الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

المجنون

المجنون
4 سبتمبر 2008 01:45
بمكان فقير وزمان مهمل التقى تعيس بشقية وأنجباه· ضحيا بـ (مدّ) ذرة ليحمل اسم عبد الرحيم ـ رحمة تمناها طفلا الطورية بيده والسلوكة بقدمه ولاهيا خلف غنم القرية ـ وفقدها كهلا نسي الناس اسمه ووسموه بالمجنون·· قاده فقره للمدينة، بجوفه بضع سور قصار ثمنها شهر أفناه بالخلوة· وحجاب بذراعه يحميه من الشياطين وبخلده تفاف فكي القرية يجنبه النفاثات في العقد وشر حاسد إذا حسد، رضع من ثدي أمه ـ مع اللبن ـ لا تلعب بالتنِدل فالشياطين يعيشون فيه· بالمدينة امتهن غسيل العربات وعيونه تغسل نعومة أصحابها·· ثم صبي ميكانيكي وكمساري يستلم بيمينه ليمين اكثر طراوة· وأخيرا سائق عربة أجرة لشاب اجتهد في ترقيعها· تزوج فاطمة ـ المفطومة من حنان الأبوين ـ تفاعلت تعاسته مع شقاوتها وأثمرت مشلولا، وأعمى وبالبطن قادم· يخرج بالعربة صباحاً ويعود مساء يتعب وبقع زيت وشحم وبقية بياض باهت يدعى جلابية، تفرغ فاطمة رهقها ـ المسمى غسيلا ـ فيها·· حدث أن أدار بعد جهد ماكينة العربة، تحسس ذراعه ـ كعادته ـ فلم يجد الحجاب·· خرجت هواجسه من خدرها متبرجة·· هبط وركض نحو الغرفة بذاكرة أشرعت عتمتها، بحث فوق السرير وتحته، نبش المرتبة، سأل فاطمة، أجابته بذهول أبكم تطلع نحو السقف وكأن الأسف غنيمته، دنا منها جس ذراعيها وعنقها·· جنيت يا راجل؟·· صدمته، زفر كبقرة ذبح وليدها أمامها· وعاد للعربة، أدار المذياع، التقطت أذنه صوتا فخيما تحاوره فتاة هيفاء، هكذا ينم صوتها·· الشياطين يعيشون بيننا، نراهم لو دققنا النظر ونعرفهم إذا أجدنا التمعن· وزاد الصوت الفخيم·· آنستي ان اكثر من نراهم في زحام المواصلات شياطين وانفعل في قهقهة مجنونة·· أقسم لك سيدتي لا تخلو عربة أجرة منهم·· توجس عبد الرحيم وأغلق المذياع قبل أذنيه والخوف بداخله تعملق، بطمأنينة قزمة رمى المذياع خارج العربة، ذهل الكمساري وهم بإعادته·· دعه بمكانه، زجره، والصوت ما زال يطن بأذنه، إنهم يتشحكون كما يريدون، رجالا ونساء، اطفال، ونساء جميلات مثلك، انساب نهر ضحكتها مجلوة كأنما غسلت للتو، ضحكة تعتقل سامعها وتغسل قلبه وتصوص بين أضلعه، لكن عقل عبر الرحيم ساعتئذ صم بكم قفل·· تحرك بالعربة قليلا، تراكض الناس نحوها· قال في سره، هؤلاء ليس بشرا، ماراجعين قالها الكمساري ـ كما أمره ـ رفع رجله عن دواسة الوقود، دنا منه كهل، أوجس خيفة وتهيأ لما يحدث· ما قلنا ما راجعين، قذفها على وجه الكهل· وهمهم، إنه منهم ولابد·· اقتربت فتاة وجهها ملطخ بألوان متنافرة، يا ابن العم، قبل إكمال جملتها أغلق نافذة العربة الزجابية ووثب كأرنب مرتاع لوسط العربة بعينين تشعان ببريق كلب عقور·· مسحت الفتاة اضطرابها بمنديل هواجسها، تبدلت عيناه فيهم، تسمرتا عند فتاة ببشرة بيضاء وقوام كقبلة مراهق وحواجب مثل بسمة تاجر جشع وأرداف ينشدها صغار الشعراء·· إنها منهم، ربما ابنة كبيرهم·· هبط من العربة بخدر ناعس، ضاقت عيون الكمساري اتساعا·· تقدم نحو الفتاة وخذت أنفاسه خدها·· بادلته النظرات باشمئزاز متشرنق·· سألها·· أنت منهم؟ جفلت صارخة المجنون تدخل شخص متهندم يفصل بينهما، نقل عبد الرحيم اهتمامه له·· في هذا الحر ترتدي ربطة عنق وبدلة؟ انت شيطان· رشح فمه رذاذا، توشحت يده بغبنه، وانقضت على عنق الرجل· وعرت سهلها، وسهلت هضابها، تدخل البعض ورمم فوضاها، وانسحبوا وبأفواههم قصة طازجة لمجنون جديد بالمدينة· عاد عبد الرحيم للعربة تفحص الكمساري·· لا يكل ولا يمل إنس أم جن؟ إنه شيطان· أجاب بحزم على سؤاله·· يا غفلتي شيطان يعمل معي؟·· خرج الكمساري مطرودا وملعونا ولاعنا·· أدار العربة قافلا للبيت، هبط منها، وماكينتها في الرمق الأخير·· شاهدته فاطمة فتبسملت وبجفنيها بحيرة دموع، اخترقها بشرر عينيه، أوقفهما على رجليها·· نحاف·· كيف تحملانها؟ تساءل· امتد لهيب عينيه للطفلين يمرحان· الثلاثة شياطين· هذا بيت مسكون· عاد كطلقة طائشة للعربة مسحها نظرا، في الخلف رقعة من الصين، وبالجانبين لمبات من تايوان والفلبين، ومن الأمام لمسات ألمان واليابان من ايطاليا واليابان· كل هذا يسير على عجلات سودانية وكراسي مغطاة بجوالات مهترئة هاها·· الشيطان هنا أيضا· تناول عصاه سهى عنها الكمساري وانهال ضربا فيها، هشم الزجاج والأبواب، أتى مالكها والكمساري دليله، رآهما رفع العصاة عالياً وهوى بها على رأسه، وهتف بيقين· كيف لشاب في العقد الثاني من العمر أن يمتلك عربة·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©