الثلاثاء 23 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الأدب والوباء.. تأبين الحضارة!

18 نوفمبر 2009 22:21
شهيرة أحمد ==== باستثناء شركات تصنيع الأدوية، لا يمكن لعاقل أن يقول إن في الوباء، أي وباء، فوائد. لكن يبدو أن هناك مستفيدين آخرين من هكذا بلاء... في عالم السياسة مثلاً، لا يعدم المرء أشخاصاً يجدون فيه "حسنة" تقلل من مخاطر الانفجار السكاني!. وفي حقل العلم لا يعدم العلماء أيضاً، وإن كان هذا يحدث بصيغة مختلفة، فائدة في الوباء، حين يحولونه من نقمة تلم بالبشر إلى "فرصة مواتية" للعثور على لقاح يرتقي بالجانب الصحي من حياتهم أو يطور مناعتهم مقدمين خدمة جليلة للبشرية. للأدباء والشعراء والكتاب في هذه “الاستفادة” مذاهب أخرى. وكالعادة، حملوه أوزاراً أخرى فوق أوزاره، ونظروا إليه في ضوء القضايا الكبرى التي تشغلهم، فصارت “مصائبه” بالنسبة إليهم “سانحة ممتازة” لبث كل ما يعتمل في قلوبهم وصدورهم، وتحميله هواجسهم وأسئلتهم وشكوكهم، وربما وجدوا، في بحثهم الدائم عن المصائر التراجيدية التي تضفي على أعمالهم توتراً عالياً محبباً لدى القارئ، أن ليس هناك أفضل من الوباء بكل ما يحمله من دلالات فلسفية ووجودية ليحقق لهم هذا الغرض، ويمرروا من خلاله ما يشاؤون من الرؤى والطروحات الفكرية والفلسفية والاجتماعية، ويضعوا القارئ على عتبة مضمراتهم المتلفعة بلبوس الرمز. لقد وجد الوباء تجلياته المتعددة في المتن الروائي، وتغلغل في النسيج السردي للكثير من الروايات تماماً كما تغلغل في كل شبر من مفاصل المجتمعات التي ضربها والبشر الذين فتك بهم، بل وكان في بعض الأحيان محركاً رئيساً لأحداث الروايات وأمثولاتها الوعظية، فيما مر الوباء على روايات أخرى، مروراً يسيراً، فلم يضرب سوى في بعض الزوايا ولم تظهر آثاره إلا في لمحات سريعة، ولم يكن عمله سوى إضفاء طابع درامي أو بعد تراجيدي على الأحداث، أو تغيير مسار الرواية، أو الإفصاح عن الزمن الروائي الذي جرت فيه الأحداث كنوع من المهاد الفني الذي يضيء العمل أمام القارئ. وفي هذه النوعية من الأعمال الروائية، كان المؤلف يفترض في القارئ أنه على علم بسمات تلك المرحلة التاريخية وأحداثها، مما يعني انتقال العمل الروائي من المستوى الأول في خطابه الفكري والفني إلى مستوى أكثر تقدماً ربما لم يلتقط “عدواه” قراء كثيرون. إن المتأمل في الروايات يجد أن الهدف الأساسي من توظيف الوباء هو في الغالب الرغبة في تعرية الواقع الراهن أو نقد ما يحويه من أوضاع فكرية أو سياسية أو اجتماعية يرغب الكاتب في تحقيق نوع من الاستنارة الفكرية حولها في ذهن القارئ. ولأن حضور الوباء يعني غالباً استدعاء التاريخ (يبدو أن التاريخ بيئة خصبة للأوبئة) فإن المستوى الآخر من مستويات الروي تجلى في الحدث التاريخي نفسه، ومساءلته وتقصيه بحيث غدت الواقعة التاريخية جزءاً أساسياً في تضاعيف النص السردي المتخيل، الذي سعى الروائي من خلاله إلى ردم الفجوات وملء الثغرات وإضاءة الزوايا المعتمة في الحدث التاريخي. سمات وبائية بداية لا بد من القول إن هناك عدة ملاحظات أو سمات ناظمة يمكن أن يقع عليها المتأمل للروايات التي “استوبأت” وتعاطت مع الوباء كثيمة أساسية في بنية العمل الروائي، على الأقل هذه ملاحظتي الشخصية لما وقع تحت يدي من هكذا أعمال، منها على سبيل المثال لا الحصر، أن الوباء هاجم البنية الروائية وسحق البطولة الفردية أو الشخصية المحورية ليحل محلها، ويكون البطل المتوج ومدار الأحداث والحكايات والسرد، ثم إنه أعلن تسيُّد المكان الذي قاسمه البطولة وأخذ هو الآخر نسبة وافرة من الظهور ولعب دوراً فاعلاً وجوهرياً في مجريات العمل. لكن الروائي فهم، على ما يبدو، لعبة الوباء ومحاولته الخروج على النص أو عدم الانصياع للخط العام للرواية، فأسرع لتحجيمه واعتباره محطة غير نهائية، بل سبب أو مرحلة تمهد لظهور مرحلة أخرى، وكأن الوباء “مكنسة عملاقة” تكنس العلاقات الراهنة وتؤسس لعلاقات جديدة يقوم عليها البناء الروائي. ربما، لأن الأوبئة والكوارث تمس أهم أولويات البشر وهي الحياة، مما يستدعي بالتالي إعادة ترتيب الأجندات والأولويات في كل المجالات. الأهم من كل ما سبق، أن البشرية نظرت بهلع إلى الوباء، وهو يمارس سلطته اللانهائية ويضرب يميناً وشمالاً ويحصد البشر والمجتمعات ويهدم الأبنية والأشكال والتكوينات المجتمعية، واعتبرته “غولاً” أو كائناً أسطورياً لا يمكن رده أو مواجهته، وفي حضوره تتراجع كل قوة بشرية (رغم ضخامة الدعاية الشائعة عن قوة الإنسان وصلافته في تصوير قدراته العبقرية وإمكاناته العجائبية الجبارة التي طوَّعت موجودات الكون)، فلم تجد سوى الروائيين ليستحضروا الوباء في أعمالهم، ويكيلوا له الصاع صاعين. فلم يقصروا في المهمة، وأشبعوا الوباء وأشبعوها هي الأخرى (البشرية) هجاء ونقداً، ونصبوا للأوضاع التي تفشى فيها وللأوضاع الراهنة أيضاً، محكمة كبرى صالوا فيها وجالوا مؤشرين على التفسخ الإنساني ومأساوية الحضارة الإنسانية، بل واستلهموا الوباء نفسه لبناء جرعة فانتازية من الخيال حتى وإن اعتمدوا بعض الأحداث الواقعية. الأدهى من ذلك، أو ثالثة الأثافي كما تقول بلاغتنا العربية وقاها الله شر اللحن والعجمة وما لفَّ لفَّهما من الأمراض، أن بعض الروائيين حين لم يجدوا في الأوبئة الحقيقية ما يشبع رغبتهم في الهجاء والنقد، قرروا اختراع أو اختلاق “وباء خيالي” لكي يسرح ويمرح في رواياتهم، ولم يكن لهم في ذلك أي مصلحة شخصية أو رغبة انتقامية، ولم يثبت حتى كتابة هذه السطور على الأقل أن أياً منهم صاحب شركة لتصنيع الأدوية ولا حتى صيدلية لبيعها، بل كل ما أرادوه إرسال رسالة نقدية عميقة عن المجتمع أو الحضارة، فعل هذا ساراماجو والغيطاني وعسقلاني وغيرهم. ولأن الوباء يكون كاسحاً لا يبقي ولا يذر، وجد فيه الروائيون رمزاً مثالياً ليسقطوا عليه مواقفهم أو رؤاهم الفكرية والفلسفية. وغالباً ما جعلوه رمزاً تراجيدياً أو نواة روائية تتكون حولها مدارات السرد والأحداث. ترميز الطاعون أول ما يتبادر إلى الذهن عند الحديث عن علاقة الرواية بالوباء رواية “الطاعون” للفرنسي ألبير كامو الذي أسس روايته على الطاعون الحقيقي الذي اجتاح العالم متتبعاً تصاعده المأساوي في مدينة “وهران” الجزائرية، واصفاً حال المدينة وأحوالها ورباطة جأش سكانها في مواجهة الطاعون، وحاصداً في الوقت نفسه منفعة استثنائية تمثلت في حصوله على جائزة نوبل.. الرجل يستحق، وربما تكون نوبل (قليلة عليه) فهو لم يقدم للعالم واحدة من أهم الأعمال الروائية فقط، بل تميز بموقفه الإنساني المتقدم، وبمنسوب عالٍ من الإبداع، فلم يقف عند حدود الوصف الواقعي بل سرعان ما ارتقى بالوباء إلى مستويات رمزية لافحة تؤشر على عدم انتهاء الطاعون المجازي مع انتهاء الطاعون الحقيقي، القاتل الجبار الذي يقف أمامه الإنسان ضعيفاً، عاجزاً، مقهوراً، بلا أسلحة ولا قدرة على المواجهة، فجرثومة الطاعون، حسب تصريح الدكتور ريو، لا تموت أو تختفي إلى الأبد، وإنما تنام لتظهر من جديد. من هذه الحقيقة العلمية ينطلق كامو في بنائه للطاعون الرمزي/ الجهل الفكري، متسائلاً عن مشكلات فلسفية كبرى مثل الوجود والعدم، والحرية والإرادة، في نوع من الأسطرة التراجيدية لمصائر الشخصيات التي تتحرر من محيطها الجغرافي لتصبح ذات كينونة عالمية، محققة في الوقت نفسه (إلى جانب عوامل أخرى بالطبع) عالمية هذه الرواية التي بدأت من جغرافيا ضيقة واتسعت لتتماس مع هموم إنسانية عالمية. الإيطالي جيوفاني بوكاشيو لم يقصر هو الآخر، وشهر سيفه الروائي حين وجد في الطاعون ما يشبع غليله الروائي، فالطاعون أيضاً هو لحمة وسداة رائعته “الديكاميرون” أو ألف ليلة وليلة الإيطالية، كما يحلو لكثير من الكتاب العرب أن يسموها. بدوره يرتقي بوكاشيو في الحكي عن الطاعون الحقيقي في سلسلة متتابعة من المستويات الرمزية التي يجري سردها خلال عشرة أيام؛ هي الزمن الروائي والزمن الواقعي في آن، وهي أيضاً الأيام العشرة الرهيبة التي حصد فيها الموت الأسود أرواح 25 مليوناً من الأوروبيين، أي ربع السكان في النصف الأول من القرن الرابع عشر. ما سيدفع بأبطال القصص إلى الهروب من “فلورنسا” إلى الريف، ليبعدوا عن أذهانهم ما عاشوه من أهوال، و”لينسوا” أو “يتسلوا” عن ذكرياتهم المؤلمة بروايتها. هكذا تولد 100 قصة تُروى خلال عشرة أيام على ألسنة سبع نساء وثلاثة رجال، في طقس من الخوف والشك الآتي في صيغة “حكي ماتع”.. الحكي القادر على إعادة التوازن للذات المرهقة والمتشظية والقادر في الآن نفسه على تجسيد كل ما تحمله وتحلم به هذه الذوات من أفكار وانتقادات تجاه قيم العصر، فضلاً عن مساءلة صميمية لمعتقدات الكنيسة بشكل خاص والدين بشكل عام وكل ما ثار في تلك المرحلة من جدل حول العلاقة الصراعية بين الفلسفة والدين أو العقل والإيمان، راسمة الصورة الحقيقية لتلك المرحلة بكل تفاصيلها ونزعاتها. وربما يكون نجيب محفوظ من أكثر الروائيين توظيفاً للأمراض والأوبئة في أعماله، حيث رصد تفشي أمراض بعينها كالسل والطاعون ليكسبها أبعاداً جديدة، (وليس في الأمر غرابة فمحفوظ من العالم الثالث أو النامي ومن الطبيعي أن يعكس الأديب العالمثالثي ما يجري حوله). ففي “الحرافيش”، مثلاً، نحن أمام طرح فانتازي لا ينقصه العمق الفلسفي الذي يضفيه محفوظ على واقعة تاريخية بعينها (انتشار الطاعون في القرن الثامن عشر الميلادي)، محولاً إياها إلى نوع من المحاكمة الفلسفية لفكرة العدل، فالإنسان أو الجنس البشري وهو هنا ممثل في بطل الرواية “عاشور الناجي” الذي نجا من الإصابة بالطاعون الحقيقي بعد فراره مع أسرته لا ينجو من الطاعون المجازي/ الظلم، لأنه يفشل في بناء مجتمع العدل، المجتمع الجديد على أنقاض المجتمع القديم الموبوء. وعندما يعود إلى الحي الذي كان يسكنه يجده خاوياً من البشر، وهنا يجد فرصته ونسله في إنشاء مدينة العدل أو مدينته الفاضلة لكن محاولاته لإشاعة العدل ورفع الظلم تذهب أدراج الرياح بمجرد أن تدب الحياة في الحي ويكتظ بالبشر. إذن نحن هنا أمام وباء آخر، وباء يشابه الطاعون في فتكه بالأرواح والأخلاق، وباء يريدنا محفوظ أن نتساءل من خلاله عن مدى إمكانية تطبيق فكرة “المدينة الفاضلة” على الأرض وفي الواقع. وهكذا يسرِّب لنا محفوظ عبر السرد أو الحكي فكرة عبثية الصراع وعبثية الأدوات، وهي ثيمة تكررت لديه في “أولاد حارتنا” أيضاً، التي عالجت الصراع بين المعرفة العلمية التجريبية ممثلة في (عرفة) والمعرفة الغيبية ممثلة في (الجبلاوي) وقد انتهت الرواية بموت الاثنين (بالطبع الاستنتاجات التي يمكن الحديث عنها هنا كثيرة، إذ أننا أمام رؤية فلسفية للحضارة والتمدن تفتح قوساً واسعاً على الجدل، لكن هذا ليس مكان الاستفاضة في تحليل الرواية) لكن هذا النوع من “التوظيف الفلسفي” للوباء يبدو أقل بطولة وأكثر هامشية في الجسد الفني لروايات أخرى، رغم أنه لا يخلو من بعد فلسفي، كما في رواية “خان الخليلي” حيث يموت البطل الشاب فجأة إثر إصابته بالسل الذي استشرى آنذاك، فتغيب بغيابه الشخصية المحورية في الرواية، وكأن محفوظ أراد القول إن المرض ومن ثم الموت يأتي فجأة فيهدم كل شيء، يخلط الأوراق، و”يخربش” كل المخططات، ويفتك بكل الأحلام، فالشاب الذي كان ممتلئاً بالحيوية والتفاؤل “قصف المرض عمره” وصنع له مصيراً تراجيدياً تاركاً عدداً من الأسئلة الشائكة معلقة في وجوهنا. الكوليرا.. نداء الحب في رائعة غابرييل ماركيز “الحب في زمن الكوليرا” يظهر الوباء كوحش يدمر كل ما يقع تحت يديه، هناك، في منطقة الكاريبي حيث تجري أحداث الرواية ينجز ماركيز في سردية ساحرة مطولة هجائية متعددة المستويات والأبعاد لذلك الواقع التعس والظروف القاسية التي تحيا فيها منطقة مهملة، مهمشة، تفترس أهلها الأمراض والأوبئة. وهكذا يصبح الوباء منصة إبداعية تستوعب مقولات الروائي الذي يدين الواقع بجرأة استثنائية، يشرّح العلاقات الاجتماعية والفكر التقليدي في المؤسسة الاجتماعية والدينية الرافضة للحب، ويسبر أغوار الشخصية الإنسانية في طيشها ونزقها وصرامتها وتبدلاتها العاطفية والنفسية. الغريب أن ماركيز بعد أن يقوِّل الكوليرا كل ما يريده، ويفصح عن كل ما يعذبه على المستوى الفكري والاجتماعي، يقرر أن يستخدم الكوليرا استخداماً غير عادي، واضعاً إياها في خدمة الحب. هكذا تبدو كوليرا ماركيز على النقيض من طاعون كامو؛ صديقة للحبيبين. إنها في المشهد الأخير ليست سوى كذبة صغيرة (غير بيضاء) يطلقها الحبيب الذي لا يريد لرحلته مع حبيبته على ظهر السفينة أن تنتهي، مشيعاً أن السفينة عليها وباء الكوليرا، فيتخلص من المسافرين الآخرين ويبقى مع حبيبته وحدهما لكن السلطات تصدق الكذبة وتتعامل مع السفينة باعتبارها “موبوءة” فلا يتاح لها الرسو إلا للتزود بالوقود. وفيما السفينة تروح وتجيء رافعة علم الوباء الأصفر يحتفل الماكر ماركيز بحصوله أخيراً على غايته؛ الجمع بين الحبيبين العجوزين اللذين يبدآن في رحلة حب أسطوري أذهلت تفاصيله كل من قرأ الرواية. أما عند الكاتبة الفرنسية من أصل مصري، أندريه شديد، فلا يتسع “اليوم السادس” إلا للانتصار على الكوليرا. والرواية التي حولها الراحل يوسف شاهين إلى تحفة سينمائية هي رواية الوباء بامتياز، وفيها وصف لتفاصيله وأعراضه، وما يعانيه مريض الكوليرا ومراحل المرض وآلامه وكيف يفتك بأرواح من يعيشون مع المريض قبل المريض نفسه. أما اليوم السادس فهو عتبة الطفل الصغير نحو الحياة، ومن المعلوم أن مريض الكوليرا إذا وصل إلى اليوم السادس ولم يمت يكون قد نجا من الموت. هذه الحقيقة هي أهم النقاط الاستنادية للرواية التي تحكي قصة طفل بعد تجاوز مرض الكوليرا الذي أصابه، حيث خبأته الجدة كي لا يحتجز في المعزل الصحي ويموت. هكذا ببلاغة شديدة، تقول لنا شديد درسها الروائي المتمثل في إن الحب بإمكانه هزيمة الكوليرا والانتصار عليها، وعلينا أن نفحص صدق هذه المقولة على أمراض حياتنا كلها (العضوية والنفسية والاجتماعية و...)، وإن ثبت أنها خطأ فلا يلومنَّ أحد إلا نفسه لأنه وقع في حبائل المحبة التي نصبتها لنا هذه المرأة الجميلة عن سابق إصرار وحب. ويلتفت غريب عسقلاني لكل هذا التراث “الكوليروي” (سواء صحَّ الاشتقاق أم لم يصح)، وهو يكتب روايته “أولاد مزيونة” التي يستثمر فيها الوباء ليقدم التغريبة الفلسطينية برؤية جديدة، واضعاً كل شيء في خدمة نصه: التاريخ والجغرافيا والسياسة والموروث والفلكلور وتفاصيل الصراع على الأرض والهوية والأحداث الدراماتيكية التي مرت بها الحالة الفلسطينية على امتداد قرن كامل. لكن حضور الوباء المأسوي في حياة الناس لا يرمز فقط لما عاشه الفلسطينيون من أحداث فجائعية وما واجهوه من مصائر غرائبية في رحلتهم الطويلة مع احتلال أرضهم، بل يعكس حالة مستمرة في التفشي. والوباء رغم قسوته لا يمنع المليحة مزيونة أن تتناسل عن سلالة عشاق ينشدون الحياة ويحترفون الحب، يموتون ويبعثون في أجسام جديدة.. بعد أن اجتاحت الكوليرا البلاد وحصدت؛ مع من حصدت؛ زوجها ومجيرها “مطلق” لتعود وحيدة مع ولدها حسن وطفلتها زانة، وتبدأ تغريبة جديدة يتجاور فيها السرد الواقعي والفانتازيا والتهويم المحمول على لغة شعرية تنبض بالرؤى والشفرات التي يكتنز بها هذا النص. وإذا كان وباء الكوليرا قد “اجتاح البلاد، وحصد الآدميين صغيرًا وكبيرًا، وعزيزًا وحقيرًا” فإن الوباء المرادف له أي الاحتلال “حطَّ وسكن فهجر الناس البيوت والقاعات والمشاغل والأسواق وتوزعوا في السوافي والكروم عند أعتاب البحر، فالوباء أخذ البركة وشل الحركة، وقصف الفروع عن الأصول، وترك العائلات مثل الأشجار بعد مرور عاصفة جائرة”. ويستذكر علاء الديب حالة مشابهة لهذه الحالة في روايته “زهر الليمون” على لسان الشيخ حسين الذي يستعيد رحلته المفعمة بالألم والمعاناة، وفقدانه زوجاته وأبناءه جميعاً في وباء الكوليرا، هنا، يسبر المؤلف غور الشخصية مصوراً وحدتها وسأمها وحزنها وما يحمله الفقد من مشاعر الألم والوحدة التي تفري الروح. وفي “دعاء الكروان” لطه حسين إدانة لكثير من مفردات الواقع الاجتماعي، وتحذير مما يمكن أن يحدث على مستوى الأخلاق والمجتمع من تفسخات وارتباكات في حال انتشار الأمراض والأوبئة. ومن الطريف أن الوباء هنا يستخدم لإخفاء الجريمة “جريمة قتل هنادي” التي ارتكبها الخال تحت دعوى “غسل العار” ووضعها في “ظهر الوبا” عندما سألته أخت هنادي عنها. الحمى.. براري الهزيمة وجد إبراهيم نصر اللـه ضالته الروائية في “القنفذة” وهي قرية صغيرة في المملكة العربية السعودية، لكي يبني من خلالها أحداث “براري الحمى” التي تدين التخلف والجهل والمرض وتنعى غياب الحقوق. هناك في الصحراء المعزولة القابعة في الحرمان والعزلة تتلقى سيولاً حقيقية تغرق السكان بالماء، وسيولاً مجازية متمثلة في الفقر والمرض والسل، لا مكان لغير الحمى/ الوباء الذي اختاره نصر اللـه لبناء تصوره الفلسفي حول المأزق الحضاري والإنساني واليومي الذي يعيشه الإنسان العربي بانياً في الوقت نفسه معماراً روائياً ذا سوية فنية عالية، بأقل قدر ممكن من الشعارية وأكثر ما يمكن من الحميمية الإنسانية. الحمى أيضاً كانت المتكأ التاريخي للروائي محمد سعيد الحبردي في روايته “حمى قفار”، وقفار هذه قرية في منطقة حائل السعودية حدث أن شهدت واقعة غريبة حيث مات جميع أهلها بسبب مرض قيل إنه الحمى، وصار يعرف لدى الناس بحمى قفار. وبين الحدث التاريخي والخيال المجنح يرسم الروائي مشهداً لا يخلو من سوريالية عن مرض لا يصيب إلا ذوي البشرة البيضاء فيما ينجو منه أصحاب البشرة السوداء، وعبر الحكي ولعبة السرد والقصص والحكايات التي تختلط فيها الحقيقة بالخيال تتبدى الكثير من القيم الاجتماعية والتفاصيل التاريخية ما يجعل الرواية بمثابة وثيقة حافلة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©