الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

جذّاب ولكن كذّاب

جذّاب ولكن كذّاب
21 ابريل 2011 20:23
نورا محمد (القاهرة) - خطيبي شاب جذاب لا تفارق الابتسامة محياه، لم أره أبداً عابساً، ولا تعرف التكشيرة طريقها إليه، متفائل يرى الحياة وردية، وهذه الصفات ألقت بظلالها على علاقتنا فجعلتني احبه وأتعلق به، وانتظر لقاءه على أحر من الجمر، إذ قل أو ندر في هذا الزمان أن تجد شخصاً بهذه المواصفات فكلما نظرت حولي أينما كنت وجدت وجوهاً جامدة، تعلوها التعاريج وعنوانها اليأس والبؤس، لكن خطيبي كان بخلاف الجميع. أما عن حديثه فإن لديه ملكة جذب الانتباه لأنه يجيد فن تسلسل الرواية أو الواقعة، مع حشدها بالمقبلات، يعرف كيف يحبك العبارات، ويختار الكلمات، قادر على تقديم موسيقى تصويرية مصاحبة للأحداث، لا أبالغ إذا قلت إنه يستطيع أن يتحكم في سرعة ضربات قلبي وأنا أتابعه، وإذا توقف عن الكلام فعن عمد لمزيد من التشويق والتحفيز أشارات أصابعه، وحركات يديه وحاجبيه ووجهه كلها دلالات. يجعلني في نفس اللحظة أتابعها جميعا من دون أن أتشتت حتى في صمته يوحي اليَّ بأن ذلك جزء من الحدث استطيع فهمه، أو يجعلني اقفز أنا فوق الأحداث وأشارك فيها بخيالي واستنتاجي، وأتوقع ما بعدها، وكان ذكيا في ذلك، لأنه يريد أن يجعلني جزءا منها أو شريكة فيها أو مساهمة في صناعتها وذلك بالطبع يشعرني بقيمتي وشخصيتي لأنني لست مجرد متلقية أسمع فقط. أصبحت أمامه مثل الطفلة التي تنظر حدوتة قبل النوم من أمها أو جدتها، أتعجل لقاءه فهو رغم انه حاصل على مؤهل تعليمي متوسط مثلي فإنه يبدو على درجة عالية جداً من الثقافة والاطلاع، لديه معلومات غزيرة عن كل شيء يمكنه أن يحول الأحداث اليومية المعتادة التي يعيشها أي إنسان إلى قصة ووقائع يقدمها منظمة مهمة لا تمل سماعها حتى لو كنت شاهداً عليها، ورأيتها بأم عينيك. لا أقول ذلك من قبيل حبي له، بل أن ذلك هو الذي جعلني أحبه، فانا لا أعرفه من قبل وإن تعارفنا تم عن طريق الأقارب، ولقد نال بأسلوبه هذا إعجاب جميع أفراد أسرتي الذين منحهم ألقابا من عنده جعلته يأسر قلوبهم ويستحوذ على محبتهم واقتناعهم به فتحول إلى واحد من الأسرة كثيراً ما يتناول معنا الطعام ويقضي سهراته بيننا فهو على سبيل المثال عندما يحضر أبي من داخل الشقة يهب واقفاً وينادي بأعلى صوته وهو يؤدي التحية مثل العسكريين ويقول «جلالة الملك المعظم.. حضر» وكذلك عندما تأتي أمي ينبه بصوت عال «جلالة الملكة» أما أنا إذا جئت فإنه ينحني مردداً «أميرتي أهلا بك» وهكذا منحنا جميعا وبعض أقاربنا ألقابا أسطورية خيالية، نتوهم أنها حقيقية مع خفة دمه وجديته في التعامل معها أو ترديدها وحتى تكرارها. أما الوقائع التي كان يرويها لي فقد كنت آخذها على محمل الجد، حتى وإن تخللها بعض المبالغة، ولم يتسرب الشك إلى نفسي مرة فيها، ولاحظت أن لديه ذاكرة حديدية، فرغم أنه تجاوز الخامسة والعشرين فإنه يستطيع أن يتذكر كل أحداث طفولته المبكرة وحتى الآن إذ انه اخبرني انه عندما كان في الثالثة من عمره ولدت أمه أخاه الأصغر منه مباشرة، وقد كان شديد الغيرة منه ويكرهه ويحقد عليه في ذلك الوقت لأنه استحوذ على اهتمام أمه وأبيه، فكان يتفنن في كيفية التخلص منه فقام ذات مرة بسحبه من قدميه واسقطه على الأرض فارتطم رأسه بالأرض مما افقده الوعي، ثم قام بدفعه تحت السرير واسدل الملاءة حتى لا يراه أحد، وبعدما انتهت أمه من أعمالها المنزلية وتوجهت لإرضاع أخيه لم تجده فوق السرير، فأنخلع قلبها وراحت تبحث عنه في كل مكان، فلم تعثر له على أثر، صرخت وهرولت هنا وهناك وهرعت إلى باب الشقة فربما يكون دخل لص وسرقه، لكن وجدت الباب مغلقاً من الداخل كما أوصدته بيديها وبما يؤكد أنه لم يدخل أحد عليها نظرت في الشارع فقد ذهب خيالها بعيدا رغم أنه في شهره السادس قد يكون قفز من النافذة وضاقت بها السبل ولم تعثر على رضيعها، فاتصلت بزوجها في عمله، وجاء بسرعة فهو يعمل في مكان قريب من المنزل، وبحث مع أمي حتى في الأدراج وفي خزانة الملابس إلى أن أفاق الصغير وبدأ البكاء فعرفا مكانه وقاما بإخراجه، واعتقدا أنه تدحرج من تلقاء نفسه ونام بينما أنا الوحيد الذي يعرف الحقيقة، وكنت سعيداً وأنا أراهما يبحثان عنه بلا جدوى، وتمنيت لحظتها ألا يعثرا عليه، وقد شعرت بالخوف ولم استطع البوح أو الاعتراف، إلا بعد أن كبرنا وتأكدت أن أبي وأمي لن يعاقباني وان أخي سيسامحني على فعلتي وهو الآن احب الناس إلى نفسي، وأخي وصديقي وكلما ذكرته بهذا الموقف يلقي بنفسه على الأرض مثل الميت ويقول لقد قتلتني ثم ننخرط في الضحك. أما عندما كان في الخامسة من عمره فيقول خطيبي: إنه توجه مع أبيه وأمه وأخيه لزيارة جده وجدته ويعرف أنهم سيعودون في المساء إلى مسكنهم وهو يريد أن يقضي الليلة هناك وفشل في إقناع أبيه وأمه ليوافقا على بيتهم فلاحت له فكرة بسيطة إذ أخفى أحذية أبيه وأمه وسط سلة القمامة وعندما تهيؤا للرحيل بحثوا عنها فلم يجدوها حتى اتهموا العفاريت بسرقتها. ولم يكن أمامهم بديل غير المبيت، وقضيت ليلتي سعيداً، بينما الجميع من الكبار يضربون أخماساً في أسداس ويقلبون أكفهم وهم لا يجدون تفسيراً لاختفاء الأحذية، إلى أن جاء الصباح وقامت أمي بإخراج سلة القمامة لإلقائها بعيداً عن المنزل فعثرت عليها وعلموا أنني وراء هذه الفعلة فلم يعاقبوني بل عبروا عن إعجابهم بذكائي وحيلتي الرائعة التي نجحت في تحقيق رغبتي لكن صارت فيما بعد من النوادر إذ فقد أي واحد من عائلتنا أو أقاربنا أي شيء مهما كان فإنهم يتوجهون في البداية إلى القمامة للبحث عنه. ويقول خطيبي: اصطحبني أبي أنا وأمي وأخي لنزهة مائية وبينما كنا نستقل قارباً طلبت من أبي النزول في الماء للسباحة فأخبرني أنني لابد أن أتعلم فن العوم أولا حتى لا أغرق ولم اقتنع بهذا الكلام خاصة وأنا أرى الطيور الصغيرة فوق سطح الماء تسير وتطير وتلعب ولا تغرق فأنا مثلها يمكن أن أفعل ذلك بسهولة وكررت الطلب فجاءتني نفس الإجابة، وما كان مني إلا أن وقفت على حافة القارب ونطقت بالشهادتين وألقيت بنفسي في الماء فغصت فيه مثل قطعة الحديد، ولا أعرف كيف تم إخراجي بعد ذلك. لكن اليوم الذي لا ينساه خطيبي وكان مشهوداً في حياته -على حد قوله وتعبيره- إنه عندما كان عائدا ذات يوم من المدرسة، وبينما يعبر قضبان السكك الحديدية فإذا به يفاجأ بالقطار يكاد يصدمه، ولم يتمكن من العبور، فما كان منه إلا أن ألقى بنفسه بين القضبان فمر القطار من فوقه دون أن يصاب بأذى بل انه كان منشغلا في تلك اللحظات وهو يعد العربات التي تمر فوقه وبعدها كان في حالة بين الوعي واللاوعي وقام المارة بإفاقته وعاد إلى المنزل وعندما أخبر أمه بما حدث ولاحظت اصفرار وجهه عادت به إلى نفس مكان الواقعة لترش الماء بالملح حتى لا يصيبه أي مكروه وتحذره من العبور من هذا المكان مرة أخرى. وكان في المدرسة من شقاوته نصيب، إذا قام بضرب المعلم في قفاه «بالنبلة» التي صنعها وعندما علم المعلم بأنه وراء هذا التصرف أمره أن يحضر ولي أمره في اليوم التالي فخاف أن يخبر أباه بالواقعة المؤسفة، وتوجه إلى أحد الباعة الذين يقفون أمام المدرسة وأخبره بما حدث وطلب منه أن يمثل دور الأب لينهي المشكلة ويعتذر للمعلم فوافق البائع إلا انه قام بصفع الصغير على وجهه فسبه وشتمه وانكشفت اللعبة كلها واضطر لإحضار والده في اليوم التالي. هذه بعض نماذج مما أتذكر من عشرات القصص المثيرة التي حكاها لي خطيبي لكن المفاجأة الكبرى أنني عندما تحدثت مع حماتي عنها أنكرتها جميعاً ونفت وقوعها من الأصل وانه لم تحدث أي واحدة منها مع ولدها، تعجبت إذ لا بد أن في الأمر خطأ، ففاتحته فضحك وروى لي قصة جديدة بطلتها أمه يتهمها فيها بالنسيان وهذه صفة تلازمها فذات مرة كانت تحمل أخي الأصغر على كتفها وتمسكني بيد وأنا أسير بجانبها في السوق فإذا بها تصرخ وتبحث عن أخي اين ذهب وتسألني عنه فضحكت وأشرت إليه انه فوق كتفها، ولم أتوقف عن التحقق من مدى صحة قوله أو قولها، ولم اهتمم أيهما الصادق فلم افترض في أحدهما الكذب وإنما مجرد اختلاف في طريقة الرواية، أو أنها فعلا لا تتذكر ما حدث. اليوم استوقفني ما حدث منه عندما عدت أنا وهو إلى بيت أبي بعد جولة على المحال والشركات بحثا عن الأثاث والمفروشات فإذا به يخبر أسرتي بما تعرضنا له من مضايقات بعض الباعة، وكيف انه لقنهم درسا قاسيا وكانوا ثلاثة أشخاص جعلهم في النهاية يرتمون على الأرض مثل الخرق البالية ونفض يديه وترك المكان لأن أحدهم حاول النظر إليَّ بشكل غير لائق. كنت اسمعه وأنا غير مصدقة، ما يقول فلم يحدث شيء مما قاله على الإطلاق، ولم ارد إحراجه أمام أسرتي واضطررت آسفة للتصديق على كذبه ولكن عندما اختليت به كنت غاضبة وزاد من غضبي انه لم يقدم أي مبرر لما حدث، وقضيت ليلتي استعيد حكاياته وما ذكرته أمه لي عندما نفت حدوث أي شيء مما ذكره من قبل وكان لابد أن تكون لي وقفة جادة فانا أمام وهم كبير وخداع عظيم أمام كذاب اشر، يكذب ويصدق نفسه، وعلمت بطريقتي أن كل الحكايات التي ذكرها لي بالفعل لم يحدث أي شيء منها كما قالت أمه، ربما يكون حدث بعضها مع أناس يعرفهم وليس بالطريقة التي يسرد بها الأحداث، و يحبك بها الروايات. حالة خطيبي تصل إلى حد المرض أجد نفسي غير قادرة على إتمام الزواج لكنني أحبه.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©