان وسبل انتشاره وأساليب التعامل معه كظاهرة اجتماعية ونفسية مركبة ومعقدة، ولم تتفق فيما بينها على متغير واحد لكنها أشارت إلى تفاعل أكثر من سبب نفسي واجتماعي وثقافي، بل وجيني ووراثي، كمتغيرات مؤثرة تساعد على الاعتماد أو الإدمان. فالفرد نفسه وعمر وحالته النفسية وخصائصه الشخصية، وظروف الأسرة وأساليب التنشئة الاجتماعية، والثقافة السائدة والقيم الدينية والأخلاقية السائدة، والمحيط الاجتماعي والبيئة دون أن نغفل إفرازات التحضر والعولمة والتمزق والتشتت الفكري أمام تيارات الثقافات الغريبة الوافدة”. وكثيراً ما يلجأ البعض في البداية إلى تناول العقاقير أو المخدرات نتيجة أفكار سلبية أو مغلوطة في كونها تخفف القلق أو التوتر أو الاكتئاب أو تساعد في الهروب من المشاكل، أو البحث عن إدراك الذات ومعنى الحياة، أو أنها تساعد في تذوق وتنمية الإحساس بالجمال والإبداع الفني والجنسي والمعاني الصادقة للعلاقات الشخصية، أو بسبب التمرد على قيم المجتمع أو اليأس من هذه القيم، ورغبة الشخص في عدم تفويت خبرة ممتعة، والرغبة في مجاراة جماعة الرفاق، واللهو والتسلية والبحث عن الإثارة والفضول”. الثقافة المجتمعية يؤكد الدكتور الغافري على جانب - يراه في مقدمة أولويات التصدي لظاهرة الإدمان- ويقول: “اعتاد الناس على الحديث عن إدمان المخدرات أو المسكرات أو العقاقير المخدرة الأخرى على أنها جريمة وجرم وانحراف أخلاقي، بل وطالب البعض في أوقات وأماكن عديدة بضرورة استئصال هذه الفئة من المجتمع لما يخلفه الإدمان من دمار وتردٍ وآثار سلبية خطيرة على كافة المستويات. ومع تغير النظرة العلمية والطبية للمدمن والإدمان كمرض أو سلوك، تغيرت معه طرق وأساليب العلاج والتأهيل، ومن المؤكد أننا لا ننفي مسؤولية الشخص عن إدمانه بشكل قاطع، فالمدمن يتحمل الجزء الأكبر من المسؤولية بكل تأكيد، وعليه أن يواجه مسؤوليته في العلاج، لكن علينا أن نلتفت إلى جوانب مهمة للغاية قد تعيننا على تفهم حقيقة الإدمان كمرض عضوي ونفسي واجتماعي، أو أهمية تغيير النظرة المجتمعية إلى المدمن، فالواقع يقول إن جميع مدمني المخدرات تقريباً لم يكن لديهم الوعي الكافي والاستبصار الحقيقي بما ستؤول إليه حالته بعد الإدمان، أو حقيقة إدراكه لمخاطر حب الاستطلاع والميل إلى حب التجربة عندما تعاطى المخدر للمرة الأولى، أو تصوره بأنه سيكون قادراً على التوقف عن التعاطي في أى وقت يشاء، ومن المؤكد أن هذه النماذج لم تكن محصنة نفسياً أو قيمياً وسلوكياً ضد اكتساب القيم والثقافات والسلوكيات والعادات الغريبة أو الضارة بقدر كافٍ، وتلك مسؤولية الأسرة والمجتمع بأسره، فضلاً عن وجود تفاوت وفروق فردية - سلباً وإيجاباً- بين الناس في كيفية التعامل مع مشاكل وضغوط الحياة المتعددة، هذا إلى جانب وجود بعض من الأمراض أو الاضطرابات النفسية التي تسهم في حدوث الإدمان، دون أن ننسى أن المتعاطي عندما تحول كراهية إلى “مدمن” فإن الإدمان يتسبب في تشويه صورته وشخصيته وكيانه من جميع النواحي، ويفقد السيطرة على نفسه، وتختفي وتتوارى كل اهتماماته ومفردات معايير كل القيم لديه، ولا يصبح له سوى هم واحد هو “الحصول على المخدر” بأى طريقة وبأي ثمن، ويذوب ضائعاً في دوامة المشاكل، ويتحول إلى بقايا أو حطام إنسان يحتاج إلى إعادة “ترميم” وتأهيل، وهذا يستحيل أن يقدم عليه بمفرده. فالنظرة إلى مدمني المخدرات في العقدين الأخيرين قد تغيرت في العالم بأسره، وأصبح التعامل معهم على اعتبار أنهم “مرضى”، وأن الإدمان مرض من الأمراض، وأن أصحابه يحتاجون تدخلاً مهنياً دقيقاً وفق برنامج علاجي طبي ونفسي واجتماعي وتأهيلي متكامل، بدلاً من النظر إليهم على أنهم مجرمون أو مارقون”. الآثار الـسلبية يشير الدكتور الغافري: “إن للإدمان على المخدرات آثارا سلبية عديدة، فعلى الجانب النفسي، نجد جملة من الاضطرابات النفسية والانفعالية كلوم الـذات، والميل إلى العزلة وتخلخل الوجدان والعاطفة، والاكتئاب والقلق، ويصبح الخلل واضحا في التعامل مع الذات والآخرين، ونمو المشاعر والتوجهات العدوانية لتدمير الذات والآخرين في آن واحد، معا، وتـدهور الشخصية والتهرب من المسؤولية وعدم الثقة بالنفس وبالآخرين. أما على الصعيد الاجتماعي، فنجد خللا في الحياة الزوجية، وانتشار الطلاق بين المدمنين، والتفكك الأسري، واضطراب بنية العائلة مع كثرة التعرض للمشكلات المادية والعاطفية والدراسية والاجتماعية، إلى جانب اضطراب التوازن الاجتماعي، حيث يعتاد المدمن على تأجيل مواجهـة الواقع أو المشاكل المحيطة به والهروب منها وبالتالي يتعزز لديهم السلوك الانسحابي وتضعف إمكاناتهم وقدراتهم النفسية اللازمة للعيـش باتزان مقبول في المجتمع. كما يحدث اختلال العلاقات الاجتماعية، وانتشار السلوكيات التي تتنافى والأعراف الاجتماعية، واختلال العلاقة بالآخرين وضعف الالتزام بالضوابط والأعراف الاجتماعية والميل إلى التمرد على القيم الاجتماعية. أما على الجانب الاقتصادي، فنلاحظ الإقلال من كفاءة العمل، ووجود مشاكل العمل، والغياب، وعدم الانضباط، والوقوع في مشاكل قانونية، ومن ثم البطالة وفقدان العمل والتأثير السلبي على الإنتاجية، والتسبب في خسائر مادية بسبب كثرة الحوادث وقلة الالتزام وعدم الشعور بالمسؤولية، أما علاقة الإدمان بالجانب الأمني، فإن ذلك يتمثل في التأثير السلبي على الحالة النفسية للفرد لمساهمته المباشرة في تغيير شخصية البعض، وتقليل قدراتهم على التحمل والتكيف فإن الحالة هذه ستكون بطبيعتها الأرضية المحتملة لبعض الخروقات الأمنية والدافع المباشر، أو غير المباشر، لعدد من الجرائم المرتكبة ذات التأثير السلبي على استقرار المجتمع وأمنه ذي الصلة بالأشخاص، أو المعلومات، أو المعدات، أوالمنشآت، حتى أصبح الإدمان ثغرة أمنية ينظر إليها من حيث الصلة بين الجريمة وتناول المخدرات، وفي إطارها تؤكد الدراسات أن المخدرات مسؤولة عن تحفيز الميل لارتكاب الجريمة الموجود أصلا في التكوين النفسي لبعض الأفراد، وعندها يصبح تناول كمية منها كافيا لدفعه ـ أي من لديه ميول ذات طبيعة إجرامية في الأصل ـ باتجاه ارتكاب جريمة معينة خاصة لمن اعتاد العنف، ذلك أنها - أي المخدرات – تضعف من القدرة على الإدراك ومن السيطرة على الإرادة بالمستوى الذي لا يستطيع فيه المدمن كبح دوافعه الإجرامية، وأنها بنفس الوقت تبدد الخوف من العقاب، وبالمحصلة يمكن القول إنها تغـلب عقد العزم على ارتكاب الجريمة على الدفاعات المانعة منها. وإذا ما أضفنا إلى ذلك جرائم وحوادث الطرق فإن الصورة تكون “أكثر ضبابية” لأن المخدرات تقلل القدرة على الرؤية الواضحة، والانتباه اللازم للقيادة، والقوة العضلية اللازمة للأداء الحركي في الوقت المناسب، إضافة إلى الثقة المفرطة بالنفس إلى حد المغالاة في أحيان كثيرة”. رؤية جديدة يوجز الدكتور الغافري رؤيته في تناول ظاهرة “تعاطي المخدرات والإدمان عليها”، ويقول: هُناك اتجاهات علمية جديدة لعلاج الإدمان تستند بالضرورة إلى كونه “مرضاً مزمناً”، ونحن لا زلنا نُعاني النظرة المجتمعية التي تحقر وتدين الإدمان، وبداية الطريق الصحيح لاستيعاب المشكلة لا بد أن تبدأ بتغيير النظرة المجتمعية لمدمني المخدرات، وإذا كانت الاستراتيجية الوطنية لمكافحة المخدرات تعتمد “تقليل العرض وخفض الطلب”، فإن خفض الطلب هُنا يعني تكثيف الجهود الوقائية لحماية المراهقين والشباب، وآن الأوان للتعامل مع مرض الإدمان وفق مفاهيم علمية وموضوعية حديثة واتباع مناهج علاجية شاملة تتعامل مع تداعيات الإدمان على صعيد الفرد والأسرة والمجتمع، ويهمني هُنا أن أشدد على كل من لديه مشكلة مع المخدرات والإدمان عليها أن يسارع بعدم التردد في مراجعة مركز التأهيل الطبي دون خوف أو خجل أو تسويف، لأنه كما تقدّم يستحيل أن يعتمد على نفسه في العلاج، وليتقين جيداً أنه في حاجة ماسة إلى المساعدة والعون لتجاوز محنته، فالمركز أبوابه مشرعة على مدار الساعة لاستقبال الحالات المرضية. وعلى جميع أفراد الأسرة أو أصدقاء الشخص المتورط في الإدمان أن يساعدوه على ذلك، فقد مضى الزمن الذي ندفن فيه رؤوسنا في الرمال لعدم مواجهة المشكلة،
المصدر: أبوظبي
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©