السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

أساطين الأدب الفرنسي في «كلمة»

أساطين الأدب الفرنسي في «كلمة»
29 ابريل 2014 20:28
ضمن النشاط المتجدّد لمشروع «كلمة» للترجمة في أبوظبي، تمّ استحداث سلسلة جديدة مخصّصة لترجمة نصوص مختارة من كلاسيكيّات الأدب الفرنسيّ، يقوم باختيارها والتقديم لها والإشراف على ترجمتها الأديب العراقيّ المقيم في فرنسا كاظم جهاد. في هذه المقالة يعرّف بهذه البادرة وأُولى إصداراتها. تهدف هذه السلسلة إلى سدّ ما يعتور معرفة القارئ العربيّ بالأدب الفرنسيّ الحديث من نواقص أو ثغرات. نعود فيها إلى ما لم يُترجَم إلى العربيّة من قبل من أعمال رائدة في أدب الحداثة، ونتمّم مخزون لغة الضادّ من ترجمات لبعض أساطين الأدب الفرنسيّ ممّن لا يعرفهم القرّاء إلاّ عبر نصوص معدودة. ونظراً للدور الكبير الذي اضطلع به الكتّاب الفرنسيّون في ما قبل القرن العشرين في التأسيس للحداثة العالميّة في مجالَي الرواية والقصّة القصيرة، فسنقدّم للقرّاء ترجمات لروايات ومنتخبات قصصيّة رائدة لم تُتح لهم معرفتها من قبل. بيد أنّنا لن نقتصر عملنا على ميدان السّرد، بل سنقّدم منتخبات نقديّة، وقد نغني السلسلة في المستقبل بترجمات للشعر. كما توسّع السلسلة معرفة القارئ بمختلف نصوص بعض الكتّاب، فتتيح له أن يتعرّف على فلوبير الشابّ قصّاصاً، هو الذي يعرف من قبل روائيّاً، وأن يقف على قصص زولا ومقالاته النقديّة والتنظيرية بعدما عرف بعض رواياته، وأن يقرأ بالعربيّة للمرّةٍ الأولى لتيوفيل غوتييه، أحد زعماء الرومنطيقيّة الأوروبيّة، قصصاً ورحلات. باريس (الاتحاد) بإيجاز، ستمكّن هذه السلسلة الأدباء والقرّاء العرب من تحقيق معرفة أفضل لتطوّر الأدب، وخصوصاً من قراءة آثار كبرى لا خلاف على أهميّتها وبقائها. ويقوم بترجمتها فريق من ألمع المترجمين العرب وأكثرهم رسوخَ قدمٍ في هذه الممارسة الخلاّقة التي شاء مؤسّسو مشروع «كلمة» والقيّمون عليه أن يوقفوا عليها كلّ عمل هذا المركز الاستثنائيّ الذي بات يتمتّع بمكانة متقدّمة في الحراك الأدبيّ والفكريّ في دنيا العرب. في ما يلي تعريف مبتسر بكلّ واحد من الكتب الخمسة الأولى التي تصدر بمناسبة معرض الكتاب في أبوظبي هذا العام. ويجدر التنويه بأنّ كتباً أُخرى هي قيد الطبع أو قيد الترجمة، تقدّم نصوصاً قصصيّة لـ «ستندال ومارسيل بروست» وترجمات أُخرى لـ «ألكساندر دوما وتيوفيل غوتييه»، تعقبها كتابات أُخرى سيُصار إلى انتقائها وترجمتها. ألكساندر دوما، «طرديّات– نصوص في الصّيد» شغَفان عُرف بهما رائد الرواية التاريخيّة ألكساندر دوما (1802-1870) يمنحان نصوص هذا الكتاب نكهة خاصّة ومذاقاً فريداً، ألا وهما هيامه بالطّراد أو الصّيد وولعه بالمحادثة. للشغف الأوّل يكرّس الكاتب براعته العالية في الرصد والوصف، وللثاني يحشد كلّ قدراته في استعادة محاورات فذّة أو ابتكارها، بأقرب ما يمكن من الواقع، وبألصق ما يمكن بالحياة. حياة هي دوماً حبلى لديه بالمفاجئ والفريد وغير المتوقّع، وهذا كلّه يكتنف أيضاً كتاباته هذه. النصوص الخمسة المترجمة في هذا الكتاب، والتي نقدّمها بترجمة شيّقة للكاتب والمترجم المغربيّ محمّد بنعبود، اعتاد الناشرون الفرنسيّون اقتطافها من آثار للكاتب عديدة، وتقديمها في باقة واحدة، لأنّها مكرّسة جميعاً لعالم الطرائد والحيوانات البريّة. النصوص الأربعة الأولى تخصّ تجربة الصّيد بصريح العبارة، وأضيفَ إليها نصّ خامس هو صفحات مقتطفة من معجم ألكساندر دوما المطبخيّ الكبير، تتضمّن أجمل تصوّراته لطبخ الطرائد وتقريظاً متواصلاً للذائقة وللطبخ الذي يرتفع لديه إلى مصاف فنّ رفيع. في النصّ السرديّ الأوّل، «شذى شبابٍ وخريف»، يحكي لنا الكاتب رحلاته الأولى للصّيد، رحلات تلقينيّة لا في عالم الصيد وحده بل في الحياة الراشدة عموماً. يصطحبنا دوماً إلى عالم الرجال المكافح المتآخي في رحلات عجيبة يتخلّل اثنتين منها موتان مأساويّان مترابطان. وعلى ما في التجربة من إيلام، تظلّ الدعابة حاضرة هنا دوماً، كما في سائر أعمال الكاتب، هي وعرى صداقاتٍ متينة توحّد البشر، وتجمعهم حتّى بالحيوانات والأشياء. والنصّ السرديّ الثاني عنوانه «كلب صيدٍ اسكتلنديّ». فيه يرسم صورة معنويّة أو نفسانيّة لكلب شديد التحرّر، بالغ الغيرة على استقلاله، اسمه ريتشارد. النصّ السرديّ الثالث، وعنوانه «رحلة لصيد ظباء الجبل»، قصّة بليغة في معنى الرفقة الإنسانيّة في حضرة الخطر، وأمام تهديد الموت، وفي دلالات الوعد والعهد والوفاء والتضامن المبرم واللّا معْدل عنه. وفي النصّ السرديّ الرابع، «رحلة لصيد الشحرور البروفنساليّ»، يبلغ حسّ السخرية لدى دوما أقصاه، ودائماً على أساس من محبّة الرفقة والتعاضد الإنسانيّ. طائر محاط بهالة أسطوريّة يجرّ وراءه موسيقيّاً معروفاً وهاوياً للصيّد في رحلة عجيبة تُبعده عن داره ومحلّ عمله وعالمه الأليف. وإذا بالشغف يقود الإنسان أبعد من المتوقّع، والجري السّاهي وراء طائر شائق ينقلب إلى مخاطرة مديدة وإلى استغوارٍ للحياة. وأخيراً، يحمل لنا النصّ الخامس صفحات من معجمٍ للطبخ كان دوما قد عُني في سنيّه الأخيرة بوضعه، في ألف صفحة ونيّف، ونُشر بعد رحيله بثلاث سنوات، أي في 1873، بعنوان «المعجم المطبخيّ الكبير». هي صفحات تُضاف إلى أدب المائدة العالميّ، لا يكتفي فيها دوما بتقديم وصفاته المطبخيّة الأثيرة، بل يعرّف بالطرائد المكوّنة منها طبخاته، ويمعن في وصف سجاياها، هي والنباتات، ويصف بكلمات الخبير والفنّان الطعمَ الذي يمكن أن تناله لدى تحضيرها بهذه الطريقة أو تلك. وعلى العموم، يتحوّل الصيد في طرديّات ألكساندر دوما هذه إلى تأسيس للذّات، وإلى تربية وفنّ وصداقة تشتدّ أواصرها لا بين رفاق الصيد وحدهم بل كذلك بين الصيّاد وحيوانه الأليف، مرافقه في القنص ومُسعِفه. كما يترافق هذا بنظرة عطفٍ يلقيها الصيّاد الحقيقيّ على الطريدة، لا بل باحترامٍ لها شديدِ الالزام. هو ميثاق يفرض التعفّف عن إيذاء الحيوان، وعن الطمع بصيدٍ يفوق الحاجة، ودعوة إلى احترام التوازن البيئويّ، وفلسفة واضحة في الاعتدال. ألكساندر دوما، «جورج الموريسيّ، حكاية عن البرّ والبحر» هذه الرواية الضخمة، التي حظيت بترجمة مرهفة للقاصّ والباحث في الفلسفة والمترجم المغربيّ محمّد آيت حنّا، هي العمل الأدبيّ الوحيد الذي كرّسه الكاتب، المعروف بكونه خلاسيّاً أو مولَّداً (هو ابن أوّل جنرال فرنسيّ من أصل أفريقيّ)، نقول كرّسه لمعالجة موضوعات الرقّ والتمييز العنصريّ والاستعمار. تدور الأحداث في جزيرة موريس (سمّاها الفرنسيّون يومذاك «جزيرة فرنسا») في بدايات القرن التاسع عشر، أثناء الصراع الفرنسيّ- الإنجليزيّ للسيطرة على الجزيرة. عائلة من المولّدين لا تقبل القوّات الفرنسيّة بأبنائها بين صفوفها بسبب لون بشرتهم. فيشكّلون فرقة من المولّدين والسّود تهزم فرقة إنجليزية وتعود بلواء الإنجليز غنيمة ظفرٍ وعلامة افتخار. يستنكر القائد الفرنسيّ أن يكون مولَّد هو من حظي بشرف الاستيلاء على راية العدوّ، فيرسل ابنه لانتزاعها من يدَي ابن المحارب المولَّد ذاك، ألا وهو الصغير جورج. فيكرّس هذا سنيّه القادمة للردّ على الإهانة بصورة باهرة: يرحل إلى باريس ولندن لاكتساب العلوم والآداب الحديثة، ولتحقيق ثروة، ثمّ يعود إلى جزيرته الأصليّة ليجابه مقولات التمييز العنصريّ والتراتبيّة الاجتماعيّة، مخالفاً بذلك تماماً مسار أخيه البكر جاك، الذي استهوته المغامرات البحرية فاعتنق حياة القرصنة ومارس تجارة الرقّ بحقّ الزنوج في مجتمع يقمع فيه البيضُ المولّدين، ويسخّر فيه المولّدين الزنوج، وذلك بصورة حافلة بالتناقضات والغرائب يصوّرها ألكساندر دوما بكلّ دقائقها وبكلّ ذلك الولع بالتفاصيل والتعاطف الإنسانيّ المعروف عنه. إلى هذا، تتميّز الرواية بسحر أخّاذ في وصف الوقائع والمناظر والعادات. وينبغي التنويه بأنّ الكاتب سيكون حاضراً في السلسلة عبر كتاب ثالث ما برح قيد الترجمة، هو «مذكّرات هوراتيوس»، يعيد فيه ابتكار حياة الشاعر اللّاتينيّ، جاعلاً منها مرآة لعصره المضطرب، وفي الأوان ذاته مرآة لزمنه المضطرب هو نفسه. غوستاف فلوبير: «نصوص الصِّبا» يجمع هذا الكتاب، الذي يأتي في ترجمة مشرقة للكاتبة والمترجمة اللبنانية ماري طوق، باقة من النصوص المتراوحة الحجم، كتبها مؤسّس الرواية الحديثة فلوبير (1821-1880) في صباه، ونُشر أغلبها بعد وفاته. وبصورة مبكّرة يعرب الكاتب فيها عن شغفه المعروف بالأسلوب، ويثبت براعته في معالجة تجارب شديدة التنوّع، هذه البراعة التي ستأتي لترسّخها رواياته الكبرى التي تشكّل هذه النصوص الأولى مفتاحاً لفهمها وتقييمها لا غنى عنه. عُرفَ فلوبير الناضج، إذا جاز القول، بمحاور للكتابة ثلاثة يقوم أوّلها على الانثيالات الغنائيّة التي تفعم صفحاته بروح الشّعر ولغة الرّومنطيقيّين الكبار، وثانيها على معالجات واقعيّة يحرص فيها على «الغوص في الحقيقيّ أو الواقعيّ ما استطاع إلى ذلك سبيلاً» بتعبيره هو نفسه، أمّا المحور الثّالث فيقوم على التّأمّلات والشّذرات الفكريّة ينتقد ويعرّي فيها العالم والتّاريخ، لا بل الشّرط الإنسانيّ بمجمله. هذه المَحاور الثلاثة نراها حاضرة بادئ ذي بدء في نصوص صِباه هذه، التي تشكّل بمجموعها مختبراً ضخماً جرّب فيه الكاتب الحدَث مختلف الموضوعات والهواجس المُلحّة التي سينعقد حولها عمله الكبير القادم، كما جرّب أساليب شتّى تمسّك لاحقاً ببعضها وهجر البعض الآخَر. تراه هنا يمارس الحكاية الرّمزيّة والقصّة الفنتازيّة والفلسفيّة والواقعيّة، مستمدّاً موضوعاته وشخوص نصوصه من قراءاته في التّاريخ والأدب، أو من متابعة ملخّصات المرافعات في الصحف العموميّة والمنشورات القانونيّة، أو بتشريح تجربته الذّاتيّة. والحقّ فإنّ عالم فلوبير الذّاتيّ يبسط ظلّه المديد على كلّ هذه النّصوص، بما فيها القصص الأليغوريّة أو الرّمزيّة. يؤكّد شرّاح أعمال الكاتب، معتمدين على تواريخ دفاتره ومخطوطاته، أنّ فلوبير كان يمارس الكتابة الأدبيّة منذ أن تعلّم الكتابة، أي معالجة حروف الأبجديّة، صغيراً. أمّا النّصوص المترجمة في هذا الكتاب، وهي مؤرّخة كلّها، فقد كتبها بين سنّ الخامسة عشرة والعشرين. وهي لم تُنشر إلاّ بعد وفاته بعشرين عاماً، إذ ظهرت روايته القصيرة «مذكّرات مجنون» في 1900، ثمّ راحت طبعات نصوص صباه تتوالى، مغتنيةً بنصوصٍ جديدة كلّ مرّة. حتّى نُشرت آثار فلوبير الكاملة في ترتيب جديد في سلسلة لا بليياد المكرّسة لنشر الآثار الكاملة لكبار الكتّاب والشعراء، فخُصَّص جزؤها الأوّل الذي رأى النور في 2001 لأعمال الصّبا هذه. يجمع هذا الجزء منها ما مجموعه 1667 صفحة، ويضمّ قصصاً وحكايات وشذرات فكريّة ومحاولات مسرحيّة مكتملة وأخرى غير مكتملة، وكذلك صيغة أولى من رواية «التّربية العاطفيّة» التي عاد إليها فلوبير في سنوات النّضج وحوّلها إلى عملٍ عظيم. وما كان في مقدورنا بطبيعة الحال اختيار كلّ هذه النّصوص للتّرجمة، لا لضخامتها فحسب بل لأنّ العديد منها لا يهمّ سوى الباحث المختصّ أو القارئ الرّاغب في رصد تطوّر فلوبير وتنامي لغته الأدبيّة. فحصَرنا الاختيار بالنّصوص السّرديّة المكتملة، التّالية لمرحلة التّقليد والمحاكاة، وببعض الكتابات التّأمّليّة. في حياة ناسك الأدب التي اختارها فلوبير في مرحلة النضج، نقابل لديه دوماً إرادة الانصهار بالعمل الأدبيّ، يودّ فيها لو يصير جزءاً من آلة الكتابة، ما يدعوه هو نفسه «إنساناً- يراعاً». هذه الإرادة في اعتناق الكتابة وتحويلها إلى ما يشبه رهبنةً مقصودة أو عبادةً غير دينيّة نجدها أيضاً في نصوص صباه هذه. ندر أن عرف تاريخ الأدب عبقريّة تتفتّح بمثل هذا الإبكار، وممارسة للقراءة والكتابة يباشرها فتىً صغير بمثل هذا الإصرار الصّاحي في عهدٍ يكون فيه أقرانه منهمكين بَعدُ في ألعابهم الطّفوليّة أو مغامراتهم الصّبيانيّة. وهذا الحلم بالاختفاء في الكتابة والامّحاء في النصّ يخترق ويُهيكل بدايات فلوبير الأدبية، ويشحنها بطاقة مبدعة تمدّها بقيمة تتجاوز القيمة التاريخيّة المحض لتُلقي بنا في أعماق الأدب. تيوفيل غوتييه: «الميّتة العاشقة وقصص فنتازيّة أُخرى» ثمّة أدباء متعدّدو القدرات والأداءات، ينطلق إلهامهم الأدبيّ في مسارات عدّة، ويطرقون في تجاربهم الإبداعيّة أكثر من باب. كذلك هو شأن الشاعر والكاتب الفرنسيّ تيوفيل غوتييه (1811-1872). عبرَ مسيرة إبداعية دامت خمسين سنة ونيّفاً، فرض حضورَه واحداً من النوابض المحرِّكة للرومنطيقيّة ومجدّداً في النقد الفنّيّ، وشاعراً مجوِّداً وإن لم يكن غزير الإنتاج في الشّعر، وكاتباً مسرحيّاً، ورحّالة شغِوفاً بما يرى من شعوبٍ ومَشاهد. بيد أنّه فرض حضورَه على وجه التخصيص روائيّاً وقاصّاً من طبقة رفيعة، ترك بصماته الواضحة في جنس أدبيّ عسير المسالك، يسهل فيه الابتكار السطحيّ وتكثر فيه مزالق التكرار ومحاكاة الآخرين، عنيتُ الأدب الفنتازيّ. ولذا قرّرنا أن نقدّم في هذه السلسلة، في كتابٍ أوّل، تسعاً من أعمق قصص غوتييه الفنتازيّة وأكثرها انتشاراً وصموداً أمام اختبار الزمان والمسافة التاريخيّة. وفي كتاب آخر ما برح قيد الإعداد سنقدّم ترجمة رحلتيه إلى الجزائر ومصر. هكذا يقف القارئ على وجهين من وجوه إبداعه الفريد المتعدّد. القصص التسع، المترجمة ببراعة على يد الروائيّ والشاعر والمترجم التونسيّ محمّد علي اليوسفي، والتي تكاد الأخيرتان منها تشكّلان روايتين، منتقاة من إنتاج للكاتب يمتدّ على الفترة بين 1831 و1856. ليست هذه القصص – ومن هنا دعوتها بالفنتازيّة - خياليّة بالكامل كحَكايا الجنيّات مثلاً، بل هي تمزج بين الخيال والواقع، وتدع عناصر غير مرئيّة أو لم تعد تنتمي إلى عالم الأحياء تتدخّل في الواقع ثمّ تتلاشى مخلّفةً أثراً عميقاً في الكائن الذي يحدث له أن يرصد بعض تجليّاتها: امرأة تواصل عشقها في ما وراء الموت، وقدم مومياء تتدخّل في حياة ذلك الذي اشتراها من مخزنِ تحفيّاتٍ وعتائق، وحسناء مرسومة في سجّادةِ حائطٍ تلهب خيال شابّ عاشق، إلخ. شاعريّة اللّغة تُحوّل أغلب صفحات الكتاب إلى قصائد نثر، وانثيالات الخيال المتواصلة تمنح الشخوص حياة أُخرى داخلَ الحياة. إنّ عدّة مسائل جوهريّة، كمسألة الهويّة وثيمات الازدواج والقرين والشّبيه والصّنْو وانتحال الهويّة وصناعة الاستلاب تُهيكل قصص غوتييه وتمنحها عمقاً فلسفيّاً وأدبيّاً فريدين. بعض شرّاحه، من أمثال جان غودون في تقديمه المستفيض لنشرته لهذه النصوص في سلسلة «فوليو» الصادرة في منشورات غاليمار بباريس، يردّون ذلك إلى ما قد يكون غوتييه عاناه من شعور بالازوداج والانقسام، هو الذي نذر نفسه في صباه للرّسم ثمّ صار كاتباً تتناهبه أجناس أدبيّة عديدة. مهما يكن حجم المعاناة في ذلك، لا شكّ أنّ اجتياز الكاتب لها كان ظافراً ورحلته فيها ميمونة، ما دامت بعض القصائد والروايات والقصص تشهد على تعمّق وأناقة كبيرين في معالجته لهذا كلّه. -والمهمّ أيضاً، وهنا دليل آخر على أنّ غوتييه لم يكن يمارس كتابة الغرابة من أجل الغرابة، أنّ عودةً إلى الواقع دائماً ما تتوّج نصوصه. فتدرك الشخصيّة القصصيّة معضلتها، أو تموت ضحيّة وهمها القاتل فنكمل نحن القرّاء شوط التساؤل الممضّ والفهم الخلّاق. والموتى لا يفرضون علينا وجودهم إلّا بقدر ما تدوم زيارة توقفنا على الأساسيّ ويعودون بعدها إلى عالمهم الأليف، عَدَمهم الكلّيّ. ثمّة هنا شيء من عبقريّة الشعر الرثائيّ العالميّ واللّحظة الطلليّة في الشعر العربيّ القديم. من انطماسِ الأطلال وانقشاعِ الماضي تنبثق شرارة شعريّة هي علامة حياةٍ، وهِبة وجودٍ إضافيّ. يبقى أن نشير إلى بضعة أشياء وثيقة الصّلة بقراءة غوتييه وترجمته. فهذا الوريث لرائد الأدب الفنتازيّ ومعلمّه الشخصيَ المعلن، الألمانيّ هوفمان، ذهب بعيداً بإرث المعلّم وفرض عليه لا لغة الشعر وحدها، ولا تعمّق الرومنطيقيّ الثائر الذي يستنطق الواقع والغيب والدواخل الإنسانية ومنطق الكون كلّه فحسب، بل كذلك أدوات الناقد الفنّي والرّحالة الذي يزجّ بقرائه في تعدّد الثقافات وثراء المرئيّات. ثمّة جانب متبحّر أو موسوعيّ في نصوصه هذه، فيرى القارئ معه إيطاليا بثقافتها وفنونها، والهند ومصر بروحانيّاتهما ورؤية أهلهما للّغز البشريّ. وهو لا ينفكّ يملأ نصوصه بمفردات آتية من لغات عديدة يقحمها على الفرنسيّة وينشئ غرابة لغويّة توجّب الحفاظ عليها، وقد حافظ عليها مترجم الكتاب. وكان لا بدّ من وضع حواشٍ حرصَ المترجم والمُراجع على أن تكون دالّة بلا إطالة، وواضحة دون استسهال. إميل زولا، «الفيضان ومنتخبات قصصيّة أخرى» يحتوي هذا الكتاب، الذي يتلقّاه القارئ في ترجمة دقيقة وأنيقة للشاعرة اللبنانية دانيال صالح، منتخبات قصصية لرائد المدرسة الطبيعيّة في الرواية، الفرنسيّ إميل زولا، مقتطفة من مختلف مجموعاته القصصية. تشكّل هذه القصص مختبراً حيّاً للتجارب التي يتوسّع زولا في معالجتها في إنتاجه الروائيّ الضخم، مفيداً، هنا، من وجازة الحكاية والقصّة لتشكيل لوحات حيّة تندرج ضمن معايناته لمظاهر البؤس في عصره، خصوصاً في العاصمة الفرنسيّة، التي رصد فيها صعود الرأسماليّة المتدرّج وولادة حضارة الإعلان والاتّجار بالصورة والتلاعب برغبات المواطنين الذين بدأوا يتحوّلون إلى مستهلكين لا غير. بيد أنّه لا ينسى مباهج الريف، ولا الجنوب الفرنسيّ الذي ولد فيه ونشأ وأحبّ. هكذا يخاطب في النصوص القصيرة الأولى من هذا الكتاب صديقة صباه نينون، فيعيد رسم أجواء حبّهما الأولى بأسلوب تصويريّ بارع وبلغة فردوسيّة ملهمة. كما لا ينسى مآسي الريف، فيرسم في قصته «الفيضان»، التي اخترنا اسمها عنواناً للكتاب كلّه، مأساة الطبيعة تجرف البيوت وتطمر أبناءها تحت السيل، وهذا كلّه يصفه بأسلوب ملحميّ وتصوير لمّاح جعلا منه أحد روّاد القصّة الحديثة. وقد يفاجئ هذا السّفْر الضخم قارئ العربية مثلما فاجأ من قبلُ قارئ الفرنسية لدى صدور نصوص زولا السرديّة الوجيزة في مجلّد يغطّي 1625 صفحة صدر عامَ 1976 في سلسلة لابليياد. فكما كان الأمر بالنسبة لقرّائه المعاصرين بلغته الأصليّة، يكاد القارئ العربيّ لا يعرف سوى زولا صاحب الرّوايات الضخمة، المولع باللّوحات الوصفيّة العريضة، والرّاصد تحوّلات أجيال متعاقبة، على حين يقبع في الظلّ نوعاً ما زولا الناقد المجدِّد والمنظّر الأساس للمدرسة الطبيعيّة، وكذلك زولا البارع في كتابة النصوص السرديّة القصيرة. للتعريف بوجهَي زولا الإبداعيّين شبه المجهولين هذين، قرّرنا في هذه السلسلة أن نخصّ كتاباته النقديّة بمجلّدٍ يصدر عمّا قريب، وحكاياته وقصصه بمجلّد آخر هو هذا. وإليهما نضيف مجلّداً ثالثاً ما برح قيد الترجمة يضمّ ترجمة النصّ الكامل لرواية زولا الشهيرة «جَوْف باريس». الحكايات والقصص المجتمعة هنا تنقسم على مرحلتين يمثّلهما قسْما هذا الكتاب. تمتدّ المرحلة الأولى على الأعوام (1864-1874)، والثانية على الأعوام (1875-1899). في هذه النصوص يعرب زولا، هو المتّهم ظلماً في رواياته بالرّتابة، عن تنوّع كبير في التعبير عن مظاهر الحداثة الأليمة المشار إليها أعلاه، والتي جعل جزءاً من رسالته ككاتب يتمثّل في رصدها وتعريتها. بيد أنّ فسحة النّور التي كان يهمّ زولا أن يُحلّها دوماً في أعماله، تجعلنا نلاحظ عودة ثيماته الرئيسة، من مديح العطاء الصادق، غير المحدود وغير المشروط، كما في قصّـته الفنتازيّة «أخت الفقراء»، ومديح الخصب والأمومة، كما في قصّة «آنجيلين» التي يوجّه فيها وجهةً جديدةً ثيمة «البيت المسكون» المطروقة قبله مراراً وتكراراً، إلى مديح القوّة الفاعلة والجهد المستأنف دون انقطاع، كما في «الحدّاد»، فتشريح النزعة الإراديّة والإبانة عن حدودها وتراجيديّتها الضمنيّة، كما في «نانتاس». ينبغي الإشارة أخيراً إلى ما يربط هذه النصوص من عرى وثيقة بأعمال زولا الروائيّة. لا بل تشكّل بعض القصص اختباراً أو جسّاً أوّل لتجارب يعالجها في روايات كان يكتبها بالتزامن معها أو في فترة لاحقة، وقد تزجّها الرواية في منظور آخر أو تدمغها بفوارق ملحوظة. وهذا كلّه تشير إليه، بصورة وافية، على وجازتها، الحواشي التي استندت فيها مترجمة الكتاب إلى نشرة فرانسوا - ماري موراد لقصص زولا وحكاياته، الصادرة في منشورات «فلاماريون» الفرنسيّة. كما أنّ لهذه الحواشي الفضل في توضيح نشأة كلّ نصّ والتنويه بطبعاته المتوالية وصيَغه المتعاقبة أو تنويعاته.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©