الثلاثاء 19 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الإنسانية مع التدين.. منهج حياة

الإنسانية مع التدين.. منهج حياة
23 يونيو 2017 17:31
أود لفت انتباه كلِّ من قرأ المقالات السابقة إلى أنّ المقصود بعبارة الإنسانية ليس فلسفة «الإنسانوية» التي تركّز على قيمة الإنسان وكفاءته مع سعيها لإقصاء الدين وإسقاط أي اعتبار له، إنما المقصود بالإنسانية هنا الوعاء الذي يُصب فيه التدين بحيث يتأثر بحالة الإنسان الذي يتلقى هذا الدين. وذلك أنّ الإنسان الذي لم يتحلَّ بالصفات الإنسانية الحسنة ولم يعِ سرَّ حقيقة التديّن يكون تدينه مجرد صورة بلا حقيقة ولا معنى، إذ لا تمتزج حقيقته بقلبه ولا تتحول إلى شيء يعيش به، أو يجري منه مجرى الدم. فإنّ من الصفات الإنسانية: الرحمة والمحبة والإحسان والشفقة والتواضع، ومن الانفعالات الإنسانية: الرضا، والغضب، والفرح، والحزن، والألم، وعندما تكون الصفات الإنسانية الأساسية حيّة ويغذّيها نور الدين فإنّ هذه الانفعالات تنضبط باعتدال واتّزان، فيحسن تعامل الإنسان مع غيره ممن يختلف معه أو يخطئ في حقه أو يسيء له في تصرفاته، بل تصبح انفعالاته منضبطة حتى في الحرب عملًا بتعاليم النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم التي أوصى بها المسلمين في الحرب. وكلما توقّدت في داخل الإنسان الصفات الراقية واستنارت بِهَديِ الدين توهّجت إنسانيته وأشرقت. وإنّ تديّن الإنسان يجعل من عاداته الإنسانية قربة إلى الله تعالى، فالابتسامة صدقة، والصدقة معاملة مع الله تعالى لا سيما حين يشهد المتصدّق فيها الفضل للمحتاج، إذ بواسطته يحصل المتصدّق على حسنات باقية مقابل دراهم فانية، فلا يشعر أنه أعلى من غيره لأنه أعطى. والإنسان المتديّن حقيقة لا يقبل بالتلاعب بحاجة الفقراء والمتاجرة بمعاناتهم سياسيًا وأيديولوجيًا، بل إنّه يتسع في حب العطاء إلى ما بعد الحياة. بل إنّ في ثقافة الوقف في ديننا الإسلامي مثالًا للإبداع والاتساع تجاوزت تلبية حاجات الإنسان إلى تخصيص أوقاف لمصلحة الحيوان والإحسان إليه. ثمّ إننا اليوم بحاجة إلى أن نعلن الحب، فهو غذاء الدين والإنسانية، وهو من أشرف ما خلق الله عزّ وجلّ من المعاني التي نزلت من السماء إلى الأرض. ومن المؤسف أنّ وسائل الإعلام ومنافذ الإعلان صورت الحب على أنه مجرّد شهوة جسدية، وهذا انحطاط في مفهوم الحب، إذ هو أعلى وأرقى، فلذلك ينبغي نشر معانيه السامية بين الناس. فنحن نحب نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم وديننا وسائر الأنبياء والمرسلين عليهم السلام والكتب السماوية، ولنا الحق أن نغضب عندما تُنتهَك مقدساتنا ويُتعدَى على نبينا، ولنا الحق أيضًا أن ننتصر لديننا، على أنّ التعبير عن غضبنا وانتصارنا وغيرتنا ينبغي أن يتجلّى فيه سموّ ديننا، وألا يكون على العكس من ذلك. وقد يردّ البعض على هذا الحق بزعمه أنّ حرية التعبير في المجتمعات الغربية مطلقة، وهذا كلام غير دقيق، ففي الدنمارك وسويسرا يُمنع بالقانون الثناء على النازيّة، وفي فرنسا يُمنع التشكيك في المحرقة اليهودية (الهولوكوست)، وفي أمريكا ينص الدستور على تجريم الدعوة إلى الكراهية. وربما يستغرب البعض إذا تحدثنا عن الإنسانية في الحدود والقصاص، ولعل سبب ذلك وجود تطرف يتحدث باسم الدين يختزل الشريعة في الحدود، ويحكم بالكفر على كل من لم يطبق الشريعة فيستبيح دماء الناس بناء على ذلك، ولكن في المقابل يوجد تطرف آخر يظن أنه يخدم الإنسانية فينكر الحدود ويستهزئ بها ويطالب بإلغائها. وكلا الفريقين على خطأ، وهذا الخطأ ينبغي تقويمه. فقد جُعلَت الحدود في الشريعة من أجل أن تعظَّم في النفوس قيمة المعاني، كقيمة الأمانة في موضوع السرقة، وقيمة ضبط اللسان وعدم الخوض في الأعراض في موضوع القذف، إذ هي كالسياج والحمى لهذه المعاني، فإذا ضعفت النفس البشرية وأرادت اقتحامها يحصل بها الردع  والزجر. لكن الأمر الذي يثير التساؤل: كيف يوفق الإسلام بين القصاص والعفو؟ إنّ الله سبحانه وتعالى أوجد صفة الغضب في النفس البشرية لحكمة الدفاع عن الحق ونصرة المظلوم، حال اعتدالها بعيدًا عن الإفراط والتفريط، والإنسان مجبول بطبعه على أن يحصل على حقه حال العدوان، فجاء التشريع بالقصاص لردع المعتدي من ناحية وتسكين نفس المعتدى عليه من ناحية أخرى، فإذا شعر المظلوم بتمكينه من القصاص وسكت عنه الغضب، تهيأت نفسه لقبول مبدأ المسامحة والعفو. ولعلنا في خاتمة الشهر الكريم نتدبر قوله تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ)، أي أنّ كل مؤمن بالله بيننا وبينه أخوة الإيمان، وليس معنى ذلك أنّ غير المؤمن ليس بيننا وبينه صلة أخوة، فهناك أخوة الإنسانية، وأخوة الوطن، وأخوة النسب، فنصون هذه الأخوة ونرعاها في الدماء والأعراض والمال والأنفس. اللهم أحيِ في بواطننا وهج إنسانيتنا وآدميتنا، واجعل تلقينا لأنوار دينك تدينًا متصلًا بهذه الحقيقة مسيطرًا على انفعالات آدميتنا وإنسانيتنا بنور الصفات الآدمية الإنسانية التي فطرتَ عليها الإنسان بسر قولك (لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ في أَحْسَنِ تَقْوِيم)، آمين. الحبيب علي الجفري
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©