الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

لماذا المتنبي؟

لماذا المتنبي؟
29 ابريل 2014 20:24
علي بن تميم بات معرض أبو ظبي الدولي للكتاب ظاهرة اجتماعية. تهدف هذه الظاهرة، بالأساس، إلى استقطاب أكبر عدد ممكن من الزوار من كافة الشرائح الاجتماعية ووضعهم أمام سياقات جديدة على الصعيدَيْن: القراءة، وما قد استجدّ في صناعة الكتاب. أي، أن من بين ما ترمي إليه هذه الظاهرة أن تكون دور النشر مستهدفة من قبل تلك الشرائح الاجتماعية، بحيث يصل القارئ إلى ما يريد من عناوين، ويتعرف في الوقت نفسه على التحديات والصعوبات التي يواجهها قطاع التوزيع والنشر. وحيث غالبا ما تكون النخب القارئة قليلة، مثلما هي الحال في أي دولة في العالم، فلنتأمل قليلا فكرة حضور هذا الطيف الواسع من القرّاء ثم نتساءل: أليس اختيار شاعر، من طراز أبي الطيب المتنبي، يبدأ منه التأسيس لتقليد جديد فيكون هو “المحور الثقافي الرئيسي” لدورة هذا العام أمرٌ يستجيب لمعرفة الزوّار المسبقة بهذه الشخصية؟ أيضا يستهدف هذا الاختيار إعادة هذه الشخصية إلى الجدل الثقافي حولها بكل ما تحمله من إشكاليات أو حتى تناقضات، بالتالي، أن تبدأ منها وبها، هو بالنسبة لـ “القارئ- الزائر” لمعرض الكتاب أفضل من سواه من الشخصيات الكلاسيكية العربية. أضف إلى ذلك أن هناك قطاعا من جمهور القرّاء العاديين لم يتعرف من قبل على هذه الشخصية وهو بحاجة إلى التعرف عليها أو إعادة اكتشافها. إنه شاعر أولا، وما زال للشعر متابعين كثيرين بين القرّاء، ثم هو شخصية إشكالية تثير جدلا ثقافيا حولها، فضلا عن أنها شخصية قوية الحضور في التاريخ الثقافي العربي ولا زالت كذلك. سيحضر المتنبي إلى قاعات النقاش في معرض الكتاب من اللغات الأخرى أيضا؛ من الإنجليزية والفرنسية والروسية والإسبانية وغيرها بهدف قراءة جوانب أخرى غير معهودة، ربما، في شخصية المتنبي بالنسبة إلينا. الشاعر المختلف أما الموقف من المتنبي في الدرس النقدي العربي الحديث، فقد تأسس على أمرين: الأول منهما يتمثل في أن أغلب شعره وأبرزه قد ذهب في المديح، أما الأخير فيمكن اختصاره بسعيه المحموم إلى السلطة، بل أن يكون حاكما أو واليا أو سواها من المسميات، ولا ندري تماما ما الذي كان سيفعله الرجل في شعره وفي الناس وتاريخهما لو أنه بلغ مأربه هذا. في حقيقة الأمر، نحن بإزاء شخصية تخصّ شاعرا مختلفا عن سواه من الشعراء. دون أن يعني ذلك أنه لم يكن، في الوقت نفسه، يعبّر عن ذاته وعن حالة مستمرة كان الرجل يعايشها يوميا، وهي نزوع الشعراء إلى المديح واستمالة الممدوح والفوز بإعجابه لمآرب بعينها سواء صغُرَت أم كبرت. أليس بيننا العديد من المثقفين الساعين، عبر المديح، إلى السلطة؟ أليس في هذا الأمر تعبير عن حالة راهنة؟ غير أن مديح المتنبي هو “مديح الشجاعة”، مديح من ذلك النوع الذي لا يبخس صاحبُه قدْرَ ذات الشاعر مثلما هي الحال مع شعراء آخرين جايلوا المتنبي أو سبقوه أو لحقوا به لكنهم لم يُدركوا ما بلغ، شعرا وقَدْرا. فالمتنبي في أقصى درجات مديحه علوا وغلوا لم يكن يتنكر لذاته وفخره بها ولإحساسه بفرديته، إذ لم يكن يتنازل عن ألمه وانكساره: “أبداً أقطع البلادَ ونجمي في نحوسٍ وهمتي في صعودِ” إن قَدَر هذه الشخصية العظيمة جدا أن تكون إشكالية جدا أيضا. هذا هو قَدَر الشعراء العظماء من أمثال المتنبي. لنتأمل قليلا هنا في الحال التي عليها شكسبير في الدراسات النقدية ما بعد الكولونيالية أو النسوية وسواهما من تيارات الحداثة النقدية وما بعدها في الغرب. لكنْ، بالمقابل وبالرغم من كل الإشكاليات المحيطة بهذه الشخصية وظروفها الاجتماعية وشرطها التاريخي، فإن النص الذي أنتجته هو نصٌ “يُعتمد” لاميتاز النص وتفرّده في ذاته ولامتياز عبقرية صاحبه. إذ إنه النموذج الشعري الذي خلق آفاقا أخرى. ولست على ثقة بأن وصفه مدّاحا كبيرا أمرٌ من الممكن أنْ يُطمئَّن إليه لأن إمعان النظر في معاني شعره قد تفضي إلى ما هو نقيض لهذا التوصيف وكذلك إدراك مراميه وإعادة قراءته غير مرة. أما الموقف من السلطة سعيا إليها، فأغلب الظن أن ممالأته إياها ورفضه لها، فهما، في آن معا، مسألة قراءة فردية للظروف التاريخية التي عاش أحداثها. فربما أصاب في ذلك وربما أخطأ. لكن في الأحوال كلها من غير الممكن اختصار المتنبي في هذه الثنائية: المديح – السلطة، فشعر هذا الرجل ظلّ حتى الآن أكبر منها بطرفيها، فلم تعرف الناس ممدوحيه إلا من خلال ما كتب فيهم من مديح: ثناءً أو هجاء. وفي سياق المديح، فقد أصّل المتنبي لاتجاه شعري في المديح داخل الشعرية العربية الأصيلة. ليس الممدوح في شعر المتنبي ممدوحا فحسب بل كان صديقا أيضا. كان مديحه يستهدف صديقا حاكما وفارسا ومحاربا. فإن دخلنا إلى مناقشة فكرة المديح في شعر المتنبي من هذا الباب، فلا بدّ أن تغيّر الصداقة وجهة نظرنا تجاه مديحه. ولو قرأ المرء مدائح المتنبي فسيجد فيها ذكرا لأسلافه وفخرا بهم، وعائلته الصغيرة: “لا بقومي شرفت بل شرفوا بي وبنفسي فخرت لا بجدودي وبهم فخر كل من نطق الضـاد وعوذ الجاني وغوث الطريد” المتنبي والكتاب الذين قرأوا المتنبي جيدا أدركوا صلته المبكرة بالقراءة والكتاب، والإشارة هنا ليست لبيته الشهير: “أَعَزُّ مَكانٍ في الدُنى سَرجُ سابِحٍ / وَخَيرُ جَليسٍ في الزَمانِ كِتابُ”، وحده، بل أيضا يمكن للقارئ أن يتلمس تقاليد الشاعر العربي القديم في منجزه الشعري، فاستفاد جيدا منها اقترابا أو ابتعادا، يدرك المرء في بعض التفاصيل الشعرية أن هناك صلة قرابة تربط بين شعر المتنبي وبين الشعر الجاهلي، حيث بالطبع من غير الممكن لذلك أن يحدث إلا إذا كان هذا الشاعر قارئا بالفعل، وقد كان كذلك: “طَوَى الجَزِيرَةَ حتى جاءَني خَبَرٌ فَزِعْتُ فيهِ بآمالي إلى الكَذِبِ حتى إذا لم يَدَعْ لي صِدْقُهُ أمَلاً شَرِقْتُ بالدّمعِ حتى كادَ يشرَقُ بي تَعَثّرَتْ بهِ في الأفْوَاهِ ألْسُنُهَا وَالبُرْدُ في الطُّرْقِ وَالأقلامُ في الكتبِ” ثمة حضور ما للنص الشعري العربي القديم؛ هو حضور مخاتل ويكاد يبين، إنما نتلمسه مثلما تلمس الأعمى (صاحب معجز أحمد) حروف المتنبي، كذلك فإن هناك حضورا ما للكتاب بوصفه فعل تدوين وكتابة مثلما بوصفه فعل قراءة أيضا وخبرة فردية وأكيدة في ذلك، إذ أن تعثّر الأقلام في الكتب صورة لا يمكن أن تخطر على بال أحد لم يمارس تدوين شعره، أي أنها صورة شعرية هي نتاج خبرة كتابة وليست خبرة شفوية. نتذكر جميعا تفاصيل تلك القصة التي تُروى عنه عندما كان فتى ومرّ بأحد وراقي بغداد فأطال النظر في أحد المخطوطات، فطلب إليه الوراق أن يشتريه أو يمضي، ولما لم يكن يملك مالا اقترح على الورّاق أن يتلوه على مسامعه عن ظهر قلب، فلما فعل أصبح المخطوط له. ينطوي شعر المتنبي على الكثير من الإشارات إلى الكتاب وفعل القراءة. وسبب آخر لاختيار المتنبي محورا لهذا العام يأتي من جانب أنه أدرك أن للكتاب معنى مثلما للقراءة، بالتالي أنت تقدم نموذجا لمثقف عربي كان يحرص على الكتاب في زمن لم تكن البشرية قد اخترعت الكتاب بعد. بعد هذا كله فإن لـ “مالئ الدنيا وشاغل الناس” أن يُحتفى به في إحدى دورات معرض أبو ظبي الدولي للكتاب في سياق تأسيسه لتقليد يحتفي بمنجز مهم وملحوظ في الثقافة العربية عبر تاريخها الطويل ومن خلال شخصية من شخصياتها سواء أكانت إشكالية أم لا. ومن حق هذا الشاعر أن نقدم أشعاره مغناة في ليلة افتتاح المعرض في الحفل الاستعراضي “المتنبي، مسافرًا أبدًا” الذي تقوده المغنية عبير نعمة، وأخرجه جهاد الأندري، ويطوف بصاحبنا عبر العراق وبادية الشام وحلب ولبنان ومصر، وينتهي العمل بمشهد عالمي يُغنى فيه شعر المتنبي بلغات عالمية، من بينها الإنجليزية والفرنسية والألمانية، ليكون بذلك احتفاء عالمياً بالمتنبي، شاعراً عربياً يخرج من هنا إلى العالم. يبقى أمر أخير، بالنسبة لاختيار المتنبي محورا ثقافيا أساسيا لهذا العام. فالدولة ضيف الشرف لهذا العام هي السويد، وبالتالي يشهد المعرض في برنامجه الثقافي فعاليات ثقافية سويدية بالإضافة إلى الجناح الخاص بضيف الشرف، ما يعني أن المعرض يحلّق بجناحين: العربي ممثلا بالمتنبي، وآخر عالمي تمثله الثقافة السويدية لهذا العام. إنه معرض “مالئ الدنيا وشاغل الناس” بامتياز؛ معرض المتنبي الذي وصف حال التأليف والكتابة بشكل عام وبكل مستوياتهما، وهو أيضا شعار؛ وهذا الشعار: “مالئ الدنيا وشاغل الناس” يصف حال الكتاب في المنطقة العربية بمعزل عن المتنبي مثلما بحضوره أيضا. إحياء لسيرة زايد كان الشيخ زايد- رحمه الله- هو الذي قام بالتوجيه لإقامة معرض أبوظبي للكتاب، وهو الذي افتتح دورته الأولى، وقد لا يعرف الكثيرون أن الشيخ زايد كان أحد الشعراء المعجبين بأبي الطيب المتنبي، ورأى فيه واحداً من الأمثلة الشعرية المضيئة في تاريخ الشعر العربي، وإننا إذ نختار هذا الشاعر الكبير ليكون محوراً ثقافياً لدورة العام هذه، إنما نحن نحيي جانباً من السيرة العطرة للشيخ زايد، هو الذي كان حافظاً للكثير من أبياته.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©