الثلاثاء 23 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

«المتنبي.. مسافراً أبداً».. الشعر مموسقاً

«المتنبي.. مسافراً أبداً».. الشعر مموسقاً
29 ابريل 2014 20:31
خلال مسيرتها الاحترافية، التي لم تتجاوز عشر سنوات، لم تكتف عبير نعمة بالقبض على ناصية الطرب الكلاسيكي بلونيه العربي والغربي باقتدار، والتحليق عالياً بفضاء الغناء الأوبرالي والكورالي، المعزز بالإنشاد الصوفي والترانيم الكنسية، استناداً إلى معرفة أكاديمية حصلت عليها من خلال دبلوم في الغناء الشرقي والموسيقى العربية بتقدير امتياز مع درجة الشرف، وماجستير في العلوم الموسيقية من جامعة الكسليك في بيروت، وإنما راحت نعمة تجوب العالم بحثاً عن الجديد والمميز في موسيقى الشعوب، ومحاكاتها واستقرائها تلحيناً وغناءً، حيث زارت العديد من بلدان العالم، لإنجاز موسوعتها الموسيقية «إثنوفوليا»، ما يجعلها من طراز الرحالة والمستكشفين الأوروبيين الأوائل، الشغوفين بسبر أغوار الثقافات الإنسانية والدراسات الأنثروبولوجية لأغراض مختلفة. في حين يقتصر هدف الرحالة الموسيقية عبير نعمة على تقصي أثر النغم والتماهي مع اللحن والاندماج بأبعاده الجمالية والفلسفية، لاستخلاص الروح الإنسانية الخالصة في موسيقات الشعوب، المتناغمة مع جذورها الشرقية العربية الأصيلة، كونها ترد من منهل واحد، هو الإنسان، في رسالة ثقافية واضحة لا لبس فيها، هي تعزيز ثقافة التسامح والمحبة والسلام. سيرة الباحثة الموسيقية الرحالة عبير نعمة، الموسومة بثقافة الانفتاح على الآخر من بوابة الموسيقى، تتناغم إلى حد ما، مع شخصية أبو الطيب المتنبي كبير الشعراء العرب، المترحلة أبداً، المهجوسة بقلق البحث عن يقين مفقود، هي التي أهلتها لإعداد وتقديم افتتاحية «معرض أبوظبي الدولي للكتاب» الموسيقية والغنائية في دورته الرابعة والعشرين، المخصصة لأول مرة عن شخصية المتنبي، التي تنطلق في 30 نيسان (أبريل) الجاري. «الاتحاد الثقافي» التقى الفنانة عبير نعمة وأجرى معها الحوار التالي: الاستثناء والمغايرة ? أبو الطيب المتنبي، «مالئ الدنيا وشاغل الناس» منذ ألف عام ونيف. فما الجديد الذي ستضيفينه على شعر أو سيرة المتنبي، من خلال أعمالك الغنائية الثلاثة، التي ستقدمينها في افتتاح «معرض أبوظبي الدولي للكتاب» تحت عنوان «المتنبي.. مسافراً أبداً»؟ ?? موسيقياً قد تأخذنا أعمال المتنبي إلى أبعاد جديدة غير مطروقة من قبل، كما هو شأن شعره، الذي تتلاطم به الرؤى الفلسفية والمحمولات المعرفية، المشحونة بالإيقاعات الموسيقية والصور الدلالية والرمزية، في اشتباك مستمر، بل مهجوس بالطموحات والأحلام الإنسانية المضطرمة، الساعية للبحث عن الذات، في فضاءات فردية، ومناخات تعبيرية وجمالية أخاذة، تكتسب قوة دهشتها الشعرية من راهنية شرعيتها الإنسانية كفكرة، كما تكتسب راهنية شرعيتها الشعرية من نُدرتها، كعبقرية لا نظير لها في البيان والبلاغة اللغوية، المطرزة بسحر الصورة وتوليفة البناء الهارموني الفذ. كون فكرة البحث عن الذات هي ديدن الإنسان على مَرِّ العصور وكَرِّ الدهور، وكون الشعر هو روح الشاعر، الذي يشعر بما لا يشعر به سواه. والمتنبي بهذا المعنى ليس حالة شاذة كما تصوره بعض الدراسات، رغم كل ما يمكن أن يؤخذ على مواقفه أو يُسجل على سلوكه الشخصي، وإنما شأنه شأن الآخرين في بحثه المستميت عن ذاته، ولكن شخصيته الاستثنائية، وفكره المتمايز سواء عن أبناء جيله، أو عن الأجيال اللاحقة على المستوى الإنساني عموماً، يجعله مغايراً للمألوف في كل مكان أو زمان. ? هل يمكن للفنانة عبير نعمة أن تحدد بدقة، طبيعة الإضاءة الموسيقية الجديدة، الكامنة بشعر المتنبي أو بمسيرته الإنسانية؟ ?? الإضاءة الموسيقية الجديدة، التي أظن أن أعمالي الغنائية ستقدمها في افتتاح «معرض أبوظبي الدولي للكتاب»، لا يمكن توصيفها أو التعبير عنها بالكلمات، لأنها محاكاة متخيلة من خلال النوتة والنغم والإيقاع، للفضاء الفكري والفلسفي والجمالي والدلالي في شعر المتنبي، كما تتقصى في الوقت عينه أثره في مسيرته الذاتية أو الفردية، التواقة إلى العدل والإنصاف، أقله لذاته أو روحه، التي تتفجر بالوعي أو المعرفة بكل أبعادها الأدبية والجمالية والفلسفية سواء بالمعاني المادية أو الوجودية، أو بالمعاني الميتافيزيقية الماورائية. وهو كان يظن على الدوام أنه لم ينل الفرصة التي تليق بمكانته المستحقة بجدارة، وأقر بها جيله، وأعطاها حضورها الفاعل، الممتد عبر الزمان واختلاف المكان. ثيمات وعناوين ? ما قصدته، هل لك أن تتحدثي عن الثيمات الموسيقية، أو على الأقل عن العناوين، التي يمكن أن تختزل طبيعة الإضاءة الجديدة في أعمالك الغنائية الثلاثة، المستوحاة من شعر وسيرة المتنبي؟ ?? لا أعرف إن كان يصح الكشف عن تفاصيل العمل بهذه الدقة، وربما لا أعرف إن كان ممكناً إعطاء الأعمال الثلاثة عناوين فرعية، تميزها عن بعضها البعض، أو الكشف عن ثيماتها الموسيقية. ولكن على العموم في العمل الغنائي الأول الذي أستهل مطلعه بقولي: (في سفري وترحالي..)، سوف يكون هذا الجزء أكثر تعبيراً عن الحالة المترحلة، المتمردة، الرافضة للواقع، التي تأبى الثبات أو الاستقرار والكمون، التي ترفض مساكنة الواقع أو التعايش مع الممكن كما هو شأن الآخرين. لأن روحه مسكونة بالبحث الدائم عن الذات في كل الاتجاهات وعلى كل المسارات... ويرد في هذا السياق قوله الشعري الأكثر تصويراً لحاله: الخيل والليل والبيداء تعرفني والسيف والرمح والقرطاس والقلم. وهذه الأغنية تتمظهر بحلة عربية خالصة سواء على مستوى البناء الموسيقي، نغمياً وإيقاعياً أو على مستوى الأداء والغناء. أما الأغنية الثانية أو الجزء الثاني من العمل، فأستهله بقولي: على قدر أهل العزم تأتي العزائمُ وتأتي على قدر الكرامِ المكارمُ وتعظُم في عين الصغير صغارها وتصغُر في عين العظيم العظائم فهذا الجزء يتميز بإيقاعاته اللحنية والنغمية عن الجزء الأول، حيث أذهب به مذاهب شتى، خصوصاً على مستوى التعبير بالجملة الموسيقية، وهو ما أظنه مقاربات موسيقية جديدة، تشبه عزيمة وإرادة أبو الطيب المتنبي في منازلة الصعاب لتحقيق الغايات النبيلة والأهداف الإنسانية السامية. وفي الجزء الثالث أمزج بين لحنين عالميين معروفين الأول لبيتهوفن والآخر لفورجاك، في محاولة للتعبير عن المدى العالمي الكامن في شخصية المتنبي الشعرية والإنسانية. ونختتم الحفل بمقاطع شعرية من قصائد المتنبي أغنيها بالانجليزية والفرنسية والألمانية، إلى جانب العربية. الأصل المسرة ? لو ابتعدنا قليلا عن «معرض أبوظبي الدولي للكتاب»، واقتربنا أكثر من الفنانة عبير نعمة، وخصوصاً لجهة تجربتك الشخصية في البحث بموسيقى الشعوب وخصوصياتها المحلية. كيف جرى توظيف هذه الخبرات الثقافية المتنوعة في إغناء الموسيقى أو الغناء الشرقي العربي الأصيل؟ ?? أبسط الناس يعرفون أن الموسيقى لغة إنسانية كونية، عابرة للحدود والتاريخ. وهي بطبيعتها تعبير وجداني عن أحوال ومصائر الناس. أي يلجأ إليها الفرد باللاوعي للتعبير عن ذاته وأحاسيسه ومشاعره في الأفراح والأتراح شرقاً وغرباً. فمثلاً نجد الأم الريفية البسيطة، تهدهد طفلها في أحضانها، وتنطلق بغناء عفوي، من دون سابق تفكير. ربما الغناء هنا يسعد الطفل، ولكنه بالحقيقة هو غناء لنفسها، لذاتها، غناء يستعيد سيرتها وتجربتها الشخصية في الحياة ومدى الشقاء أو السعادة التي عرفتها، وخصوصاً في موضوعة القلب والحب. وسنجد غناءها في حالة السعادة مفعماً بالفرح والأمل والصفاء الذهني والراحة النفسية. بينما في حالة الشقاء سنجد غناءها مشحوناً بالشجن ومطرزاً بالحنين إلى التماعات الحب في إشراقاته الأولى، التي لم تكتمل، أو التي انقطعت لظروف ما، فيلامس الغناء حينئذ شغاف القلب وبجوهر الروح ويعيد للفرد إنسانيته المفقودة، ويجعله أكثر تسامحاً مع الآخر، وأكثر تقبلاً له رغم أنه قد يكون مصدر الشقاء. ولأن المسرة هي عنوان إنسانيتنا كبشر، «المجد لله في الأعالي، وعلى الأرض السلام وبالناس المسرة»، صارت الموسيقى فعلاً واعياً يتقصى أثر الجمال، ويقدمه بأبهى صوره، كي تصبح الحياة ممكنة للجميع بوئام وسلام، ما يعني أنها بوابة المصالحة مع الآخر لأنها مشترك إنساني، يعبر عن هموم وأحلام وتطلعات واحدة، هدفها إشاعة الجمال والأفراح والمسرات. ولذلك كانت الموسيقى على الدوام بمثابة جسر لتلاقي الشعوب وتعاونها الصادق في عمارة الأرض. وبهذا المعنى يكون تمازج الموسيقات الإنسانية ببعضها البعض، غنى للثقافات في كل الأزمنة والأمكنة، لأنها تساعد على توليد موسيقات جديدة أكثر استجابة لصناعة المسرة، خاصة إذا قام بها موسيقيون محترفون، يعرفون كيف تتناغم التونات كنغمات مختلفة، وكيف تتجاور الآلات باختصاصاتها وقدراتها المحددة، في عملية التوليف وبناء اللحن. منهل الموسيقى ? قمت بجولات على بلدان عدة، شرقاً وغرباً، واطلعت على الموروث الموسيقي التقليدي لهذه الشعوب، وأجريت بحوثاً مقارنة مع هذه الثقافات. فما الإضافات التي قدمتها لك موسيقات تلك الثقافات؟ ?? نعم قمت بجولات عدة في أوروبا وآسيا وأفريقيا، واستمعت إلى موسيقات هذه الشعوب وبحثت في جذورها ونشأتها وتطورها على مر السنين، واكتشفت –كما أشرت في السابق– أن مصادرها واحدة بالمعنى الإنساني. أي أنها تنهل من نبع واحد، هو الحاجة الإنسانية الماسة للجمال والمسرات والأفراح، قد تختلف بإيقاعاتها ونغماتها وآلاتها من ثقافة إلى أخرى، لكنها كمنتج إنساني يصب في بحر ثقافي واحد. لقد أغنتني هذه التجارب على المستوى الموسيقي والثقافي عموماً هذا أمر مؤكد. بمعنى أن اطلاعي على أنماط متعددة من الألوان الموسيقية من موقعي الأكاديمي، جعلني أكثر فهما، وأكثر قدرة واستجابة على محاكاة الموسيقات الأخرى، بمضامين إبداعية خلاقة، تثري موسيقانا الشرقية العربية، ما جعلني أتوسع بفضاءاتها، وأعطيها أبعاداً جمالية جديدة. وعلى المستوى الشخصي بدت لي التجربة كمعادلة طردية، أي أنني بقدر ما كنت أغوص بالثقافات الموسيقية الأخرى، بقدر ما كانت تزداد قدراتي بتقديم أفضل رسالة تسامح ومحبة وسلام عربية إلى الآخر، سواء من خلال أعمالي الموسيقية، أو من خلال الكتابة والإبداع في مجالات أخرى، حتى على مستوى السلوك الشخصي، وجدت نفسي أكثر انسجاماً وارتياحا وتقبلا للآخر من قبل. التلقي عادة ? عبير نعمة عندما تختار أسلوباً مغايراً للسائد، حيث الغناء في اللحظة الراهنة يغلب على معظمه طابع تسويق الجسد الأنثوي بالمعنى التجاري البحت، وتتجه إلى الطرب الشرقي بشكله الكلاسيكي المعروف، الذي لا يلقى رواجاً أو قبولاً خاصة لدى جيل الشباب. فإلى من تتوجهين بغنائك؟ ?? أنا بداية أغني للجمال المطلق، الجمال الذي لا نراه بالمعنى الحسي، وإنما نعيشه بأحاسيسنا ومشاعرنا، على مختلف مستوياتنا كأفراد. ذلك الجمال الموجود في كل زاوية من زوايا هذا الوجود، وهو أيضاً موجود بالفطرة في داخل كل إنسان. قد تطغى القباحات أو القسوة والعنف على تمظهرات الجمال الشعورية في أحاسيسنا، فنتبلد تحت سطوة القهر أو الحرمان، إلا أنه لا يموت أبداً، لأنه عندما يموت لا يبقى أمل في الحياة. وأنا على ثقة أن الفرد كائن من كان، ما أن تتاح له الفرصة، بتلقي جرعات ولو قليلة من الفنون بعامة، والموسيقى والغناء بشكل خاص، حتى يستعيد ما بداخله من طاقة وقدرة على تلقي الجمال بالمعنى الإيجابي الفعال. فأنا أغني وأؤلف الموسيقى لاستثارة هذا الجمال، الكامن بالإنسان بالدرجة الأولى. ومع ذلك أنا لست طوباوية إلى هذا الحد. وإنما أدرك جيداً أن التلقي يمكن أن يكون بأفضل وجوهه من خلال التعوّد، أي من خلال العادة، فالشباب الذين ينجرفون وراء الصورة وحركات الإغراء واستثارة الغرائز، ويفضلون هذا اللون السطحي على غيره، لا ذنب لهم بذلك. لأن كثافة الضخ السطحي هو الذي يصوغ أو يشكل ذائقتهم. ولكن عندما نقدم للشباب فناً نظيفاً وراقياً، فسوف يستجيبون له بكل تداعياته الجمالية والثقافية. فالمشكلة إذن تكمن بتسويق الفن الراقي، وكيفية توصيله، وليست بمتلقيه. ? ربما تكونين محقة، ولكننا لا نستطيع أن نتجاهل أن هناك أغلبية مطحونة في المجتمع العربي، يقض مضاجعها الخلاص من الحروب الأهلية والبحث عن الغذاء والدواء، وربما لا تتاح لملايين الشباب أبسط الفرص الإنسانية بالزواج، حينها تفرض الصورة -بالمواصفات التي ذكرناها- حضورها على وعيه. فكيف يمكن أن يتلقى الفن النظيف؟ ?? مع الأسف الشديد نحن نعيش مآسى متعددة، وخيبات كثيرة على كل المستويات التنموية والحقوقية وغير ذلك. لذلك يسود العنف في مجتمعاتنا، وننزلق بسهولة إلى متاهات الحروب الأهلية الطاحنة. ولكن هذا الواقع المأساوي، ربما يضاعف مدى الحاجة الماسة، والضرورة الملحة لتقديم الموسيقى والغناء النظيف لمجتمعاتنا. ولا أظن أن هناك وسيلة خلاص لمجتمعاتنا مما تعانيه، لا يكون في أساسها الفنون وبمقدمتها الموسيقى والغناء. يتحتم علينا أن نجرب، وأن نواصل التجريب إلى ما لا نهاية، فالموسيقى موجودة بالطبيعة وبداخل الإنسان منذ الأزل، وعلينا ألا نيأس مهما كانت اللوحة قاتمة. فالجمال هو أصل المسرة، والمسرة هدف الإنسان بالحياة، ومن دونها تصبح حياتنا جحيما لا يطاق، وربما تصبح مستحيلة. لا يصح إلا الصحيح ? كيف ترين المشهد الغنائي والموسيقي في ظل هذا الطوفان الرخيص على الفضائيات؟ ?? أختزل الإجابة بالقول الشعبي «لا يصح بالنهاية إلا الصحيح»، فالزبد سوف يذهب جفاءً ويمكث في الأرض ما ينفع الناس كما يقولون. لذلك أنا لست قلقة من هذا الوضع، رغم ابتعاد المشهد الموسيقي الراهن بمعظمه عن المقامات الشرقية، وجنوحه إلى الموسيقات الأخرى، ولكنه في الغالب الأعم جنوح غير واع، وهو أقرب إلى التناص إن لم نقل السرقة، لأن العالم بأي نمط موسيقي يعرف جيداً أن الموسيقى الشرقية تتميز بقدرات غير عادية على التجدد، فضلا عن كونها تتمتع بفضاءات هائلة بمخيالها النغمي والإيقاعي. ولكنها بسبب صعوبة بنيتها لجهة الانتقال من مقام إلى آخر في إطار التنويع بالنغمات، حيث يحتاج الأمر إلى حساسية مرهفة ودراسات معمقة، بالإضافة إلى جهد خاص ومضاعف على مستوى الدربة والمران الكثيف، وهذا ما يجعلها تبدو وكأنها غير محببة، فتلجأ الأكثرية إلى النسخ والتقليد لتقديم إيقاعات موسيقية وغنائية سريعة تتناسب مع سرعة المنطق التجاري السائد. أيضاً ربما أصبح السلوك العام في مجتمعاتنا يجنح أكثر فأكثر نحو الغرائزية البهيمية، سواء على مستوى الاختلاف الفكري والثقافي، أو على مستوى حياتنا اليومية، حتى في مسألة فهمنا موضوعة الحب، التي يعبر عنها الغناء والموسيقى أحسن تعبير. ومع ذلك فإن إصرارنا على الفن النظيف والإبداع الراقي لا بد سيعيدنا إلى رشدنا الإنساني، الذي كان ذات يوم منارة للإنسانية. نحن أبناء أرض الحضارات، ولا يمكن أن نستمر في حالة الاستلاب والتغريب إلى ما شاء الله. لا بد من قيامنا من جديد بما يليق بدورنا الإنساني. وما علينا كفنانين ومبدعين سوى مواصلة الحلم، ومواصلة التجريب. ? أفهم من إجابتك أن حياتك تموضعينها في الموسيقى والغناء؟ ?? نعم. أنا لا قيمة لي في هذا الوجود من دون الموسيقى، فالموسيقى تجري في عروقي مجرى الدماء، ولا أستطيع أن أتخيل نفسي أعيش من دون موسيقى أبداً. أنا أعبر عن ذاتي وكينونتي وصيرورتي بالنغم واللحن. فهي اللغة الوحيدة التي تجمعني مع الآخرين، وهي الجسر الذي يقربنا من بعضنا البعض، على المستويين القريب والبعيد. وإذا كانت الحياة مستحيلة من دون حلم، فإنها تصبح أكثر استحالة من دون موسيقى. وما أقوله لا يعني أنني أتوحد مع الموسيقى وأنفصل عن الآخرين، لا. فالأسرة والأصحاب والأحباب كلهم موجودون بحياتي ويزينونها بأبهج الألوان، وإنما أردت القول إن الموسيقى هي الوسيلة الوحيدة للمصالحة مع الذات ومع الآخرين، وبالموسيقى يصبح لهؤلاء حضور في حياتي أكثر تميزاً وأكثر قرباً وإلفة وحميميةً. موطن الموسيقى * لك تجربة عميقة في الإنشاد والترانيم أو الغناء الكنسي، فما حجم تأثيره على مسيرتك الفنية، وخصوصاً لجهة انحيازك إلى الموسيقى الشرقية؟ ?? بظني أن الموسيقى الكنسية هي موطن الموسيقى شرقاً وغرباً، ليس لكونها من أقدم الموسيقات التي تعرفها البشرية في المرحلة الراهنة فقط، وإنما لكونها تقوم على ثابتين، الأول هي أنها لم تكن ذات يوم تجارية، ولم تكن تخاطب العامة على سبيل التسويق، وإنما توجهت مباشرة إلى النخبة، ومعهم جزء يسير من العامة، لديهم الاستعداد للتلقي بمستوى النخبة. لذلك كانت تقوم بهاجس الشغف بعالم الموسيقى وسطوة الوله والعشق الروحي بأبعاده الفلسفية والميتافيزيقية. والثاني أنها تحتاج إلى الكثير من التركيز والصفاء الذهني بالإضافة إلى الإشراقات الروحانية، وهي بذلك شأنها شأن الموسيقى الصوفية، لجهة التوحد مع الجمال بمفاهيم روحية صافية وأبعاد ميتافيزيقية خالصة. وبهذا المعنى كان للغناء الكنسي تأثير حاسم بخياراتي وانحيازي للموسيقى الشرقية العربية. ولحسن الحظ أن دراستي الأكاديمية ساعدتني كثيراً على التوسع بمداركي ومعارفي الموسيقية. كما ساعدتني بالتنقل بين الأنماط الموسيقية سواء أكانت شرقية أم عالمية. خزان الجمال ? المبدعون في الآداب والفنون يمتحون من معين الذاكرة، وبالأخص من مخزون الطفولة؟ فماذا عن مدارج الصبا وملاعب الطفولة في تنورين، تلك البلدة الجردية المعلقة على خاصرة «القرنة السوداء» أعلى قمم جبال لبنان، وهل شكلت لك معيناً موسيقياً؟ ?? - لأن الموسيقى كامنة في كل جزئيات الطبيعة كما ذكرت آنفاً، ولما كانت بلدتي تتمتع بطبيعة ساحرة بمختلف مواسمها، كان لا بد أن تترك تأثيرها المباشر على شخصيتي وتكويني الذهني والعاطفي. فمنطقتي تتميز بجمال أخاذ، لدرجة يجعل المرء عاجزاً عن الدهشة والتعبير، بحيث يبقى مأخوذا بمفاتنها وأسيراً للدهشة والصمت، بخشوع يتجاوز طقوس التنسك أو الرهبنة، ويطغى على ملكوت العقل، بحيث يصبح الصمت صلاة أبلغ من طقوس العبادة. بهذه البيئة نشأت وسط أسرة مجبولة بالموسيقى ومعجونة بالغناء، بألوانه الشعبية المختلفة من الزجل و«المخمس مردود» و«القرّادي» إلى«أبو الزلف» و«الميجانا» و«العتابا». وكان والدي يتمتع بصوت شجي وقوي، ويعزف على العود، وأول هدية قدمها لي، كانت عبارة عن آلة تسجيل صغيرة ومجموعة كاسيتات، لأم كلثوم وأسهمان وليلى مراد وفيروز وعبدالحليم حافظ ومحمد عبدالوهاب وآخرين.. وقال لي: كل يوم بعد دروسك واجب عليك التسالي بسماع هذه الأغاني، وكلما حفظت أغنية منها، سوف تصعدين إلى سطح البيت وتغنيها بأعلى صوتك، وأنا سوف أسمعك من أرض الدار. وبالفعل حفظت أول أغنية لأسمهان بعنوان «أهوى»، وصعدت إلى السطح وغنيتها، فأعجب بها والدي وراح يصفق لي ويرقص على إيقاعاتها جذلاً. فتخيل أنني كنت بالتاسعة حينما حفظت وغنيت معظم أغاني أم كلثوم. طبعاً عندما بدأت الغناء لأول مرة كان عمري ما بين الرابعة والخامسة، حيث اكتشف والدي أن صوتي جميل ويتمتع بطبقات قوية، وهذا ما شجعه على الاهتمام بي وتقديم آلة التسجيل والكاسيت كهدية لاحقاً. كذلك كنت أغني في الحفلات المدرسية، وألاقي التشجيع من الجميع. ولذلك لا شك بأن طفولتي ستبقى خزانا يفيض علي بالإلهام أينما كنت، وكيفما ترحلت، فهي طفولة غنية بالجمال وخصبة للإبداع الموسيقي، ودليلي أنني لست وحدي في الأسرة موهوبة بالغناء من الطفولة المبكرة، فإخوتي السبعة يتميزون بأصوات جميلة ولديهم مواهب فنية متعددة، وبعضهم يحترف الفن منذ سنوات عدة، ويلاقون النجاح والتقدير لمواهبهم الفنية.450
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©