الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الاحتفال والمخبر الصحفي وعائشة سلطان

الاحتفال والمخبر الصحفي وعائشة سلطان
23 يونيو 2010 20:38
الصحف الإماراتية في أغلبها من أعمار جيلنا، أي أنها ولدت فيما بين الأربعين والخمسين سنة الماضية، وفي الشهور الأخيرة من هذا العام احتفلت كذا صحيفة بعيد ميلادها، أطفأت الشموع، وزار مباني الصحف المحتفلة المهنئون، وتبارى على مدحها المداحون، وقدّرها المقدرون. وكان يحدث ذلك على الأغلب، بعيداً عن الأسئلة الكبرى، فالاحتفالات عندنا، على ما يبدو، تنغصها مثل هذه الأسئلة، فالوقت ليس وقت الحديث عن دور الإعلام، ولا عن الحرية المتاحة، ولا حتى عن تدني نسبة “التوطين، كما يُسمى، في المؤسسات الإعلامية. بالنسبة لكاتب “محلي” مثلي، فإن حياتي تكاد تتقاطع فعلياً مع “حياة” هذه الصحف، أو أغلبها، فغير أنني شخصياً عشت في ردهاتها ساعات، بل وأسابيع وشهورا وسنين عديدة، فإنه يمكنني القول إن مدها، حين تمد، يرفع من روحي، وجزرها، حين تجزر، يجزر روحي. وكثير هو ما يمكن أن أقوله عن هذه التجربة، إلا أن هذه الصحافة، وطوال هذا العمر الذي يوشك على النصف قرن، قد أنجبت عدداً لا بأس به من كتاب الأعمدة اليومية أو الأسبوعية أو الشهرية “المحلية”. وتتفاوت هذه الأعمدة من حيث الشواغل والفنيات والمصداقية والتتبع، فهنالك الأعمدة التي تترصد، أو تدَّعي ترصد، الشأن الاجتماعي أو الاقتصادي أو الرياضي أو السياسي، ولقد أنجبت الصحافة عندنا عدداً كبيراً من كتاب هذا النوع من الأعمدة الذين، على الأرجح، يستعملون اللغة كأداة لتوصيل ما يظنونه رسالة إلى مسؤول أو إلى عموم جمهور القراء المفترضين، ولعل من أشهر هذه الأعمدة عمود “بلوطي” لغانم عبيد غباش والذي كتبه بالعامية في اختيار فريد، وتشد من الذين ابتدأوا مثل هذه الأعمدة ولا يتذكرهم أحد الآن، ومنهم مثلاً محمود يوسف الذي حينما عاد من القاهرة خريجاً جامعياً، عمل في جريدة “الاتحاد”، وظل يكتب عموداً، أظنه أسبوعياً، إلى أن مات مبكراً في أواخر الثمانينات جراء مرض السرطان البغيض. في مقابل هذا النمط من الأعمدة، هنالك أعمدة تحققت بشاعرية ملفتة ولغة فنية عالية، ولعل المثالين البارزين اللذين يخطران على ذهني الآن هما: العمود الذي كانت تكتبه القاصة سلمى مطر سيف في “الخليج”، أو في “البيان”، والمثال الثاني هو العمود الذي كان يكتبه الشاعر عبدالعزيز جاسم حين كان مشرفاً على ملحق “الاتحاد الثقافي”. بين هذين النمطين، ثمة أعمدة خلاسية، تنحو نحو “الشؤون”: الاجتماعية، الاقتصادية، السياسية، إلخ، ولكنها في كثير من الأحيان ترتفع أو ترفع من لغتها إلى مستوى فني مُلفت. ناصر وعائشة وشخصياً أنا أتابع قدر إمكاني عمودين أظنهما بهذه الميول، الأول: عمود ناصر الظاهري الذي تقترب لغته من الشفافية الخلاقة، خاصة حين تُفتح في ذاكرته بريات وحقول وأفلاج طفولته وشبابه، أو يهبه عشقه للسفر بعض من نفحاته المباركة. والظاهري يعيد سياقات ومفردات عامية ويدخلها في تركيبة “نص” عموده، فتغدو لغته أكثر ادهاشاً، ويفصح عن الإيقاع الذي تتحرك فيه روحه أثناء جريان القلم. أما العمود الثاني، فعمود عائشة سلطان، خاصة كذلك، حينما تجلس على طاولة غريبة وتنثال بين عيونها، مشاهد الحنين التي تفوح منها رائحة الانسجام، أو حين تروي حكاية من حكايات أسفارها على الأرض والحياة، أو حتى حين تنوي رواية حكاية. حكاية، كالحكاية التي روتها من ضمن حكايتين ضمهما أحد أعمدتها الأخيرة، وتقول الحكاية كما روتها عائشة: “إن رجلاً عجوزاً كان جالساً مع ابن له يبلغ من العمر 25 سنة في القطار، وبدا الكثير من البهجة والفضول على وجه الشاب الذي كان يجلس بجانب النافذة. أخرج يديه من النافذة، وشعر بمرور الهواء وصرخ: ـ أبي، انظر، جميع الأشجار تسير وراءنا. فتبسم الرجل العجوز متماشياً مع فرحة ابنه. وكان يجلسُ بجانبهما زوجان ويستمعان إلى ما يدور من حديث بين الأب وابنه، وشعرا بقليل من الإحراج، فكيف يتصرف شاب في عمر 25 سنة مثل الطفل. فجأة صرخ الشاب مرة أخرى: ـ أبي. أنظر إلى البركة وما فيها من حيوانات. انظر. الغيوم تسير مع القطار. واستمر تعجب الزوجين من حديث الشاب مرة أخرى، ثم بدأ هطول الأمطار، وقطرات الماء تتساقط على يد الشاب الذي امتلأ وجهه بالسعادة، وصرخ مرة أخرى: ـ أبي انها تُمطر، والماء لمس يدي. انظر يا أبي. وفي هذه اللحظة لم يستطع الزوجان السكوت، وسألا الرجل العجوز: ـ لماذا لا تقوم بزيارة الطبيب، والحصول على علاج لابنك؟ هنا قال الرجل العجوز: ـ إننا قادمان من المستشفى حيث إن ابني قد أصبح بصيراً للمرة الأولى. وعند الجملة الأخيرة تنهي عائشة الحكاية، وتسكت كما سكتت من قبل شهرزاد، لكن الدهشة التي أصابتني كقارئ، مازالت تعتور في داخلي. العالم مدهش، هكذا لمن يراه لأول مرة، للأعمى الذي لم يستطع رؤيته، ولأكثر من عقدين، يبدو مدهشاً حين يبصره ويراه، الهواء الذي يمر على شعر الفتاة ويهفه مدهش، الأشجار التي تركض بلا جدوى كي تلحق بالقطار مدهشة، الماء، قطرة الماء، وهي تتفتح كالوردة على الكف وتختفي مدهشة، المطر، عمود المطر، المستحيل مدهش، والموجة المزروعة بحشائش الضوء في العين مدهشة. العالم مدهش ودائماً هو مدهش، وهو مدهش دائماً في كل زمان وفي كل مكان، مدهش لمن يلقي عليه النظرة الأولى، الطفولية، التي بلا مسبقات ولا خزائن، النظرة البكر، النظرة التي لم تر من قبل شيئاً رغم أنها رأت كل شيء. أهذا ما تريد أن تقوله لنا حكاية عائشة سلطان؟ لكن وهنا، بالتحديد، تذكرت حكاية مناقضة تماماً، مناقضة إلى الدرجة التي تكاد أن تكون هي وحكاية عائشة، حكاية واحدة. مخبر أنطونيوني فأنا لن أنسى أبداً تلك المقولة التي تذكرها الممثل البطل في فيلم للإيطالي مايكل أنجلو انطونيوني، أظن أن اسمه كما ترجم عربياً: “المخبر الصحفي”. كان البطل الذي يقوم بدوره جاك نيكلسون، قد تخلّى، على ما أذكر، عن شخصيته الحقيقية كصحفي محترف، وتنكّر مبتعداً عن الأماكن التي يعيش فيها، ومغموراً مع صديقته العذبة في نواح نائية من أندلس إسبانيا. كاميرا أنطونيوني تُمارس في هذا الفيلم، وكعادته في مجمل أفلامه، جولاتها اللونية والملغزة والفتانة، وحين تساور قال البطل للبطلة بأنه كان يعرف أحدهم، وكان أعمى، بل ظل أعمى في أغلب فترات حياته، يعيش في البيت كما يعيش العارف بكل شيء، ويقطع الدروب والطرقات والشوارع كما لا يستطيع قطعها المبصرون، ويمارس حياته وكأنه وضع الجهات تحت أبطيه، والمسافات في الجيب. مرحاً ومستمتعاً، يشم الآخرين من رائحة أصابعهم، ويعرف أسماءهم من إيقاع أصواتهم، ويدرك كنههم من الألسنة التي يخبؤنها في الفم. المدينة يشهدها كما نشاهد نحن شاشة التلفزيون، والخاتم الذي يلبسه المجتمع للدولة أثناء الخطوبة، يُقدِّر هو متى سيتم فسخه وكيف؟ لكن ذلك الأعمى، الذي كان يعرفه جاك نيكلسون أقنع في فترة من حياته بإجراء عملية تعيد له البصر، وبالفعل قام بالعملية، وعاد من المستشفى مبصراً. نظر إلى الدروب والطرقات والشوارع التي كان يقطعها كل يوم، فلم يعرفها، وتفرقت الجهات من تحت أبطيه، وتحولت المسافات في جيبه إلى حبات من ملح، وحين دخل بيته، رآه كئيباً وضيقاً ولا حياة فيه. جلس طوال يومه ذاك ينظر إلى الجدران فتزداد وحشته، وإلى جلسته فتطفو على الطاولة المرارة، وإلى المرايا فيضيع كل شيء في خيال يديه، يوم وليلة فحسب شاهد أعمى نيكلسون العالم من هذه الزاوية فلم يتحمل، وفي صباح اليوم التالي عثر عليه، وقد شنق نفسه في الشقة الصغيرة، من هذا العالم المضطرب.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©