السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الفردوس المدنَّس

الفردوس المدنَّس
10 أغسطس 2016 20:52
إبراهيم الملا تفرض بعض الأحداث الراهنة في الولايات المتحدة، ظلالاً وأصداء على المشهد العالمي، اعتماداً على ما يمكن أن تفرزه هذه الأحداث من تحليلات وتنبؤات حول مصير دولة عظمى، تعمل بدأب كبير ومتواصل على صياغة ونسج خيوط اللعبة الجيوسياسية والاقتصادية المؤثرة على كل بلدان العالم تقريباً. وعندما نستعيد من أرشيف الذاكرة السينمائية فيلم (أناس أعرفهم - People I Know) من إنتاج عام 2002، فإننا نلاحق في الوقت نفسه آثاراً وظواهر استجدت مؤخراً في المجتمع الأميركي، ووضعته على حافة تساؤلات خطيرة تتعلّق بالعنصرية المقيتة وفوبيا الإرهاب، والتعصب العرقي وهشاشة النسيج الداخلي، وهي عناصر قابلة للانفجار في أي لحظة، ويمكن لها أن تصدّر مفاجآت مدوية وانتكاسات كبيرة في المدى المنظور لهذا الواقع، وفي المشهد الملموس لكل الاحتقانات والصدامات الضارية داخل الشارع الأميركي. تتكشف خيوط الشخصية الرئيسة في فيلم «أناس أعرفهم» من إخراج (دانييل إنغرانت)، من خلال محورين أساسيين: أولهما محور عمودي يبحث في المسار الكرونولوجي والذاتي لبطل الفيلم ــ إيلي وورمان ــ (يؤدي دوره الممثل العتيد آل باتشينو)، أما المحور الثاني فهو أفقي ويجوب كواليس السلطة الخفيّة والسياسات الداخلية الغامضة في مدينة نيويورك. قناع كوزموبوليتي يلجأ المخرج إلى العمل في أجواء هذه المدينة الصاخبة ثقافياً واقتصادياً، لكونها تمثّل بؤرة دالّة يمكن الرهان عليها لفضح المناخ الكوزموبوليتي بأقنعته الملونة والمبهرة، وما تخفيه هذه الأقنعة من أسرار داكنة ومريعة، وبما يؤسس أيضاً لظواهر خدّاعة على كامل الأرض الأميركية التي يمكن وصفها في سياق الفيلم بـ «الفردوس المدنّس»!. يركز الفيلم في تعاطيه مع الشخصية الرئيسة على الرغبة في الخلاص والتحرر من مشاعر الذنب الملتصقة بدواخل هذه الشخصية التي تصطدم مع حسّها التدميري العالي من خلال التعاطي المفرط للعقاقير النفسية والمخدرات، ومع حسّ آخر متوارٍ يتعلق بالرغبة في الهروب من مجتمع تحوّل إلى مرتع للوحوش الآدمية، على الرغم من الأناقة الخارجية الزائفة لسكانها من الطبقة البورجوازية. ينجح آل باتشينو في تجسيد وترجمة هذا التمزّق الداخلي، وفي امتصاص الصدمات الخارجية بهدوء وحذر وحياد كامل، فدوره كمناصر للأقليات، وكمناهض للتمييز العنصري ضد السود، سيضعه مباشرة في قلب اللعبة السياسية السوداء لصنّاع القرار، ولمحركي هذا القرار في الخفاء. أما مدينة نيويورك التي تمثل المحور الثاني في التأثير الطاغي على شخصية البطل، فتبدو وكأنها مدينة منذورة للمال والسلطة فقط، بحيث تصبح كل الأشكال الاجتماعية الأخرى في حكم القيمة المضافة والمهدرة لا أكثر، فالكل هنا منعزل، والكل هنا غريب، وأي صداقة بين شخصين تبدو كعلاقة عابرة ومتبخّرة لتحقيق مصالح ذاتية ومنافع أنانية. غابة متحضّرة يصوّر الفيلم مدينة نيويورك مثل غابة متحضّرة، تحركها قوانين غير معلنة، تقوم على الابتزاز والرشوة والفضائح والمتع المحرّمة والدسائس والتصفيات الجسدية، فالكل يخدع الكل، والكل مجهول بإزاء الآخر. ونكتشف أن الفيلم يعمل على الضد من عنوانه، وأنه مجرّد عنوان تهكمي وصارخ، فالناس الذين تعرفهم، هم في أقصى مكان يمكنك العثور فيه على حقيقتهم، تتجلى الفردانية هنا بكامل بشاعتها وقبحها كي تلغي أي أثر آخر للتواصل العاطفي والإنساني الشفاف مع الآخر. تبدأ لعبة ــ إيلي وورمان ــ الشائكة مع دهاليز السلطة الخفية عندما يشرع في ترتيب حملة تبرعات لمناصرة مجموعة من المهاجرين النيجيريين المقبوض عليهم استناداً على قوانين الهجرة التعسفية المعتمدة من حاكم مدينة نيويورك. من جهة أخرى، يتصدى إيلي وورمان لمهمة خاصة يكلفه بها صديقه الثري (كاري لونر)، يقوم بدوره الممثل ريان أونيل، وتتمثل المهمة في حمايته من فتاة استعراض شهيرة (توب موديل) تعرف الكثير عن أسرار لونر الشخصية، وذلك كي يتفرغ لحملته الانتخابية من دون عوائق ومنغصات قد تعرقل فرص فوزه في الانتخابات. ينجح إيلي في العثور على الفتاة، ويستعد لترحيلها على أول طائرة، وفي طريقهما للفندق تأخذه إلى أحد الأوكار المخصصة لتعاطي الأفيون، ويملكه أحد كبار الأثرياء اليهود في نيويورك، يكشف إيلي أن هذا الثري هو صديقه القديم ــ إليوت شارنسكي ــ يقوم بدوره الممثل ريتشارد جيف، والذي شاركه في العام 1960 حملة المناداة بالحقوق المدنية، تقوم الفتاة بأخذ الدليل المصور الذي تملكه، والذي يحتوي على فضائح قادرة على إطاحة رؤوس كبيرة في مدينة نيويورك، فتتحول تلقائياً إلى هدف مرصود، ولكن إيلي يضع الدليل في جيبه عرضاً ومن دون قصد، فيتم ملاحقة الفتاة إلى الفندق وتصفيتها جسدياً عن طريق جرعة زائدة من المخدّرات لإبعاد شبهة الجريمة عن مسرح الحادث، يرى إيلي ما يحصل أمام عينيه ولكن بسبب الأفيون والعقاقير المنومة يتحول المشهد إلى ما يشبه الحلم المختلط بكابوس، ولا يعود يتذكر شيئاً بعد استيقاظه. خيوط شائكة في النصف الثاني من زمن الفيلم، نرى إيلي وقد تحول بدوره إلى هدف وصيد ثمين، وتتم مطاردته ومحاولة قتله من قبل أناس كان يعتقد أنه يعرفهم، ولكن يكتشف نواياهم الحقيقية في الوقت الضائع تماماً، فصديقه القسيس الأسود بات يبحث عن مصالحه الشخصية بعيداً أي مبدأ اجتماعي أو ديني أو أخلاقي، كما يكتشف أن طبيبه الخاص، وكذلك صديقه الثري ليسا سوى عضوين مهمين في اللوبي اليهودي الذي يحرك جميع أحجار الشطرنج في اللعبة السياسية الشائكة داخل المدينة، فكلما كنت خفياً، وكلما استطعت التحكم في قوانين هذه اللعبة عن بعد، كلما كنت الأقوى والأكثر سيطرة وتأثيراً على الأحداث، ويكشف لنا الفيلم أيضاً عن القشرة الهشة للمجتمع الأميركي، وأنه عبارة عن فسيفساء عرقية مشروخة في العمق. وكانت اللقطة الختامية للفيلم موفقة إلى حد بعيد في وضع الحقيقة بكل مرارتها على طاولة التشريح السينمائي، خصوصاً عندما قلب المخرج المشهد الأخير في الفيلم رأساً على عقب، وحول ناطحات السحاب الشهيرة في نيويورك إلى شواهق إسمنتية مجوّفة ومعلقة في الهواء، بحيث اختصرت اللقطة فكرة الفيلم تماماً وبضربة واحدة، وجعلت مصير المدينة، ومصير أميركا بكاملها، مرهوناً بخطر لا يمكن توقعه، سواء أتى هذا الخطر من مصدر خارجي مجهول، أو من مصدر قريب ومعروف، ولكنه لا يظهر نواياه التخريبية، ولا يعلن عن رغبته في إشعال حرائق هائلة كانت خامدة ولزمن طويل تحت رماد منسي من الفساد المالي، والكراهية والتفرقة العنصرية. لسعة آل باتشينو فيلم (أناس أعرفهم) وإن كان يستقي توهجه من قوة الموضوع وتماسك الحبكة والسيناريو وسيطرته على مسار الأحداث الدرامية فيه، إلا أن حضور شخصية (آل باتشينو) بدا طاغياً على الفيلم، ولم يتأثر أداؤه بالاستحكامات القاسية للصدمة الذاتية، واكتشاف الخديعة الكبرى التي عاشها لزمن طويل. لقد أشاع بأدائه ما يمكن وصفه باللسعة الحاذقة التي يصعب نسيان طعمها التمثيلي، ولا إغفال أثرها الممتد والشاخص حتى بعد انتهاء العرض، يجمع آل باتشينو هنا بين المكر والخنوع، وبين التروّي والانفعال، وبين الصمت التعبيري والثرثرة الموظّفة لخدمة المشهد البصري بتفاصيله المكثفة والمكتنزة. ارتقى آل باتشينو في هذا الفيلم إلى ذروة التوهان والشرود والانهيار الداخلي، كتوصيف مرهق لحالة الشخصية المخذولة والمنتهكة حتى النخاع، في مقابل الاحتفاظ بالمقاومة الداخلية، ومعاقبة الظروف الشرسة بعدم الاستسلام لها. فيلموغرافيا اسم الفيلم: أناس أعرفهم - People I Know . إخراج: دانييل إنغرانت. تمثيل: آل باتشينو، كيم باسنجر، تيا ليوني، ريان اونيل، ريتشارد سكيف، بيل نن. سيناريو: المؤلف المسرحي جون روبن بيتز . إنتاج : 2002. موضوع الفيلم: كشف كواليس السلطة الخفيّة والسياسات الداخلية الغامضة في مدينة نيويورك.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©