الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

إذا أنت لم تعشق

إذا أنت لم تعشق
10 سبتمبر 2008 23:47
للغرائز ضرورتها التي يستوي أمامها الإنسان والحيوان، ومن أعنفها غريزة حب البقاء· لكن ميزة الإنسان ونبله وكرامته تكمن في تحويل الضرورة إلى اختيار حر ونظام مجتمعي مستقرّ يتسامى بالغرائز إلى آفاق روحية راقية، وليس العشق والهوى سوى هذه الدرجات الصاعدة في معارج الروح، ومن ثمّ فهي الموضوع المفضل للفن بكل تجلياته، ومن أبرزها وأحلاها الشعر· وأعجب ما فيه أن كل مواقفه وحالاته تتميز بخصوصية غير قابلة للتكرار الحرفي المتطابق في الخبرة الحياتية أو التعبيرية، فعندما يقول ''القطّامي'' مثلاً: وأرّقني أن لا يزال يروعُني غزال أناس قاصر الطرف فاتُره له مُسَتَظلٌّ باردٌ في مُخَدَّرٍ كننٍ إذا شعبان حُمَّتْ هواجره بعينيك تنظارٌ إلى كل هودج وكل بشير الوجه حُرٌّ مسافره تراه وما تَسطيعهُ غير أنه يكون على ذي الحلم دائرٌ يخامره إذا تاق قلبي أو تتطرّبه الهوى فليست له بقي ولا الحلم زاجـره عصى كلَّ ناهٍ واستبدَّ بأمـره فما هو إلا كالعشير تؤامره فهو يصف حالة تتكرر كلما شب الشوق في قلب عاشق، لكنه يجسّد خصوصيتها بملامح مرسومة بدقة فائقة؛ فهو مغرم ''بغزال أناس'' قاصر الطرف فاتره، وقد وفّر له أهله ظلاً بارداً وكنّاً حصيناً لا سبيل لاختراقه، ثم يلتفت الخطاب ليحدث الشاعر نفسه ومخاطبه معاً بأنه يظل في مهبّ ريح الانتظار يترقب كل هودج مسافر عساه يظفر بمرأى الوجه الحر السافر، وحتى إذا رأه فليس له من حيلة في نيله، فغاية ما هناك هو التلظي بتلك الأشواق التي تصفق في الضلوع· وينبض بها قلب لا يزجره حلم ولا يأتمر بغير هواه· كل عبارة شعرية تضع لوناً مائزاً لتجربة الشاعر فى التلذذ بمعاناة الشوق دون أمل، والطرب به· وقد ينتهي بعض الشعراء من رصد أحوالهم في اكتناه سرّ الوجود إلى نتيجة يلخصون بها خبرتهم بمعنى الحياة، مثل قول الأحوص الذي شاع كل الألسنة حتى اليوم: ألا لا تلمه اليوم أن يتبلدا فقد غُلب المحزون أن يتجلدا بكيت الصِّبَا جُهدي، فمن شاء لامني ومن شاء آس في البكاء وأسعدا وما العيش إلا ما تَلَذُّ وتشتهي وإن لام فيه ذو الشنانِ وفَنّدَا إذا أنت لم تعشق ولم تدر ما الهوى فكن حجراً من يابس الصخر جلمدا وإذا كانت اللذة والشهوة تعيدنا إلى منطقة الربط بين الهوى وغريزة حب البقاء فإن العشق هو الذي يؤكد إنسانية الإنسان، ويعطي لحياته معنى· ومازلت أذكر من معارضات بعض الشعراء المتأخرين لهذا البيت البليغ قول شاعر آخر: إذا أنت لم تعشق ولم تدر ما الهوى فقم واعتلف تِبناً فأنت حمار وأحسب أننا نظلم الحمار كعهدنا دائماً بهذا التشبيه، فهو حريص على حب البقاء، يمارس الحب على طريقته، وإن يخامره التوق المحروم ليلهب روحه بالأشواق العارمة·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©