السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

تكفين الميت

تكفين الميت
23 يونيو 2010 20:42
تظل الدعابة والمرح، حتى في أوقات الحاجة والشدة، هي الخاصية المائزة لسيرة أبي نواس وشعره. لكن نوادره لا تشرح أبياته المصاحبة فحسب، بل ترصد شكل الحياة في عصره في أحد تجلياتها الشائقة الخارجة على الأعراف، فتقوم مقام السرديات المطولة، وتساهم في تصحيح الصورة التي يتوهمها بعضنا عن حياة القدماء المثالية الممعنة في الزهد. يروي أبو هفان، تلميذ أبي نواس، إحدى نوادره الطريفة قائلاً: حدثني عبدوس الوراق أن أبا نواس احتاج حاجة شديدة، وطاقت نفسه إلى الخمر فلم تمتد يده إلى ما يشتريه، فذكر أخا له شاعرا في بعض القرى التي تقترب من بغداد، فخرج قاصدا له، فلما ورد عليه وجده أسوأ حالا منه، وأظهر له عيلة (أي فقرا) ووجد عنده شرابا وليس عنده ما يتنقل به عليه (والنقل ما يتفكه به الشراب من جوز ولوز وفاكهة وغيرها). اعتذر إلى أبي نواس وكشف له حاله. قال له أبي نواس: إنها تشرب على الريق، وأنشأ يقول: اشرب على الخيري والريق إنا على البعد من السوق لا تطلبن الخبز في دارنا فإنما ننفخ في البوق (والخيري هو زهر المنثور الأبيض، لأن يشرب على الرائحة فحسب) ثم قال له أبو نواس: أما ها هنا من يمتدح؟ قال: بلى، رجل من مضر إذا مدحته مدحني، وإذا هجوته هجاني، مثلا بمثل. فنظر في شعر المضري فإذا هو شعر متظرف متكلف، فتناول القرطاس وكتب له: قل لأبي مالك فتى مضر مال لا مفحم ولا حصر جئناك في ميت نكفنه ليس من الجن ولا البشر بل هو ميت سلاحه خزف والجسم فان، والروح من عكر بالك ميت صلاة شيعته عليه عزف، والنقر بالوتر فلما قرأ المضري الشعر أقبل بحشمه وغلمانه نحوهم، فأقام عندهم يومه يناديهم، بعد أن حمل إليهم ما يقيهم، وأمر لكل منهما بخمسة آلاف درهم. فإذا لاحظنا أن عبدوس الذي يحكي هذه القصة هو راوي شعر أبي نواس، لم نستبعد أن يكون قد اختلقها لتبرير أبيات طريفة عن تكفين الخمر بالفعل، لكنه لا يبعد كثيرا في تمثيل طبيعة الحياة المتصعلكة التي كان يعيشها الشاعر وأمثاله، وبحثهم عما يمدحونه لسد حاجاتهم وإشباع رغباتهم، وكيف أن بعض الموسرين كان يرد على الشعر بمثله إن كان في مقدوره حتى لا يبتزه أحد بمدح أو هجاء، فقدرة نظم الشعر كانت متاحة لكثيرين، ولا أحسب أن من وصف بأنه أخو أبي نواس كان أخاه في النسب، بل في الشعر والصحبة والعادات، وتكتمل الطرافة عندما يتقن الشاعر الكبير صناعة أبياته وإحكام تشبيهاته وتصويره الخمر بالميت الذي يتطلب من أهل المروءة أن يعالجوه بالنقل، في لون من الخيال الذي لا يتاح لأي شاعر، مما يستثير نخوة الرجل فيستضيف الشاعرين في منزلهما ويزيد بإكرامهما بالعطية المعهودة في الروايات.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©