الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

محمد بنّيس في التجربة

محمد بنّيس في التجربة
10 أغسطس 2016 21:17
قاسم حداد 1 من المحتمل أن تكون المشاريع الثقافية الناجحة هي التي تأتي بمبادرات شخصية، تلك الشخصية الأدبية التي غالباً ما تكون في موقع القلب لرؤيةِ سياقٍ إبداعيٍ معين. 2 سوف يجري الحديث كثيراً عن تجربة محمد بنيس الشعرية، وعلى أهميتها في سؤال الشعر العربي المعاصر، يبقى لتجربة الفعل الثقافي، الذي حققه الشاعر، أهميةٌ تستكملُ قصيدتَه، وربما ضاهتها أحياناً. 3 وللصداقة دورٌ فعالٌ في تأسيس المشروع الثقافي الجديد وتكريسه، ومن ثم العمل على بلورته بالنهج الجماعي المنسجم. وفي تقديري فإن الصداقات المتنوعة، بعيدةَ المدى، التي تمكنَ بنيس من تحقيقها في محركات العمل الثقافي والأدبي، عربياً وعالمياً، أتاحتْ له وضعَ مشروعه في مهبِّ أكثرِ التطلعات حيوية. إن عنايتنا بهذا الجانب من تجربة محمد بنيس، هي بمثابة الاحتفاء بتجربة نوعية أصبحتْ، بشكلٍ ما، نموذجاً ممتازاً يَنظرُ إليه الكثيرون في المشهد الثقافي العربي، باحترامٍ وتقديرٍ كبيرين. وأزعم أن صداقتي الشخصية مع محمد بنيس، والموضوعية مع مشاريعه الرئيسية الثلاثة، قد صقلتا إدراكاتي لما أحبُ أن أسمّيه «المبدع العام»، كما أسهمتْ، هذه الصداقة، بدفع تجربتي في العمل الثقافي العام. وأرجو أن يكون التفاتي هنا لهذه التجربة اقتراحاً لتأمل تجاربنا في العمل الثقافي العام، لمقاومة المحو والتقويض الذين تتعرض لهما أدوار المبدعين العرب في إنشاء وصياغة عمل مؤسسات المجتمع المدني، وهي التجربة الأبرز لممارستنا حق الديمقراطية بشروطها الحضارية. 4 لقد علّمنا ذلك الدرس تفادي أمرين: الامتثال لشهوة الانسجام حدّ التشابه ورفض الاختلاف، لأن شرط تعدد الرؤى داخل المشروع الثقافي سيسهم في تعميق جوهره الديمقراطي ويجعله أطول عمراً وأكثر فعالية وأعمق تأثيراً. 5 الآن، سنسألُ. إلى أي حدّ تمكنتْ تجربة محمد بنيس، الذي اجتهدَ في المشاركة مع أكثر المناقشات العالمية حداثةً، منْ جعلِ موضوعات تلك النقاشات جزءاً من السجال الثقافي في الأفق العربي؟ ففي هذا إسهامٌ شبه مباشر في تقويض بنية الانسجام حدّ التكرار والتشابه الذي يعاني منه الصنيع الأدبي في مشهدنا العربي. 6 فمن التجربة، أن تعدد الدلالات في النص الأدبي الجديد، هو اقتراحٌ لجعل التعدد الفكري شرطاً لازماً في المشروع الثقافي الجديد، مما يفرض علينا تفادي النزوع الموروث في سلوكنا نحو إقامة التنظيم الجماعي على واحدية الفكر وقالبية النظر، وبالتالي الفساد المؤسسيّ. وظني أن تجربة بنيس، التي امتدتْ من النقد الأدبي/‏ الثقافي في مجلة «الثقافة الجديدة»، ثم النشر الإبداعي/‏ الفكري في «دار توبقال»، حتى النشاط الثقافي في «بيت الشعر»، هي تجربة اجتهدتْ بدرجةٍ واضحةٍ من الوعي الحضاري، دون أن يكون في هذا الاجتهاد حكمُ قيمةٍ مسبق على التجربة. وربما كان على الجيل اللاحق أن يتأمل ذلك، ويعمل على بلورة التجربة، بما يتناسب مع رؤيته وحساسيته المختلفتين، بضربٍ من الحوار النقدي المضاء بجناحي الموهبة والمعرفة. 7 وإذا صحَّ لنا النظر إلى تجربة محمد بنيس، في سياقها الثقافي الاجتماعي، وهو الممارِس النوعيّ في هذا الحقل، سأقترح مراجعة الصنيع الفعّال الذي أسهم به بنيس في الحراك الثقافي المغربي، ومحاولة التعرف على ذلك الجهد المتقارِب والمتباعد، متقاطعاً مع معرفية التجربة وتداوليتها الواقعية، لكي نقرأ ذلك الصنيع العميق باعتباره الوصف الظاهر لحركة الذات الثقافية في الموضوع الاجتماعي. وظني أن في مثل هذا المظهر تتضح لنا طبيعة الاحتدام المتواصل في علاقة محمد بنيس بالمعطيات الجوهرية لتجربته، فللعمق الذاتي، لكي لا أقول الشخصيّ، شأنًٌ بالغ الأهمية، في حيوية العمل الثقافي العربيّ العام. 8 لقد كان السعي العلمي الحثيث الذي انهمكَ بنيس في متطلباته، هو ما صار يتحول، مع العمل المتسائل، إلى ضربٍ فعالٍ من المعرفة، وهي معرفة تتطلب شرطاً حيوياً من التداول الفذّ، الذي من شأنه نقض التقليد الاجتماعي في حياتنا العربية، فنحن لا نزال كناية عن تراكمٍ معطىً لتراثٍ كثيفٍ من تقليدية النظر والعمل في آن. فإذن، ماذا كان يعمل محمد بنيس للطاقة المعرفية التي سعى وسَهِرَ على توفيرها وتشغيلها في مشروعه الثقافي عبرَ مجلة «الثقافة الجديدة» و«دارتوبقا» و«بيت الشعر»؟ وكيف تسنّى للواقع الثقافي العربي أن يقرأ هذه الطاقة ويشتغل بها؟ عندي، أنه ليس من الحكمةِ ارتجالُ المراجعات لتجربةٍ شاسعةٍ وعميقةٍ مثل هذه. 9 في مثل هذا السياق، سنصادف السؤال المتصل بمدى الانتقال المتبلور لدرس تلك التجربة الغنية إلى بيئة العمل اللاحقة، ليس تمثلاً بالأشخاص، ولكن وعياً معرفياً بالمؤسسات المستقلة ومشاريعها. وإذا تجاوزنا الانطباعات الشخصية وانفعالاتِها، يتحتم علينا امتلاكُ القدرة على التوصيف الحضاري لدور الذات، لئلا أقول الشخص، في علامات التجربة وتمثلاتها في المشهد اللاحق، وهذا ما يتطلب النظر إلى محمد بنيس ضمن ورشة المشاريع العاملة بلا هوادة. ولأن بنيس لم يصنع كل ذلك بمفرده، فإن الدرسَ لا يخصُّ السابقين وحدهم. وأحبُّ التأكيد على أن مسؤوليتنا الحضارية لا تنزع، أعني أتمنى أن لا تنزع، إلى تناول الدرس وقتل الأستاذ، وذلك صيانةً لمصادر تجربة الثقافة العربية، ومعطياتها، وآفاقها. -------------- نص الكلمة التي قدمت في حفل تكريم الشاعر المغربي محمد بنيس. منتدى أصيلة. 2016
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©