الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

قصائد مقبلة على الحياة

قصائد مقبلة على الحياة
4 سبتمبر 2008 01:42
لم تحظ شاعرة إماراتية باهتمام نقدي وإعلامي بقدر ما حظيت به الشاعرة والتشكيلية ميسون صقر القاسمي، فقد نالت قبل سنوات لقب الشاعرة العربية المتميزة بتكريم من المعهد العالي الدولي للأوبرا والشعر في مدينة فيرونا الايطالية بمناسبة اليوم العالمي للشعر، وغير ذلك فهي شاعرة مختلفة وجريئة بكل المقاييس اختارت طريق قصيدة النثر أسلوبا ومنهجا ليكون صوت ذاتها المتمردة على كل ما هو تقليدي، فكل قصيدة من قصائدها لها سيناريو بالغ التحديد والصفاء، هذا الى جانب التحولات الكبرى في جسد قصيدتها والانحناءات الحادة في مسار تجربتها بدءا من انتقالها من مرحلة الغنائية الشعرية التي نلحظ بعض تأثيراتها في أول ديوان شعري صدر العام 1982 بعنوان ''هكذا أسمي الأشياء'' و''الريهقان'' ،1995 ويتضمن قصائد: أشياء غير قابلة للتأويل، لون، في انتظار الصرخة الخافتة أحتضن خرافتي، أنسج الحب ثوبا، للملح الناضج من روحي، بيروت النزيف، توغلنا في غابة ما، اخترت منذ الآن وصولا الى قصيدة النثر وانفتاح أعمالها على عالم من الاحتمالات وإمكانات التأويل كما في قصائد ديوانها ''تشكيل الأذى'' ،1997 حيث التفاصيل اليومية والذكرى والوحدة والاغتراب وغيرها· وفي حوار سابق أجريته معها في العاصمة الأردنية عمان قالت حول تجربتها الشعرية: ''إن تجربتي الشعرية ليست شكلا واحدا محددا، فحتى تكون التجربة ناضجة وحقيقية، لا بد أن تكون قد احترقت بنار الحياة والخبرة ودخلت مجاهيلها أيضا، ومثلما أكتب الشعر المجرد أكتب شعر التفاصيل الكثيرة، وأتماشى مع الفلسفي والصوفي والمهمش والملموس الحي، حتى تصبح ذات الكتابة عميقة ومحملة بتنويعات قادرة على التعايش مع متناقضات العالم، أحاول دائما أن أجعل قصائدي مقبلة على الحياة برغم فداحتها وربما مرارتها وأحزانها، إنني أعيش الشعر واخلص له، لأنه لا يكتب إلا للناس والحياة قبل أن يكون للجماليات والاستعراض''· عناوين مشتعلة عناوين قصائد ميسون مشتعلة باللون والحرف والصورة، وثمة تيار واضح فيها ينتمي الى نموذج قصيدة التفاصيل التي تستفيد من مفهوم مسرحة العلاقات الداخلية واعتماد المشاهد كوحدات أساسية تنبني منها القصيدة بتحويل أشياء الواقع الصغيرة الى تفاصيل دالة تضيء مشهد العيش ومعنى التجربة الإنسانية على نحو جملة قصائدها في دواوين: جريان في مادة الجسد، البيت ،1992 السرد على هيئته ،1993 ومكان آخر ،1994 الآخر في عتمته ،1995 وحكايات آخر الليل· تنفرد القاسمي بثنائية بالغة الأهمية، فهي تجمع ما بين فضاء القصيدة، وفضاء اللوحة في توازن رقيق ما بين الكلمة والريشة، وهذه الثنائية التي أسهمت في تلوين قصائدها نقلتها الى محطات عربية كثيرة لكي تعرض لوحاتها، فقد أقامت أول معرض تشكيلي لها في الإمارات العام ،1990 ونقلته بعد ذلك الى القاهرة تحت عنوان ''خربشات على جدار التعاويذ والذكريات لامرأة خليجية مشدوهة باللون والحرف'' مزجت فيه الشعر بالتشكيل· وفي العام 1992 أقامت معرضها الثاني في القاهرة وتم نقله للإمارات تحت عنوان ''الوقوف على خرائب الرومانسية''، أما معرضها الثالث فأقامته في المركز الثقافي الملكي بعمان العام 1993 تحت عنوان ''السرد على هيئته''، في حين حمل معرضها الرابع عنوان ''الآخر في عتمته'' وأقامته في قاعة طاهر الحداد بتونس العام ·1998 وما يميز تجربتها التشكيلية هو قيامها على أنفاس شعرية فهي عندما ترسم تكتب شعرا وتصب ألوانها كلاما بطعم الألوان ودفء المعنى، وهذا ما جعل هذه الثنائية أشبه بالحوارية الدرامية ما بين الكلمة واللون حينما يجتمعان في فضاءات حلمها الجميل بعمل وانجاز فني متكامل لا يحمل مواصفات أي أحد إنها تكتب قصيدة بشكل الكتابة وبطعم الألوان، ولهذا كانت عناوينها الكبرى لقصائدها تحمل ظلال الفن التشكيلي الذي يكسب الحرف والكلمة الشعرية تلوينا وعمقا، كما يساعد على فتح الأفق أمام الصورة الشعرية التي بدت مؤثرة في قصيدتها أشياء غير قابلة للتأويل: ''قد تنغلق النوافذ، أنسجن في الخناجر ولا أجد متسعا من فرح أو رقعة فضاء قد تنسحب قدمي، يدي، عيني، فمي، وقد أنزوي كل يوم أكثر فأكثر ناحية الركن المعتم ولكن حين يتحول الألم الى دوائر من جحيم يكون لدينا متسع من الوقت ومساحة كي نغوص في داخلنا، وحين تضمحل فينا طواحين الهواء نبدأ بالرغبة في انتظار الصباح حين يبزغ وفي انتظار الحب الذي يربط الأشياء المتنافرة في مزيج متجانس ويؤنس أشياء غير القابلة للتحويل··''· تصور الحركات السابقة مشهد الصراع الداخلي بين الرغبة العارمة في العيش وتهديد الواقع، في حين تتوحد القصيدة على مستوى الرمز الذي يتطور مع كل حركة جديدة في القصيدة، حيث تلتحم مستويات متعددة في تشكيل الصورة الشعرية من المونولوج الداخلي ومزج الأشكال والمعاني للوصول الى نص مشع بالدلالات والإمكانات وثراء الخيال والالتزام بالإيقاع الداخلي· هناك لفتات ذكية وتنويعات من الحيوية في قصائد ميسون القاسمي، يمكن أن تكون تكييفا جديدا لعلاقة صوت القصيدة بالمتلقي، ومن ذلك قصيدتها بعنوان ''لون'' التي تقول فيها: ''لون صريح ممتد على مدى البصر يفاجئني أدخل فيه وأفاجئه لا يقاومني لكنه بطيئا بطيئا يبث لونه فيً هل سيتغير لوني سريعا هل سأظل متماسكة متمازجة؟ هل أعود لما كنت عليه أم أظل أشاكسه؟!''· الداخل والخارج إن ابرز ما في قصيدة ''لون'' تلك البؤرة المزدوجة التي توهمك بأنها تحدق في المشهد الخارجي، بينما هي غارقة في استبطان الذات، ولعل هذه الاستراتيجية في خطاب ميسون الشعري ما جعلها متفردة في جعل حدث الكلام منبئا عن حدث الأفعال في تطابق نثري متصاعد، لكن المقطع يشد وتره الغنائي عبر تقنية تكرار التساؤل التي تصنع الحركة الداخلية ما بين الشاعرة والآخرين وكيف تصنع لهم مناخا من لغة الحركة الرشيقة المحسوبة بدقة متناهية· ميسون شاعرة رقيقة ومثقفة بمواصفات إنسانية فهي تعي دورها حتما ورسالتها التي تتأكد من خلال خطاب إنساني عميق، حيث تجد نفسها معنية بـ ''أنسنة'' الأشياء والكائنات، ودراسة علاقة الإنسان بالكون والعالم، وما يحيط بها من حالات إنسانية وأحداث يومية مليئة بالأفكار وأفعال الإنسان وتحدياته في البحث عن العدل حتى لو كان مستحيلا، وفي تعبيرية بالغة الحساسية رصدت لنا مساحات مضيئة من الشعر الإنساني الذي يمتلك إيقاعات نفسية وموسيقية فريدة تشير الى معطيات الحياة بألوانها الحقيقية على نحو ما نجده في قصائد، مثل: ''يعلكني الوجع، الطيور تكاشفني، احتمالات الفشل، الغصة تسكنني، العصافير تحاصرني، ارتعد من خوف غامض، من شوق حامض، جنون سيأتي لا محالة''· كما أنها تكتب بذكاء ووعي جمالي حادين، نراهما في أحدث دواوينها ''أرملة قاطع طريق'' وهو الديوان العاشر لها، ويتضمن ستة أجزاء هي: آخر قطرة في الكأس، صندوق الميت تحت ظل خيمة، كان أبي، مائدة العشاء الأخير، بقوة الماضي، إدراك القيمة· فهنا تجد عالما شعريا قويا وصادما، فقاطع الطريق ليس مجرد لص يسلب الناس أموالهم، انه رجل قاسي القلب، يستنسخ من الموت صفاته وأساليبه ليحصد الأحلام وحرية الإنسان، إنها تكتب هنا بإحساس تراجيدي كبير، كما ترصد تشكل المأساة في إطار واقع المفرح المبكي عن طريق عنصر التشخيص أي خلق شخصيات في مجال الفن الشعري· إن المشاهد اليومية وتصوير الحالات النفسية منبع أثير لدى ميسون في العديد من قصائدها ومنها ''رجل مجنون لا يحبني'' من ديوانها القصيدة الأولى'' عام 2001: ''يا الذي أطعمني من خبز محبته بحثت عن مأوى قلت: أقتيله داخلك وانجي فهل نجوت الآن من عزلتي لعزلة تكسرت فيها لغتي''· كذلك قصيدة ''أسود وأبيض'' حيث تبدو تقنيات السرد والابتعاد بها عن شبهات الغنائية، وفيها تستغني بالحكاية عن توليد الاستعارات وأنواع المجاز الأخرى، وبالمقابل فان شعر ميسون القاسمي ينطوي على تماس حميم مع أحداث العصر ومعاناة الناس ومحاولة الاشتباك معها من خلال قصيدة تحمل رؤية لا ترهبها الأنماط السائدة·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©