الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

السودان وحمى البحث عن الذهب

22 يونيو 2010 23:20
في أقصى شمال السودان، يهرع الكبار والصغار، والمتعلمون وغير المتعلمين، بحثاً عن بريق الذهب. وقد تجود رمال تلك الصحراء القاحلة المجدبة لبعض الساعين بشيء مما خبأته، بينما تجود أفاعيها وعقاربها للبعض الآخر بالسم الزعاف. ويأتي هؤلاء حاملين معهم المعاول والأدوات والجوالات الفارغة. ومعظمهم من الفقراء الذين لا يطمعون في أكثر من سبيكة ذهبية صغيرة تدرأ عنهم هجير الشمس، وتمنح حياتهم الضنكة بعضاً من بريق الأمل والرجاء في حياة أفضل. ويقضي هؤلاء نهارهم تخييما وزحفاً بين شبكة من الأنفاق الرملية التي لا تخلو من مجاورة الأفاعي والعقارب المتحفزة المتربصة. وفي آناء الليل قلما ينام الكثيرون هناك. فأصوات المولدات الكهربائية تواصل أزيزها بينما يستمر الحفارون في دق الأرض وشق بطنها بحثاً عن الذهب. من بين هؤلاء، التقينا محجوب الصادق، وهو خريج جامعي يحمل درجة البكالوريوس في العلوم، وقد جاء بحثاً عن حظه هنا في هذه المنطقة الصحراوية النائية في شمال السودان. حدثنا محجوب، فقال: "لقد جاء أحد أصدقائي بحثاً عن الذهب هنا، فعاد غانماً واستطاع أن يتزوج ويشتري له سيارة فارهة. واليوم جاء دوري لأعود غانماً مثله". ثم يستطرد محجوب قائلاً: "لقد قدمت لأكثر من 90 وظيفة منذ تخرجي في الجامعة، وحضرت ما يزيد على 30 مقابلة توظيف دون جدوى. فالحصول على وظيفة الآن أصبح رهناً بمدى علاقتك بمسؤول يفتح أمامك الطريق نحوها". وعندما غادر محجوب منزله لم يخبر ذويه ولا والدته بأنه قادم إلى هذه الأرض، حيث يموت الناس عطشاً وحراً أو بلدغة أفعى أو عقرب، حتى رن هاتفه فأجاب عليها طالباً عفوها عنه وهو جالس في مقعده في تلك الحافلة التي كانت تتجه به شمالاً نحو حقول الموت والذهب. يذكر أن نسبة تقدر بنحو 50 في المئة من خريجي الجامعات والمعاهد العليا السودانية، عاطلين عن العمل. ويتوقع لهذا الرقم أن يرتفع بسبب تأثيرات الأزمة المالية الاقتصادية العالمية. ولما لا يزال السودان بعيداً عن أن يصبح دولة للرعاية الاجتماعية التي تراعى فيها العدالة والتوازن في توزيع الثروات القومية واستغلالها لصالح غالبية المواطنين، فلا سبيل أمام المتعلمين وغير المتعلمين، المحتاجين وغير المحتاجين من المغامرين والطامعين في تكديس المزيد من الثروات لا أكثر، سوى المخاطرة هنا بحياتهم بحثاً عن الذهب. وقد بلغت هذه الحمى حداً لم تعد معه العائلات تقلق على اختفاء أحد أفرادها فجأة. فقد أصبح الجواب حاضراً عن السؤال: أين فلان؟ "إنه ساع وراء الذهب". ويعتقد أن ربع مساحة أراضي السودان غنية بالذهب. غير أن أشهر منطقتين اكتشفتا حتى الآن هما جنوب كردفان، خاصة المناطق القريبة من جبال النوبة في وسط السودان، وأراضي المحس في أقصى الشمال. وإلى هذه المنطقة، جاء محجوب الصادق برفقة ستة من أصدقائه. وعلى كل واحد من هؤلاء استئجار جهاز لكشف المعادن وخبير عارف بالمناطق التي توجد فيها سبائك الذهب. ويأمل كل واحد منهم في الحصول على المعدن النفيس الذي يقدر سعر الجرام الواحد منه بـ40 دولاراً، والأوقية بنحو 1230 دولاراً، حسب أسعار الذهب اليوم في الأسواق العالمية. ولكن ما أكثر المرات التي يعود فيها هؤلاء بخفي حنين. وبعد أن بدا وعد التنقيب عن الذهب، تواصلت مساعي التنقيب عنه وتعدينه منذ تسعينيات القرن الماضي. والنتيجة تحول الشمال كله إلى أرض منبسطة مستباحة لعشرات الآلاف من الأفراد الطامحين، والعمال الذين جلبوا معداتهم وآلياتهم الثقيلة لخدمة مصالح شركات صينية وهندية وتركية وغيرها. كما التقينا المزارع بابكر آدم، الذي تقع قريته قريباً من الموقع الذي يبحث فيه عن الذهب في منطقة المحس. قال يحدثنا: عندما يعثر المرء على الذهب، تصعب عليه مغادرة المكان والاكتفاء بما حصل عليه. فخلال شهرين كاملين أمضاهما في هذا المكان، لم يعثر إلا على أربعة جرامات فحسب، باعها لأحد السمسارين وبعث بفائدته منها إلى زوجته طالباً منها شراء حمار بذلك المبلغ المالي الزهيد.. ولكنه سحر الذهب الذي تصعب مقاومة إغراء بريقه. وهذا ما يشجع بابكر على الصبر واحتمال البقاء لمدة أطول، عسى أن يعثر على كميات أكبر فأكبر، يقتنص بها فرصة العمر التي لا تتكرر، كما يقول. والحقيقة أن في وسع الطمع المتفشي في الشمال أن يستحيل إلى وبال خطير. فقد قتل خمسة أشخاص على أقل تقدير، بمن فيهم أحد ضباط الشرطة، خلال اشتباكات وقعت في منطقة قبقابة، بعد أن اكتشف الأهالي منح الحكومة المركزية حقوق تنقيب حصرية لإحدى الشركات المغربية في منطقة يسود الاعتقاد بوجود كميات كبيرة من الذهب فيها. وخلال الشهور الستة عشر الماضية، توفي نحو 40 شخصاً تحت تأثير الحر والعطش، أو بسبب الشجارات والاشتباكات فيما بينهم أثناء التنقيب. وقد شاعت أخبار الوفيات هذه في منطقة الصحراء ووصلت حتى الخرطوم. غير أن الموت لا يطفئ بريق الذهب ولا تطلعات الطامحين للوصول إليه كما يقال. ومن بين هؤلاء محجوب صادق الذي بدا واثقاً من أنه سوف يعثر على مبتغاه ويعود غانماً ليحتفل بما حصد هنا في جوف رمال الصحراء هو وعائلته. وتستند هذه الثقة إلى وجود أصدقائه من حوله، وإلى جهاز الكشف عن الذهب الذي يستخدمونه. يعترف محجوب بأن المكان لا يطاق، ولكن لا أمل له سوى التكيف عليه واحتمال الظروف الصعبة المحيطة به. فلا خيار أمام الطامعين إلى الذهب سوى احتمال المعاناة. جيفري فلايشمان وأحمد السنوسي القاهرة وشمال السودان ينشر بترتيب خاص مع خدمة «إم. سي. تي. إنترناشونال»
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©